متعة منطقة الراحة: تأملات في غدر الزمان من خلال تجارب إجتماعية

بقلم : امحمد القاضي
بقلم : امحمد القاضي

وأنت جالس تتأمل في السلوكيات الغرائزية للحيوانات الأليفة، وخاصة القطط، حين تغنم بقطعة أكل وسط كومة أزبال، فتجرها لركن لتنفرد بها وتتلذذ بمصيدتها، بعد أن دافعت عنها في وجه قطط أخريات أردن نزع حقا بالباطل منها. تقتنع أنه من المألوف أن الحيوانات الأليفة كسولة، طماعة، تتحايل وتتمسكن لتضمن قوتها اليومي.

تلك الصورة عادة ما تتكرر في البرية، على قناة ناشيونال جيوغرافيك مثلا، على شكل آخر أكثر وحشية ودموية. حيث تصطاد الحيوانات المفترسة صيدا ثمينا وتقف بالمرصاد لغير أصنافها كي لا يقترب. لأنها تعلم أن الصيد مجازفة ومخاطرة، لذا فهو تعاون وتقاسم بين الإخوة من نفس الفصيلة، خاصة حين تكون الطريدة أكبر من حاجتها لسد جوعها اليومي.

من الأكيد، كان هذا حال البشر البدائي في القرون الأولى للوجود. واليوم صرنا نؤمن أن الإنسان ترقى، تحضر وتأدب، تعلم وكسب أخلاق ترفع بها على ممارسات دنيئة لا تليق بمستواه في الوقت المعاصر. إذ كرمه الله وخلقه بعقل ولسان وفطنة، وحباه درجة رفيعة، من المفروض أن ترقى سلوكياته وتلطف معاملاته وتهدب أخلاقياته، وتسمو برقة إحساسه لدرجات عليا تجعل الغلبة للحكمة والحكامة. إذ أن عدة عوامل أخرى إجتمعت لتكبح جماح الطبيعة الوحشية للإنسان وتروض سلوكياته.

تحكم الإنسان بفضل تطور العلوم في جل تقلبات الطبيعة، وطوع الكون، وغمر أسراره، دون أن ينجح في التحكم في تقلبات مزاجية نفسيته. إذ حين تتمعن في بعض ممارسات جل الوصوليين لمناصب المسؤولية، تجدهم في العمق غير بعيدين من سلوك الكائنات البرية، حيث الغلبة للأقوى. يترقى البعض إجتماعيا، ويتسلل لدرجة مسؤولية، ويتذوق نعمة الإمتيازات وتخونه السلطة المزيفة، ويحلو له ما كسبه، عندئد تطفو الغريزة الحيوانية المفترسة ولاإنسانية، فيغلب الطابع الأناني ويعتبر محيطه أعداء، ومن يطوف حوله أطماع. يرسم لمملكة نفوذه حدود، ويشهر سيفه الحاد لمن سولت له نفسه الإقتراب منها. كيف وهمه الإستقرار في المكان الطيب. تمضي الأيام وتكبر الأطماع وتكبر فيه العجرفة، ويظن أن حيله إنطلت على الناس. فأصبح يصدق القناع الذي يحمل، ولا يدري أن محيطه يراه ساقط القناع، بوجه مكشوف طيلة الوقت. لأن الذاكرة الجماعية لاتنسى صورته قبل المنصب، وتنتظر في الظل وبكل برودة أعصاب وقت السقوط المدوي. لأن غدر الزمان لايرحم، وويل لمن تشفى فيه الأصدقاء قبل الأعداء، وينقلب عليه حامي قلعته، قبل الدخلاء، ويخذله نفسه قبل الآخرين، فيسقط لوحده، بعد أن صعد على أكتاف الحمات.

