بقلم: الدكتور محمد اشتاتو
وجد الريف نفسه غارقا، رغما عنه، في أَتُون انتفاضة سلمية منذ مقتل بائع السمك “محسن فكري” نهاية شهر اكتوبر 2016(1)، ولا يبدو أن ثمة مخرجا لهذا الوضع لغاية الآن. والأسوأ من ذلك، أن هناك هروبا إلى الأمام من طرف الحراك والحكومة على حد سواء: لقد هاجم ناصر الزفزافي(2)، أيقونة الحراك الشعبي بالريف، بشكل أخرق حرمة الدين الإسلامي في بلد محافظ جدا(3)، فيما عمدت الحكومة إلى اعتقاله رفقة مساعديه والمسؤولين حواليه.
ويبدو أن الاندفاع لدى كلا الطرفين، غلب إلى حد كبير على الحكمة والحس السليم، وبالتالي، فإن الفجوة مافتئت تزداد اتساعا، مع أن الحوار الهادئ والمسؤول كان بإمكانه حل النزاع، بعدما استجابت الحكومة ووعدت بتخصيص مبلغ ضخم يناهز مليار دولار، قصد تنمية المدينة والمناطق المحيطة بها وفك العزلة عنها. ويمكن القول بكل اختصار، أن هذا السخاء الحكومي السريع والمفاجئ لم يسبق أن حظيت به أي مدينة او جهة بالمغرب. وإذا ما تحقق هذا الوعد، فإنه سيكون لا محالة فرصة ثمينة بالنسبة للريف(4).
ومع ذلك، يجب القول بكل صراحة بأن الريف عانى في صمت منذ قرون. لقد عانى منذ بداية القرن المنصرم من نير استعمار غاشم، ومنذ الاستقلال سنة 1956 من ازدراء وحيف الدولة المركزية دون ان ننسى قسوة الطبيعة وهو ما تفصح عنه وجوه أبناء الريف الذين يعانون من الفقر والظلم.
المعوّقات الهيكلية:
لقد عانى الريف، كجهة وككيان ثقافي، منذ فترة طويلة من معوّقات شتى إن على المستوى الطبيعي او البشري:
المعوّق الجغرافي:
يمتد الريف، من الساحل الأطلسي شمال المغرب، ويتاخم بشواطئه الصخرية البحر الابيض المتوسط. ومن جهة الجنوب، ينحدر ببطء على شكل تلال منخفضة. ويبلغ علو جبل تيديغين حوالي 2456، وهي أعلى قمة جبلية بالريف. تتجزأ سلسلة جبال الريف إلى أودية عميقة، قصيرة وضيقة تحدّ منحدرات ضخمة متآكلة بفعل التعرية.
هذا النوع من التضاريس يجعل ممارسة النشاط الفلاحي أمرا مضنيا وصعبا، وهو ما جعل نسبة كبيرة من السكان يغادرون المنطقة للعيش في المدن الكبرى. وفي الجهة الغربية للريف، يتكون الغطاء النباتي من أشجار التنوب، والصنوبر، والارز. وإذا ما اتجهنا نحو الشرق، فإن السهوب الجافة والأدغال هي الغالبة.
الريف منطقة جبلية بالأساس، وتتميز بمنحدراتها الشديدة وهي بسبب ذلك أرض وعرة. وتحتوي على سهول قليلة، وغالبا ما تكون منحدراتها قوية جدا وتفوق 50 %. وتتميز التربة بضعف نفاذيتها للمياه وبحساسيتها الكبيرة للتعرية. ورغم أنها تحظى بتساقطات مهمة خلال السنوات الرطبة، إلا أنها جرداء وتفتقر للماء بشكل كبير. ويبقى الريف، في مجمله، عرضة لتعرية مدمرة ومتواصلة.
