ارتبط المشروع الاستعماري الاوربي منذ بداياته بنظرة دونية للأخر، واقيم على اساس التفوق البشري “النوعي” للأوربي، و”تخلف” وانحطاط كل من ليس اوربيا، ولذا تم تبرير عمليات احتلال مناطق شاسعة من بلدان العالم الثالث بدعوى تمدين شعوبها المتأخرة والسعي الى الانتقال بها الى مستوى النموذج الحضاري حسب مقاييس وانماط الحكم الاوربية. هكذا تميزت هذه النظرة الاوربية للآخر بعنصرية واضحة لم يكن اصحابها يخجلون من الجهر بها في اعلامهم وكتاباتهم ومواقفهم، حصل هذا في الماضي ولا يزال مستمرا في الوقت الحالي رغم ان الاوربيين يدعون بناءهم لصرح الثقافة الانسانية الداعية الى الاخوة والمساواة والعدالة واحترام حقوق الانسان.
وما يستدعي الانتباه انه بعد استقلال بلدان من العالم الثالث، برزت نظريات انتروبولوجية حاولت ان تنصف نسبيا ثقافة هذا العالم “المتأخر”، لكن هذه النظريات الانتروبولوجية ترى هذه البلدان وكأنها اشبه بفضاءات غرائبية وبكائنات عجائبية يمكن للأوربي ان يستمتع بها في عطله واجازاته، وتنشط مخيلته بكل مظاهر الفولكلور والصور الاغرابية اضافة الى اعتبار هذه البلدان مصدرا للقوى العاملة للقيام بأعمال وضيعة اصبح العامل الاوربي يتعالى عليها بسبب فائض القيمة الذي ينتجه النظام الرأسمالي.
لكن جلب هذه اليد العاملة الى اوربا ولد مشاكل اجتماعية وسياسية وثقافية لا حصر لها خصوصا وان فئات عريضة داخل هذه القوى العاملة باختلاف بلدانها وثقافاتها فضلت البقاء في البلد المضيف وتربى ابناءها داخل مؤسساته التعليمية.
ان وجود هذه الفئات العاملة داخل النسيج الاقتصادي والاجتماعي الاوربي خلق ردود افعال متباينة وتحول الى موضوع للمزايدات والمساومات الانتخابية ضمن رهانات ” الديموقراطية” الاوربية وهكذا علت اصوات تقول بضرورة ادماجهم قانونيا وثقافيا في المجتمع الاوربي وتسوية وضعيتهم و”تطبيعهم ” ومنحهم الشروط القانونية للمواطنة غير انه بالمقابل برزت هيئات وقوى سياسية واجتماعية تطالب بطرد المهاجرين وابعاد كل ما هو اجنبي وغريب عن الجماعة الوطنية والحفاظ على مقومات ونقاء الهوية القومية للأوربي والضغط على المهاجرين للرجوع الى بلدانهم الاصلية.
هذا الصراع في الآراء والمواقف ترتب عنه ظهور نزعات عنصرية جديدة تعبر عن نفسها في شكل خطابات ومواقف سياسية كما انها تترجم احيانا في صورة سلوكات عدوانية تستهدف ترهيب المهاجرين وحتهم بالعنف على الهجرة مجددا.
لاحظ الاستاذ فيكتور بورغنيو ان البلدان الاوربية التي تستقبل جماعات اجنبية تشهد كلها تصاعد هذه العنصرية الجديدة لذلك بادر الى طرح التساؤل التالي (هل الاشكال المعاصرة لرفض والغاء الاخر تشبه تلك الاشكال التي ميزت الماضي القريب او البعيد للمجتمعات الاوربية؟ واين تختلف عنها؟ واين تكمن خصوصيتها؟).
للجواب عن هذا السؤال استنتج الباحث بان ( العنصرية المذهبية المسكونة بالاستيهام القائل لتراتبية جوهرية بين الجماعات البشرية او” لا وحدة” الانسان تبدو انها – اي العنصرية المذهبية-انسحبت من المجال الالغائي المعاصر وتركت المكان لعنصرية دفاعية متقوقعة حول الدفاع عن الوحدات الوطنية متجنبة العنصرية العرقية الخالصة للجهر بخطاب الهوية الثقافية بوصفها كيانا ثابتا وجوهريا. (مجلة الشعوب المتوسطية – العدد51) .
هذا الراي يقترب من موقف الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة بفرنسا وما يماثلها في مختلف البلدان الاوربية، غير ان الموقف من الاخر ومن الاجنبي او المهاجر تلعب فيه الدولة ” المضيفة” كذلك دورا كبيرا ذلك ان مفاهيم الهوية والوطن والثقافة التي يوظفها الخطاب العنصري الجديد تقدمها الدولة في برامجها التعليمية ووسائلها الاعلامية بطرق تخدم اهداف هذا الخطاب وتنوب عن فاعليته في تبليغه.
العنصرية الثقافية اصبحت هي عملة الدولة والاحزاب !!!
يعتبر الغربيون “انفسهم” افرادا حداثيين ونتاجا اجتماعيا لثقافة حداثية عالية ومتميزة اما ” الاخرون” فهم مختلفون كليا لانهم نتاج ثقافات دونية(الاخر هو الجحيم كما قال جان بول سارتر). هذا الفهم الخاطئ تمت ماسسته في الانظمة التعليمية والقضائية والسياسية والبيروقراطية في كثير من البلدان الاوربية. فجميع المهاجرين القادمين من البلدان الافريقية و العربية والاسلامية يملكون نفس “الشيفرة الاخلاقية” ويعتمدون ” نفس الطريقة في الفعل ورد الفعل “. (انهم مسلمون، وبالتالي كليانيون – شموليون ذكوريون معادون للحداثة وبالتالي معادون للغرب… يمكن ان يقتلوا لحفظ الشرف دفاعا عن عائلاتهم، ولكن يمكنهم ان يغتصبوا الفتيات والنساء الاوربيات لأنهن غير مسلمات..) لذا يصفونهم بالطابور الخامس القادم من البلدان الاسلامية الى اوربا وبالتالي يجب مراقبتهم لدرء الخطر الذي يشكلونه !!! – (مسعود كمالي)
اما الاعلام الجماهيري في هذه الدول الغربية فهو مليء بالصور المتحاملة على المهاجرين، وان الاحباط الذي يعانيه كثير من هؤلاء المهاجرين المهمشين والتمييز الحاد ضدهم في البلدان الاوربية وطرق اعتبارهم على المستوى المؤسسي” الاخر” يدفع بعضهم للذهاب الى المساجد والدوائر الدينية كتعويض عن ازمة الهوية والحاجة للانتماء وهذا ما تستغله كثير من وسائل الاعلام الحزبية والجماهيرية دليلا على الاختلاف عن ” القيم” والمثل الاوربية والعداء لها.
انهم يصورون ويوظفون تاريخ ” جرائم الشرف” في اوربا نموذجا مماسسا عن صورة “الرجل الشرقي” حيث الأب كما تصوره هذه الوسائل الاعلامية يمكنه ان يقتل البنت اذا دنست شرف والدها، ويعتبر مثل هذا الخبر اكثر اهمية من اي خبر محلي او عالمي في وسائل الاعلام الغربية، بل تتم تغطية المحاكمات والتحقيقات بتفاصيلها كلها في وسائل الاعلام العامة كما تستطيع ان تبدع في انتاج صورة الاخرين بوصفهم مختلفين تماما ومنحرفين سلوكيا ودينيا وثقافيا وتربويا واجتماعيا …بسبب ثقافتهم ومعتقداتهم واصوليتهم..
في فيلم علاء الدين (1970) صورت النساء الشرقيات على انهن مثيرات، راقصات، يرتدين زي الحريم القصير، اما الرجال فهم اشخاص شريرون لحاهم طويلة، متوحشون يتلذذون بالقتل وبتعذيب الاخر !! وكل هذا نتاج انظمة ثقافية واجتماعية ومؤسساتية غربية.
كما تنافست المؤسسات الحكومية والاحزاب السياسية المختلفة ومستشاريهم ومثقفيهم و”مستشرقيهم” في تهويل وتخويف المجتمع الاوربي من هؤلاء المهاجرين، لتبقى بعض الجمعيات والمنظمات الحقوقية والانسانية واحزاب من اليسار يعملون من اجل الحوار والتعاون مع منظمات تمثيلية للمهاجرين للعمل على تطبيق سياسات وقائية لكن تغيير نظرة العامة للمهاجر ماتزال بعيدة المنال، فإقصاء ” الاخرين ” سواء اكانوا مسلمين ام مهاجرين من بلدان غير اسلامية هو جزء من الحياة الاجتماعية اليومية والمشهد العام في عدد من البلدان الاوربية. والاشخاص المنحدرون من خلفيات مهاجرة بشكل عام مصنفون مؤسسيا تحت عنوان ( كائنات ثقافية) تنتمي لثقافات تقليدية متدنية المستوى.
ان تعميم توصيفهم ب” الاخرين” والمختلفين هو تعزيز للإحساس الذي يميز “نحن” من “هم” ويضع العوائق امام الجماعات المهاجرة من المشاركة الديموقراطية في جميع جوانب الحياة الاجتماعية ف “هم” صنف بشري له خصوصيته في احصاءاتهم حول الجريمة والعنف والارهاب ويبدو كما لو كانت “خلفياتهم المهاجرة” لها علاقة بالأفعال الاجرامية !!
يصور المهاجرون المسلمون -خصوصا- في الاعلام الغربي انهم اناس عدوانيون و مسلحون في الغالب و هم رجال يجتمعون و يصرخون “الله اكبر”- والنساء يرتدين غطاء الراس الاسود الذي يرمز الى المرأة المستغلة من زوجها المسلم او الى الثقافة الذكورية وتتعزز هذه الصور يوميا من خلال توظيف ” خبراء” متخصصين بالهجرة والمهاجرين لمناقشة هذه المشكلات التي يواجهها المهاجرون المسلمون خصوصا، وهذه مجرد خدع قذرة تؤدي الى انتشار الاسلاموفوبيا. (مسعود كمالي)
ان سياسة الميز والعزل العنصرية في الغرب لا تقتصر على ما هو ثقافي، بل تشمل السكن والمدارس والوظائف والمستشفيات، وهي سياسات تتعارض مع شعارات وقيم الديموقراطية الغربية:
- أ- الاوربي لا يرى في المهاجرين سوى حشودا وجماعات هائلة لا كيان فيها للفرد ولا للحرية، ولا يرى في الشرق الا تطرفه وهلوسته(المرأة المختفية وراء الحجاب – المرأة الشبقية التي لا حدود لشبقيتها – الرجل العدواني – الثقافة الطفولية…)
- ب- الاوربيون يقيمون مدارس خاصة بالمهاجرين يتم فيها تجميع التلاميذ المنحدرين من عائلات مهاجرة، وهذا فصل خطير يعزز العنصرية في المجتمع وفي هذه المؤسسات التعليمية، ويتحول التواصل بين المدرسة العائلات المهاجرة في كثير من الاحيان الى صراع ونزاع بل تجرد في احيان كثيرة الاهل المهاجرين من اهليتهم للتربية الملائمة وتنزع عنهم صفة( الاهل الحقيقيين) لتقيم الفصل بين الاباء والابناء، وتشعل نار الصراع بين الاجيال عوض التآزر بين ثقافة واخرى.
- ج- الاوربيون يظفون على الكتب المدرسية في التاريخ والعلوم الاجتماعية والادب والدين توجهات اثنية اوربية وعلى نحو مبالغ فيه تبين ريادة الحضارة اليونانية وتقصي مساهمات الامم الاخرى في بناء الحضارة الانسانية. اما عن الاسلام فلا تقرا عنه الا انه جاء دينا محاربا ( وهذا يذكرنا بفهم فيبر للإسلام) و نجد في هذه المؤلفات الثناء على الاخلاق المسيحية.
- د- في اوربا ثمة مؤسسات اخرى متورطة في التمييز ضد المهاجرين وعزلهم عن المجتمع مثل العديد من السلطات الاجتماعية ( من قبيل العمل الاجتماعي – المساعدات الاجتماعية ..)ويرى العديد من المشرفين الاجتماعيين في هذه المؤسسات بان العائلات المهاجرة(منحرفة ثقافيا) وهي بحاجة للمساعدة من السلطات الاجتماعية كما ان كثيرا من المهاجرين الذين يعيشون في مناطق معزولة هم ( زبائن) دائمون لهذه المكاتب الاجتماعية، وهم اما معتمدون على (المساعدات الاجتماعية) من اقسام المعونات الاجتماعية الموجودة في البلديات او هم زبائن لقسم (المشكلات العائلية) وتبين هذه الامثلة كيف ان السلطات الاجتماعية تميز بين المهاجرين ومواطني البلد المضيف.
كل الاحزاب اليمينية الاوربية وحكوماتها سنت قوانين تشجع سياسة العزل للمهاجرين وفرضت حكومات اوربية في المانيا والنمسا وهولندا وفرنسا على فئة من المهاجرين الاقامة في معازل و(غيتوهات) سكنية خاصة على اطراف المدن والحواضر لتعزلهم عن مواطنيهم وكأنهم “وباء” يجب سحقه وابادته وظلت تتعامل مع المهاجرين كمواطنين من الدرجة الدنيا اما بسبب لونهم او عقيدتهم او ثقافتهم، واليوم نسمع رؤساء من بعض الدول الاوربية (فرنسا مثلا) يتهمونهم بعدم الرغبة في الاندماج في المجتمع الاوربي وتشكيكهم في قيم العلمانية والديموقراطية وكأنهم يسعون لشيطنة ديانتهم حتى يصنعوا من المهاجرين(قنابل الخوف) وحتى يستثمرونهم في الانتخابات الى جانب الاحزاب اليمينية المتطرفة التي بدأت اسهمها تتصاعد في بورصة الانتخابات بعد ان اتخذوا من المهاجرين اوراقا رابحة في كل المحطات الانتخابية والدستورية .
في فرنسا مثلا نرى احزاب اليمين واليمين المتطرف تصور المهاجرين باعتبارهم تهديدا للهوية الوطنية الفرنسية ومنبعا رئيسيا للرجعية ومصدرا للبطالة والجريمة والارهاب وانعدام الانسانية وان تزايد اعداد المهاجرين هو سبب رئيسي في زيادة التهديد والخطر على الهوية الوطنية والثقافة الفرنسية. كما يعتبرون المهاجرين عبئا على الدولة وسببا في البطالة وارتفاع معدل الجريمة والارهاب.
وفي ايطاليا عبر حزب رابطة الشمال اليميني المتطرف عن نيته في ترحيل الالاف من المهاجرين كجزء من المخطط الجدري يهدف الى اعادة صياغة سياسة اللجوء الايطالية اضافة الى الاعتداءات التي يتعرض لها المهاجرون وسط ارتفاع ملحوظ بحدة لخطابات الاحزاب اليمينية التي تشهد صعودا في عديد من دول اوربا (حزب البديل من اجل المانيا) (حزب الحرية في هولندا) واحزاب قومية في النمسا واسبانيا وبولندا. ووفقا لاستطلاعات راي قامت به ( وكالة الاتحاد الاوربي للحقوق الاساسية) فان 92 % من مسلمي اوربا يواجهون تمييزا عنصريا واعتداءات لفظية وجسدية، واظهر الاستطلاع تعرض 53%من المسلمين في اوربا لمضايقات بسبب اسمائهم التي تحمل طابعا اسلاميا كما لفت هذا الاستطلاع الى تعرض 94%من النساء المحجبات -المشاركات في الاستطلاع-الى اعتداءات ومضايقات تراوحت بين الجسدية واللفظية.
هكذا تماسست العنصرية الجديدة وتعززت في الحياة اليومية لعدد من الدول الاوربية وتم تسويق المهاجرين بوصفهم مختلفين جسديا، وبالتالي ادنى عقليا، وغير متكيفين ثقافيا وعاجزين عن الاندماج في المجتمع السائد بشكل غير قابل للجبر، انهم (اخرون والاخرون هم الجحيم) وصنفوا هذا( الاخر) ضمن قوالب وصور ابدية مثل( الزنجي الافريقي- الهندي الاحمر- الصيني الاصفر- الانسان الشرقي المتوحش..) وبوصفهم مجموعات غير متوافقة اساسا مع الحداثة والتقدم.. فهم مهاجرون وبالطبع مختلفون جوهريا(عنهم) ولكن بوصفهم دولا ليبيرالية او ديموقراطية اجتماعية مضطرون لقبول(الاختلاف)و حتى مساعدتهم اذا امكن في الحفاظ على(خصوصيتهم الثقافية البدائية) و هكذا نجد الخطابات السائدة في السياسة والتعليم وقطاع الاعمال تؤكد هذه النزعة العنصرية المتجذرة في الفكر والقانون والسياسة و الآداب…وما لم يتغير التوجه الاوربي والاستشراق المأسس فإننا لن نكون قادرين على مواجهة مشكلات العزل العنصري والاقصاء العرقي لان العنصرية الثقافية هي العامل الاساس في اقصاء ( الاخرين ) واعادة انتاج نازية جديدة ورهاب الاجانب في اوربا.