كل هذه المقدمات لنسقط الطائرة وسط حقل العمل الجمعوي. العمل الميداني مدرسة، إنخراط في خدمة الصالح العام. إحتكاكنا اليومي كجمعويين بالناس، وقربنا لكل الفئات المجتمعية، وطرق الأبواب الموصدة، وسلك طريق التنمية الشائك، ودرب التطوع المنعرج، و المرور عبر أزقة نكران الذات الضيقة، ومسالك التضحية الصعبة؛ جعلنا نصادف نمادج إجتماعية خرجت عن إنسانيتها وتنكرت لأصلها، ففقدت بوصلة القيم وتاهت وسط المجهول.

في الحقيقة، في بلدنا العزيز، كم بنينا من منشآت فرعونية وإفتخرنا بزخرفة مساجد ، وتباهينا بقدرتنا على إتمام ناطحات السحاب إسوة بأهل الخليج، وأنشأنا قناطر وطرق سيارة؛ وللأسف نسينا بناء الإنسان والإستتمار في تقوية قدراته وبنيان قيمه كي لا يسقط في أول محك أمام التاريخ، وتميل نفسه اللوامة في أول منعرج نحو نزوات نكران الجميل. مجتمعنا ربما نجح في كسب رهان الماديات، وفشل في تجاوز أزمة التربية على القيم والعفة والعطاء، والتواضع، وجود رقة الإحساس. بإختصار، القيم منظومة كلية غير قابلة للتجزيئ والإنتقاء.

في سوس مثلا، نجحنا في التسويق لمهرجانات، وإستقطبنا زوار لمواسم، تنافسنا على تنظيم الولائم والإحتفاليات، وكرسنا بذلك إنتظار الظرفية للفرجة. للأسف سوقنا الصورة النمطية الفولكلورية لأمازيغي المتعة الصيفية. نسينا تقوية عزة نفس الإنسان الحر، هملنا أن نوازي الفرجة الصيفية مع تعزيز كبرياء الإنتماء والغيرة على أرض يستبيحها الرعاة شتاء. أخشى أن نفشل في مد مشعل عز وشرف الأجداد وامجاد تاريخهم المشرف للأحفاد، وتوريث الحفاظ على قيم أهل أعالي سوس التي يشيد بها الجميع للأجيال القادمة.

لمن سنترك إذا المكان؟ ومن سيرث المنصب؟  أ لطائفة قد تفقد الهوية وتنسى الأصل الذي لم ينجح في إدماجها؟ أم لفئة فقدت البوصلة لضعف التوجيه؟ أم لزوار منتصف الصيف يرون في المكان بقعة للترفيه والمتعة العابرة؟ أم بالأحرى لجيل نجدد فيه شعلة الإستمرارية، وحمل هم مستقبل تمازيرت، وحب الإنتماء، وعزة الدفاع عن أكال(الأرض)، أوال (اللغة)، أفكان (الإنسان). أخشى أن نؤدي ضريبة إهمال الإهتمام بأجيالنا يوما غالية.

حتى لا ننسى، التغيير خروج من متعة وحلاوة منطقة الراحة la zone du confort والتجرأ لتجاوز الصعاب. لأن الحياة كلها عبر، والأمور والأشخاص كالأشياء حولنا قد تتشابه في القيمة، لكن تختلف في القيم. شجرة القيم تتغدى من أعماق جدور الأصول، ضلالها وافرة تتسع للجميع. لقطف تمار السلوك الإيجابي يجب غرسه وسقيه والعناية به دون كلل أو ملل قبل موسم الجني وقطف التمار.

تصبحون على موسم متمر.

* رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

تعليق واحد

  1. سلمت أناملك السي امحمد مقال وضع الاصبع على الداء، لكن مع الاسف اصبح الداء متأثرا بالتخذير (البنج) فلا هو يعطي إشارة للمريض ليكتشف خلله و لا هو يعطي اشارة للطبيب ليشخص المرض. بين ذاك وذاك يبقى الامل معلقا في غيورين امثالكم لإنقاد ما يمكن إنقاده.
    يوسف بن اعمر عضو جمعية بوكافر للتنمية بالنيف اقليم تنغير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *