من خلال مسار النقاش الطويل الذي طبع علاقة الحركة الأمازيغية والفاعل الأمازيغي المعاصر بسؤال الممارسة السياسية الحزبية، يتضح أن هذا النقاش استوفى حيزه بما يكفي، وحان الوقت ليتقدم كل طرف وكل مجموعة في خيارها باستحضار الأسئلة الصعبة التي يطرحها كل خيار، سواء الراغبين في تأسيس مشروع سياسي حزبي جديد، خاصة المشاريع التي قطعت أشواط في إنضاج رؤيتها وبناء تنظيمها، أو الراغبين في الالتحاق بإحدى الأحزاب القائمة، كما أن المجتمع المدني الأمازيغي مطالب بتقوية وتطوير أليات عمله، وتوسيع مجال اشتغاله للاضطلاع بالأدوار الهامة التي لا تزال تنتظره في سياق ما بعد الدسترة، كما هو الشأن بالنسبة للفاعلين الثقافيين والباحثين والمبدعين في مختلف المجالات الفكرية والعلمية والأدبية والفنية.
مع استحضار الحاجة وأهمية تحقيق التكامل واحترام مختلف الاختيارات النضالية والثقافية والسياسية والمدنية والمؤسساتية التي من المؤكد أن الأمازيغية في حاجة ماسة إليها كلها للتقدم في واقع اجتماعي وسياسي ووضع مؤسساتي معقدين للغاية.
وللتقدم في النقاش الدائر حول العمل الأمازيغي في الحاضر والمستقبل بشكل عقلاني وبراغماتي، يستحضر شروط وإمكانيات الواقع الثقافي والسياسي والمؤسساتي، لا بد من التحلي بالجرأة الكافية لطرح الأسئلة المؤجلة والتي هي حرجة، والوعي الكافي بإمكانيات وممكنات وإطار كل خيار من الخيارات المطروحة.
من الملاحظ أنه تعددت الآراء خلال الشهور الأخيرة حول سؤال الأمازيغية والممارسة السياسية الحزبية، وكثيرا ما تغافلت في تقديرنا طرح وتحليل السؤالين الأساسيان: ما معنى مشروع حزب ذي مرجعية أمازيغية، وماهي ممكنات نجاحه في المغرب؟ وما معنى الانضمام لحزب سياسي قائم للعمل من داخل المؤسسات المنتخبة لخدمة الأمازيغية، وما هي ممكنات وحدود هذا الطموح؟
قد يبدوان هذين السؤالين للمحلل والدارس في مجال العلوم السياسية وللفاعل السياسي مثيرين، لسببن، فمن جهة طرح سؤال النجاح والاخفاق، والقائم والممكن، رهين بالممارسة والتجربة السياسية في حد ذاتها، ولا يمكن تناوله مسبقا خارجها، لأن نظريا الإطار القانوني والدستوري وتعريف الحزب السياسي وتأسيسه يروم تحقيق أهدافه والوصول إلى السلطة وتدبير الشأن العام انطلاقا من مرجعيته ومشروعه السياسي، ويتطلب الأمر النضال من أجل تغيير أو تطوير الحياة السياسية، ومن جهة أخرى، فأدبيات العمل السياسي الحزبي بالمغرب تعتبر أن الأمازيغ يمارسون حقوقهم السياسية بكل تلقائية مند أكثر من نصف قرن، وهم متواجدون بانتماءاتهم وأصولهم اللسنية والقبلية والجهوية بجل الأحزاب التي تعمل في مجال الشرعية والممارسة السياسية، والتي تتغير مواقعها بين الحكومة والمعارضة حسب السياقات، بل أنه على الأقل حزب سياسي، مشارك في جل الحكومات مند الاستقلال يعتبر في هذه الأدبيات حزبا أمازيغيا، له تاريخ وخطاب قريب من خطاب الحركة الأمازيغية.
لكن الإشكال الذي يطرح كما أكدت التجربة والحياة السياسية ذلك، هو أن التصنيفات الحزبية والخطابات السياسية شيء، والممارسة السياسية والمشاركة الحكومية وتدبير الشأن العام المحلي والوطني شيء اخر في المغرب، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا والملفات الحساسة ومنها الأمازيغية.