في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، تم اعتماد مشروع لوقف هذه التعرية، عرف بمشروع “التنمية الاقتصادية والقروية للريف الغربي” (5) (DERRO)، الذي بدأ سنة 1960 بغاية المحافظة على التربة من التعرية، من جهة وتحسين مستوى معيشة الفلاحين من جهة أخرى. وبعد عشرين سنة، أنجزت دراسة متأنية حول الأوساط الطبيعية والمجتمع المحلي وكذا النتائج المحققة من طرف مشروع الـ” DERRO”، بتاونات وفي واد الملاح، وخلصت إلى ان الأهداف الأولية للمشروع لم تتحقق و ولت بعيدة المنال(6). وكثرت الشائعات حول اختلاسات وتبديد أموال من طرف مسؤولين رسميين بالرباط.
المعوّق الثقافي
يُنظر إلى أبناء الريف في المخيال الشعبي، على أنهم يتحلون بالصدق والشهامة، وان أرباب الأسر منهم يقدرون المسؤولية حق قدرها، كما يتحلّى الأزواج منهم بخصال الوفاء. وقد اشتهروا باسم: “شلوح العزّ”، اي الأمازيغ الشجعان..
ومع ذلك، فإن النظرة النمطية تصوّر الريفي ككائن غير جدير بالثقة وغير وفي حيث يستطيع تغيير موقفه وحلفه بسرعة فائقة:
- الريفي غدّار وقاتل
- الريفي اجعله أمامك ولا تتركه وراءك (في إشارة إلى الغدر(
- الريفي سيغدر بك في أية لحظة
هذه الصور النمطية الغريبة حول الريفي هي نتاج لقتالية هذا الأخير وغلبة غريزة البقاء على قيد الحياة لديه، في بيئة جغرافية ميزتها القساوة والوعورة. إن وجهه المليء بالندوب يعطي الانطباع بأنه شخص شرير وغير جدير بالثقة وميال بطبعه للقتال والعنف.
وللمخزن يد كذلك في انتشار هذه الصورة النمطية المليئة بالحقد والضغينة. فقد عرفت مدينة الناظور، سنة 1984، انتفاضة عقب الزيادة في أسعار المواد الغذائية الاساسية، وعمدت الدولة حينها إلى قمع المحتجين بشكل دموي، وصبّ الراحل الحسن الثاني جام غضبه على ساكنة الريف من خلال نعتهم بالاوباش، ونصحهم بالهدوء لأنهم يعرفونه حق المعرفة عندما كان وليا للعهد (في إشارة إلى إشرافه شخصيا على قمع انتفاضة الريف خلال 1958-1959).
ونتيجة لهذه الانتفاضات المتكررة، أعلن الراحل الحسن الثاني الريف منطقة غير مرغوب فيها، وبهذا أضحى هذا الجزء من المغرب في طي النسيان وغياهبِه سواء بالنسبة للحكومة أو المؤسسة الملكية الشريفة. ولإخفاء هذه المقاربة والتعتيم عليها، عمد النظام القائم بشكل أخرق على استمالة بعض النخب المحلية، التي سرعان ما فقدت عذريتها ومصداقيتها لدى الشعب وأصبحت بذلك أبواقا لترديد صدى أسيادها في الرباط.
المعوّق الاقتصادي:
لم تكن الطبيعة الجغرافية للمنطقة يوما، ملائمة ورحيمة بالريف وأبنائه. ومن تم، كان النظام القبلي دائما، بتكوينه الانقسامي، شكلا من أشكال الدفاع عن النفس والاحتماء من الآخر، بل أيضا من المجهول الذي قد يكون عدوا خارجيا أو آفة طبيعية.
بالنسبة للباحث الأنثروبولوجي الامريكي كارلتون ستيفن كوون Carelton S. Coon ، الذي اشتغل على قبيلة كزناية خلال عشرينيات القرن المنصرم(7)، وتلميذه دافيد مونتغومري هارتDavid M. Hart ، الذي اهتم بقبيلة أيت ورياغل في خمسينيات القرن العشرين(8)– والذي ترجم عمله إلى العربية من طرف جمعية “صوت الديمقراطيين المغاربة-بهولندا “، وهي جمعية أمازيغية ريفية بهولاندا(9)– بالنسبة لهاذين الباحثين فإن الريف منطقة فريدة من نوعها على المستوى الانثربولوجي ومميزة بصفاتها المثيرة للدهشة من خلال القدرة على التحمل والوفاء والشجاعة.
الريف، منطقة فقيرة جدا، لذا ليس باستطاعتها ضمان عيش أهلها. خلال ثلاثينيات القرن الماضي، اضطر الريفيون إلى الهجرة موسميا بشكل جماعي نحو الجزائر الفرنسية(10) للعمل في الحقول الزراعية. وكانوا يسمون هذه العملية بـ “اشارق” (الهجرة إلى الشرق). وفي خمسينيات القرن العشرين، قطعوا هذه المرة البحر الأبيض المتوسط للذهاب إلى اوروبا، التي كانت تعرف حركة إعادة بناء واسعة عقب أهوال الحرب العالمية الثانية، وذلك بفضل سخاء مشروع مارشال الامريكي. وقد استقروا بشكل أساسي في هولندا وبلجيكا، ولكن أيضا في إسبانيا وفرنسا وألمانيا والدول الاسكندينافية. وبعد جهد جهيد وبفضل الأموال التي كسبوها هناك بعرق جبينهم شيدوا منازل جميلة بالاسمنت المسلح واستثمروا في عالم التجارة وقطاع العقار.
لكن الأوربيون أغلقوا حدودهم، في ثمانينيات القرن المنصرم، وعكف أبناء الريف على الدراسة والتحصيل على أمل تأمين لقمة عيش لأهاليهم. وبعد تخرجهم وحصولهم على الشواهد والدبلومات وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل، وعلى كراسي المقاهي جلسوا لوقت طويل يتطلعون إلى مستقبل أفضل، وفي ذات الوقت نظموا أنفسهم في إطار جمعيات للدفاع عن الثقافة الامازيغية وحقوق الانسان. ولم تمض إلا فترة قصيرة، حتى أضحت مدينة الحسيمة عاصمة مغربية لحقوق الانسان، ومهدا للتمرد والاحتجاجات المتأججة .
ولتهدئة الوضع، شرع المخزن في استمالة بعض النخب المحلية الباحثة عن الزعامة والنجومية، إلا ان هذه الأخيرة سرعان ما فقدت عذريتها السياسية ووجدت نفسها غير مرغوب فيها من طرف أبناء الريف إن لم نقل منبوذة إلى الأبد.
ولأهداف استعمارية، عمدت فرنسا، خلال فترة الحماية (1912-1956)، على تقسيم المغرب إلى مغرب نافع، مغرب السواحل والسهول الفلاحية والثروات المعدنية، والمغرب غير النافع، مغرب الجبال والصحاري. ويتوافق هذا التقسيم إلى حد كبير مع ثنائية أخرى قديمة وهي: بلاد المخزن ( الأراضي التي كانت خاضعة للمخزن) وبلاد السيبة ( بلاد يسود فيها العصيان او بالأحرى المناطق الفقيرة التي يسكنها الامازيغ) وهو المجال الذي تمتنع فيه القبائل عن دفع الضرائب للسلطة المركزية بسبب الفقر أساسا.
واستمر هذا التقسيم بعد الاستقلال، ويمكننا اليوم التفريق بين مغربين، بسرعتين مختلفتين: مغرب المثلث الذهبي ومغرب مثلث اليأس. ويمتد مغرب المثلث الذهبي من العيون إلى طنجة وفاس، وكل ما يوجد خارج هذا الفضاء ينتمي إلى عالم اليأس، وهو في غالبيته عالم امازيغي، يفتقد إلى الموارد وتنعدم فيه البنيات التحتية.
ومنذ استقلال المغرب، خصصت الحكومات كل الاستثمارات، بشكل غير موفق وغير متوازن، لصالح المثلث الذهبي مما ساهم في توفير فرص عديدة للشغل وخلق مزيد من الثروة. وبالمقابل بقي الشباب العاطل، خارج هذا المثلث الذهبي، يائسا يعاني من “الحكرة” (الإذلال) ويشكي حاله لكل من يهمه الامر.
المعوّق التاريخي
لم يولِ المخزن، على مر التاريخ، أي اهتمام بالريف إلا لإجباره على أداء الضرائب، ولو اقتضى الأمر تنظيم “الحركات” من خلال إرسال “محلة” لمعاقبة السكان ونهب ما لديهم من ثروات قليلة.
بعد معركة تطوان سنة 1860، التي انهزم فيها المغرب، أجبرت اسبانيا هذا الأخير على أداء غرامة باهظة وتعويض ما خسرته في الحرب، وبعد أن تحققت من ضعفه العسكري وتقادم ترسانة أسلحته فكرت في استعمار الريف. وهكذا، عمدت اسبانيا سنة 1880 إلى إغراق المنطقة الشمالية للمملكة بكمية كبيرة من الأسلحة المختلفة الأحجام مع ما رافق ذلك من ذخيرة وفيرة. وهو ما مكن القبائل الريفية من تسليح نفسها بكل أريحية وبدون قيود، وهنا بدأ الحديث عن ما سمي بـ “rifublik” (جمهورية الريف)، وهو ما يعني ان قبائل الشمال أضحت متحررة ولم تعد مرتبطة سياسيا وعسكريا بالمخزن. واستمرت هذه الفترة المتسمة بالتمرد واللصوصية وكثرة قطاع الطرق، إلى حدود 1920 مع وصول محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي حظر حمل السلاح ولم يسمح بذلك إلا لأجل الجهاد في الحرب المقدسة.
استطاع بن عبد الكريم الخطابي (1882-1963)(11)، سنة 1921، أن يوحد قبائل الريف، ويؤسس بذلك جمهورية الريف المشهورة وعبّر عن عزمه في طرد المحتل الاسباني من المنطقة. وسرعان ما قرن قوله بالفعل، حيث تمكن بفضل حرب العصابات، التي يعتبر مبتكرها، من إذلال جيش قوة استعمارية في حجم اسبانيا في ملحمتي أنوال وظهار اوبرّان. كانت هذه الانتصارات العسكرية عاملا محفزا لابن عبد الكريم الخطابي، وهو ما شجعه على الهجوم على الجيش الفرنسي جنوب الريف. وبعد تحقيق بعض الانتصارات، بدأت شهية الأمير(12) تقلق فرنسا وتشكل مثار انزعاج لها مما دفعها إلى شن حرب عليه في الميدان.
وبعد النجاحات التي توج بها بن عبد الكريم والانتصارات العسكرية التي احرزها، طلب من السلطان مولاي يوسف أن يلتحق به لدعم قضيته. إلا ان هذا الأخير، وتحت ضغط الإقامة العامة الفرنسية، رفض محاربة القوى الاستعمارية. ومنذ ذلك الحين، اعتبر بن عبد الكريم ان السلطان غير شرعي، فأعلن نفسه أميرا للمؤمنين، كما عبّر عن ذلك الجنرال ليوطي(13):
“يعتبر عبد الكريم بصريح العبارة، سلطان المغرب الوحيد و الأوحد منذ عبد العزيز، ما دام عبد الحفيظ قد باع البلاد لفرنسا بموجب معاهدة الحماية، ولأن مولاي يوسف ليس إلا دمية في يديّ”(14).
إبداء من سنة 1925، خاض بن عبد الكريم حربا ضد القوات الفرنسية، المكونة من200.000 رجل بقيادة المارشال بيتان Pétain، وجيشا أسبانيا قوامه 300.000 رجل تحت قيادة الجنرال بريمو دي ريفيرا Primo De Riveria، أي ما مجموعه 500.000 جندي(15)، شرعوا في شن عمليات حربية ضد جمهورية الريف. واستمرت المعركة الطاحنة لمدة سنة وانتهت بانتصار الجيوش الفرنسية والاسبانية على قوات بن عبد الكريم.
وخلال سبعينيات القرن المنصرم (ق.20)، قام وفد عن المركزية الفلسطينية “فتح” بزيارة للجنرال الفيتنامي “Vo Nguyen Giap” فو نغوين غياب” (1911-2013)، بطل حرب الفيتنام، لالتماس بعض النصائح حول الجانب العسكري للثورة الفلسطينية. وبمزيج من السخرية، أخبرهم بان التقنية العسكرية التي استخدمتها قواته ضد الجيش الامريكي القوي عدّة وعددا، استلهموها من منطقتهم بشمال المغرب تحديدا. وهي بكل اختصار، تلك التي اعتمدها بن عبد الكريم في حربه (1921-1926) ضد القوات الاستعمارية الاسبانية والفرنسية، وهي نموذج لكل بلدان العالم في مقاومتها وحربها ضد الاستعمار.
لا يعقل أن يكون هذا البطل، الذي يعد أيقونة بالنسبة للعالم الثالث ونموذجا يُحتدى به في مقاومة الاستعمار، عرضة للتجاهل في المغرب. فباستثناء بعض الأزقة والشوارع والثانويات، التي تحمل اسم بن عبد الكريم الخطابي، فإن هذه الشخصية التاريخية العالمية غائبة تماما في المقررات الدراسية. والأسوأ من ذلك، هو ان ذكرى ملحمتي أنوال وظهار أوبرّان ليس لها مكان ضمن لائحة الذكريات المُحتفى بها من طرف الدولة المغربية.
عندما نطرح اليوم على تلاميذ المؤسسات الثانوية المغربية سؤال: من هو بن عبد الكريم الخطابي؟ فإن العديد منهم يشيرون إلى أسماء الأزقة والمؤسسات التعليمية، بسبب التجاهل الرسمي لهذا البطل العظيم، وهو ما يعتبره أبناء الريف بمثابة انتقام للمخزن من هذه المنطقة التي اختارت السير وراء بن عبد الكريم ومجاراته في المس الخطير بالمملكة العلوية من خلال اعلان “الجمهورية داخل الملكية”.
الريف: فزّاعة النظام المغربي
لم تكن الانتفاضة المسلحة بالريف خلال سنتي 1958-1959 في الحقيقة موجهة ضد الملكية، بل ضد حزب الاستقلال، الذي كان يطمح إلى الاستحواذ على السلطة وإقامة نظام الحزب الواحد، كما هو الشأن في العديد من الدول العربية. وكانت هذه الأحداث بالنسبة للحسن الثاني، ولي العهد آنذاك، الذي كان حريصا على ان يصبح ملكا بدلا من الملك محمد الخامس، فرصة ذهبية لتأكيد سلطته السياسية والعسكرية والتخلص في آن واحد من الريف المتمرد والاستقلال الغاصب. وعمد مولاي الحسن إلى سحق الريف عسكريا، ضدّا على رأي والده محمد الخامس الذي كان ميّالا للحوار السياسي والوساطة الاجتماعية.
ففي أواخر يناير 1959، تم قمع الانتفاضة بواسطة قوة عسكرية قوامها 30 الف جندي تحت قيادة ولي العهد مولاي الحسن وإشراف من الجنرال اوفقير. وبعد القضاء على الانتفاضة، تم إخضاع الريف لنظام عسكرة استمر لعدة سنوات، ومن الآثار الوخيمة والمدمرة لهذه الانتفاضة، الإهمال الكامل والتهميش المتعمد للمنطقة من طرف السلطات المغربية على مدى العقود اللاحقة.
وسيزداد هذا التهميش أكثر، بعد الانتفاضة الشعبية سنة 1984، التي تم قمعها بدورها بقوة النار والحديد، لان الريف بالنسبة للحسن الثاني، مافتئ مسلحا وفي وضع عصيان دائم ضد النظام الملكي والدولة.
وبعد توليه العرش سنة 1999، قام محمد السادس في بادرة طيبة بعملية مصالحة مع الريف، من خلال زيارات متكررة إلى الحسيمة والناظور وتدشين العديد من المشاريع المهيكلة، التي لم تكن رغم حجمها كافية لتلبية حاجيات الساكنة. إلا ان النوايا الحسنة للملك محمد السادس في تنمية الريف، تم تقويضها بسبب البطء والبيروقراطية الإدارية وفساد المنتخبين وسوء اختيار النخب المحلية.
النقطة التي أفاضت الكأس
يعتبر الزلزال الذي عرفه المغرب عقب مقتل محسن فكري، يوم 28 اكتوبر 2016، بكل تأكيد حدثا خطيرا ومفارقا بالنسبة لمستقبل المغرب(16). إن السياق يحتم على الحكام والطبقة السياسية، ان يستخلصوا ما يمكن استخلاصه من دروس ضرورية عقب هذا الحادث، وذلك لاستشراف المستقبل، الذي يبدو غامضا ويجب الاعتراف بان خطرا محدقا يتهدد “الاستثناء المغربي” إن لم نقل المغرب نفسه.
إن حراك الريف هو تكثيف للسخط المغربي عموما. إن أحداث الحسيمة هي الربيع المغربي في طور التكوين والمخاض. لقد كشف هذا الحراك الشعبي مدى هشاشة وضع الامازيغ وواقع الحياة السياسية في المغرب. لقد تم استمالة كل الأحزاب السياسية وتدجينها، وأضحت بالتالي فاقدة لعذريتها تجاه الشعب الذي غدا بمثابة المعارضة المشروعة، لان الطبيعة لا تقبل الفراغ، مما دفعه إلى النزول إلى الشارع للدفاع عن مصالحه والتعبير عن سخطه وسوء أحواله.
إن حراك الريف سلمي ومشروع، ومن ثم فإن الدولة مطالبة بضرورة الإصغاء والحوار والبحث عن الوساطات والتفاعل معه وقطع الطريق أمام الداعين إلى المقاربات الأمنية الذين يرغبون في شيطنة الحراك والزج بالمغرب في وضع من الغموض وعدم الاستقرار. إن المغرب بلد الحوار والوسطية، إلا انه يمر اليوم بوضعية صعبة مما يستدعي، كما في الماضي، تدخل المؤسسة الملكية لكي يستعيد عافيته وقوته.
يمكن ان نميز اليوم في المغرب، بين فئتين متمايزتين: طبقة حاكمة مكونة من السياسيين والصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال والمستفيدين من الريع والبرجوازية,إلخ. وهم أغنياء يذكروننا بثراء قارون، وهناك من جهة أخرى باقي الشعب الذي يضم الموظفين الذين يئنون تحت وطأة الديون والمعدمين الذين يجدون صعوبة في تدبير قوت يومهم. وللتذكير، فإن الطبقة المتوسطة، التي تلعب دور “صمام أمان” وضمان استقرار المجتمع والتوازن بين الفقراء والاغناء، قد اختفت وتم تدميرها منذ أمد طويل.
حزب العدالة والتنمية، مسكن “الباراسيتامول” الذي لم يعد يهدئ الآلام
في سنة 2011، إبّان فورة “الربيع الديمقراطي”، اقترح الملك، الذي لعب دور رجل إطفاء جيد ومخلص، على الشعب المغربي دستورا كمحطة للانتقال نحو ملكية دستورية في المستقبل. وقد فتح هذا الدستور الباب أمام وصول الإسلاميين إلى السلطة، واستُقبل هذا الحدث أنذاك بحفاوة كبيرة.
وخلال خمس سنوات، من 2011 إلى 2016، عمد الإسلاميون، كدواء “البارسيتامول” المسكّن، إلى تهدئة مختلف آلام المجتمع المغربي دون النجاح قطّ في تشخيص الداء. ولتبرير إخفاقهم في علاج المشاكل الكبرى وأمراض البلاد، وعند اقتراب استحقاقات اكتوبر 2016 التشريعية، أثاروا مفهوم “التحكم” الذي يعني بكل وضوح، أن القرارات الرئيسية تبقى في يد حكومة الظل (حاشية الملك) حتى لا نقول في يد الملك.
ويريد الإسلاميون، من خلال الدفع بهذه المبررات، الإفلات والتهرب من ردود فعل الجماهير وغضبها. صحيح ان بعض القرارات يمكن ان تتأثر بمحيط الملك، إلا ان ذلك يبقى محدودا ولا يصل إلى مستوى ما يروج له الاسلاميون. والغريب في الامر، هو أن هؤلاء أعيد انتخابهم مرة أخرى وبعدد مقاعد برلمانية أكبر من ذي قبل، لكن بقوة سياسية أقل مستندين على أجندة دينية بحتة تفتقر إلى البعد الاقتصادي.
أكبر معضلة تقض مضجع الشعب هي البطالة والحكرة
قدم حزب العدالة والتنمية وباقي الأحزاب السياسية، خلال حملاتهم الانتخابية العديدة، وعودا كاذبة وفارغة بتوفير فرص الشغل لبسطاء الناس تضمن لهم كرامتهم في عيش كريم. وغالبا ما تقطع الاحزاب السياسية على نفسها وعودا دون الاستناد إلى دراسات علمية مسبقة. ويتضح ان الاحزاب السياسية المغربية لا تمتلك أية برامج اقتصادية او ما شابه ذلك، وليس في استطاعتها بأي حال من الأحوال خلق فرص الشغل التي يتطلع إليها الشعب للبقاء على قيد الحياة ضمن نظام ليبرالي متوحش وغير إنساني. إنها تمتلك متنا أدبيا سياسيا تقوم بتحيينه كلما اقترب موعد الاستحقاقات الانتخابية وهو ما يفسر فشلها الشعبي الذريع.
منذ سنين خلت، أصيب الشعب بخيبة أمل كبيرة جراء أداء الاحزاب السياسية، وهو ما جعله ينفر من المشاركة في الانتخابات: سجلت نسبة المقاطعة في الاستحقاقات التشريعية ليوم 7 اكتوبر 2016، 57 في المائة من مجموع المواطنين المؤهلين للتصويت. ومع ذلك، فإن الامتناع عن التصويت لن يساعد بأي شكل من الأشكال في تلبية المطالب الأبدية للشعب المغربي الذي يعاني في صمت من “الحكرة”.
ما العمل؟
إذا كان الحراك، حركية احتجاجية اجتماعية واقتصادية، للدفاع عن ملف بقائمة تتضمن مطالب خاصة بمنطقة امازيغية عانت من قهر التهميش السياسي والاقتصادي، فإنه كذلك، يشكل قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت مما قد يتسبب في زعزعة استقرار المغرب، إن لم تكن المنطقة كلها.
إن أبناء الريف وحدويون وليسوا انفصاليين. إنهم يفتخرون بمغربيتهم. لقد هُزم المستعمر الاسباني من طرف قبيلة أيت ورياغل بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وذلك من أجل الشموخ المغربي، كما هزمت قبيلة كزناية فرنسا في “مثلث الموت” في اكتوبر 1955، من اجل استقلال المغرب.
ورغم كل هذه الانجازات البطولية، فإن النظام المغربي عمد للأسف الكبير إلى نسيان الريف وتهميشه، لربما لأن هذا الأخير تسبب في جرح كبرياء وأنفة الحسن الثاني لدرجة أفقدته الوعي بأنه ملك لكل المغاربة قبل ان يكون الحسن بن محمد المواطن.
ولتفادي انفجار شامل للأوضاع ودرءا للتداعيات الخطيرة المحتملة لحراك الحسيمة، فإن الضرورة تحتم القيام على وجه السرعة بما يلي:
على الأمد القصير:
- تدخل ملكي.
- الحوار الشامل والمتعدد الجوانب مع الحراك.
- وضع مخطط استعجالي لإنعاش الريف (شبيه بمشروع مارشال).
- إنشاء مركز تفكير يضم باحثين ومثقفين من الريف قصد القيام بدراسات حول المنطقة (علم الاجتماع، الانتروبولوجيا، التاريخ، العادات التقاليد..إلخ) التي أسيء فهمها من طرف الحكومة المركزية.
- خلق مؤسسات جامعية بالحسيمة والناظور.
- استعادة رفات محمد بن عبد الكريم الخطابي من القاهرة وتخصيص جنازة رسمية له مع إدراج ملحمته في المقررات الدراسية.
- الاحتفال سنويا بملحمتي أنوال وظهار اوبرّان.
على الأمد الطويل:
- خلق “أقاليم جبلية” في المناطق الجبلية للبلاد، بميزانيات خاصة، قصد تحقيق تنمية جهوية عادلة.
- إحداث مركز بحث حول التنمية بالمغرب العميق.
- التعريف بالمغرب العميق.
- تبني نظام فيدرالي ديناميكي عوض جهوية ثابتة يطبعها الجمود.
المراجع:
[1] http://article19.ma/accueil/archives/52392
[2] http://www.lemonde.fr/afrique/article/2017/04/28/nasser-zefzafi-l-insurge-du-rif-marocain_5119611_3212.html
[5] مشروع “الديرو” هو مشروع لتنمية الريف الغربي. تم إطلاقه بكل أنحاء الريف الغربي وهمّ بالخصوص “طهر السوق”، بمساهمة دولية وخاصة من طرف اوربا (فرنسا وبلجيكا و السويد…) وحدّدت له أهداف اساسية منها:- وقاية الريف الغربي من الفيضانات المتكررة لواد ورغة وروافده.
- تنمية الريف اجتماعيا من خلال تشجير أراضيه وحماية جنباته من مختلف أنواع التعرية.
- عملية الارشاد الفلاحي من خلال تنظيم الفلاحين الصغار في تعاونيات للتشجير على الخصوص، وتوعيتهم بمحاسن المستجدات في مجال الابحاث الزراعية واستخدام الاسمدة.
[6] Yazami-Stait, M. 1988. Le DERRO vingt-cinq ans après: milieux naturels et aménagement à Taounate (1960-1985).420 pages.
[7] Coon, C. S. 1931. Tribes of the Rif. Cambridge, MA: Harvard African Studies.
[8] Hart, David M. 1976 The Aith Waryaghar of the Moroccan Rif: An Ethnography and History. (Viking Fund Publications in Anthropology No. 55). Tucson: University of Arizona Press, for Wenner-Gren Foundation for Anthropological Research.
[9] Hart, D. M. 2007. Aith waryaghar, Qabila mena Rif al-Maghribi: Dirasa ithnoghrafiya wa Tarikhiya. Den Haag: Stem van Marokkaans Democraten-Nederland. Volume 1 et 2. Traduit: M. Ouniba, A.Azouzi et A. Rais
[10] Mouliéras, A. 1895. Le Maroc Inconnu. Première partie : Exploration du Rif. Paris : Librairie Coloniale et Africaine.
[11] Dumas, P. 1927. Abd-el-krim. Toulouse : Éditions du bon plaisir.
[12] Charqi, M. 2003. My. Mohamed Abdelkrim El Khattabi, L’Emir Guerillero Sale, Morocco : Imp Beni Snassen. ISBN 13: 9789981957725
[13] Rapport de décembre 1924 au président Édouard Herriot.
[14] Maria Rosa de Madariaga, 2009. Abdelkrim El-Khattabi, La lutte pour l’indépendance. Madrid : Éd. Alianza Editorial,
[15] Laroui, A. 1982. L’histoire du Maghreb: Un essai de synthèse, François Maspero, 1982, p. 326.
[16] http://www.yourmiddleeast.com/opinion/a-fish-vendors-death-almost-triggered-a-moroccan-spring_43922