بيد أن طرح هذين السؤالين ينطلق من واقع الممارسة السياسية الحزبية ذاتها في المغرب، وبنية السلطة وتدبير المؤسسات، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا ومجالات بعينها، ومنها ملف الأمازيغية الذي يتسم بحساسية سياسية خاصة، لأن الممارسة السياسية في المغرب أكدت أنها تخضع لقواعد وتعاقدات وحدودها المعلنة والمضمرة، التي عليها تتأسس شرعية الممارسة والاعتراف ودخول رقعة العمليات الانتخابية والدعم العمومي وحجم التمثيلية في المؤسسات وولوج دوائر التشريع والقرار والتنفيذ المحروسة والخاضعة للانضباط والتوجيه.
فقبل حوالي عشرين سنة لم يكن سؤال الأمازيغية والعمل السياسي الحزبي مطروحا، وهذا ما يغفله أو يجهله البعض ممن يستغربون تردد مكونات الحركة الأمازيغية في الانضمام للأحزاب السياسية، اليوم، فيستحضرون الانتماءات السابقة لبعض أطر العمل الأمازيغي القليلة في الماضي، ويطالبون الجيل الحالي بحدو حدوها. فتشكل الخطاب حول الممارسة الحزبية وأسئلتها بشكل معلن يفصل بين الثقافي والسياسي في صفوف الحركة الأمازيغية لم يتم إلا بعد توسعها وبروزها الكبير، وتطور خطابها وتراكمها باعتبارها حركة مدنية وحقوقية وجمعوية خلال عشرين سنة الماضية.
فرغم أن احتكاكها بالممارسة السياسية من خلال مطالبها سواء في العلاقة مع الدولة أو مع المكونات الحزبية والمدنية والثقافية الأخرى في فضاء المجتمع والحياة العامة في المغرب تم بأشكال ودرجات مختلفة في السياقات السابقة، إلا أن الانتقال من الوعي الثقافي إلى الوعي الحقوقي والسياسي المعاصر، واستشعار الحاجة إلى التنظيم السياسي لم يتم إلا خلال حوالي 25 سنة الأخيرة. إضافة إلى أنه لهذا التردد أو بالأحرى التنافر بين الأمازيغية والأحزاب السياسية جدور وتراكم سلبي في الحياة السياسية بالمغرب، يصعب تبديد أثاره وتجاوزه بسرعة أو تهافت ما لم تتغير بنية الممارسة السياسية ذاتها، رغم تغير السياقات والخطابات، أو إيجاد مصوغات جديدة للتعامل مع هذا الوضع، ينطر مقالنا: جذور تنافر الحركة الأمازيغية والأحزاب السياسية في المغرب.
وفي نطرنا، هذه بعض الأسئلة الحرجة التي من المفترض طرحها والوعي بها واستحضارها خلال كل تفكير في مصوغ سياسي حزبي، سواء جديد أو لحيق، للعمل الأمازيغي في المغرب، أو في تقوية المجتمع المدني وأليات عمله مستقبلا:
– لا شك أن الهدف الأساس من العمل السياسي الحزبي بمرجعية أمازيغية كما تؤكد جل الآراء والكتابات والتوجهات التي تتبنى هذا الخيار هو النهوض بالأمازيغية، لغة وثقافة وإطار هوياتي وحقوق اجتماعية واقتصادية مرتبطة بالأرض والثروات وتنمية المجال وغيرها، بعد ترسيمها في دستور 2011. لكن السؤال الذي يطرحه هذا الطموح المشروع هو هل فعلا يمكن تحقيقه بولوج مجال التمثيلية والمؤسسات المنتخبة، وهو طموح هام ومشروع أيضا، لكن دون نسيان أن العمليات الانتخابية وتشكيل هذه المجالس عمليات معقدة، وأنها تخضع في تدبيرها لقوانين وضوابط موجهة، وتتكون من تركيبات غير منسجمة مما يحد من صلاحياتها ومن توجه أو برنامج حزب معين، خاصة فيما يتعلق بالأمازيغية؟
– هل حقا في المغرب، يمكن أن تظلع المؤسسات المنتخبة سواء المحلية والجهوية أو الوطنية بصلاحية القرار والتنفيذ في مجال الأمازيغية، أم أن الأمر أكبر من ذلك؟ وما يحدث بالمجالس الحكومية وبغرفتي البرلمان، وبجل المجالس المنتخبة، بعد دستور 2011، أكبر دليل على ذلك.
– ما الأفضل لتحقيق الطموح الأمازيغي وأهداف الحركة الأمازيغية، العمل على مستوى السياسة الكبرى، أم العمل أيضا على مستوى السياسة الصغرى؟ ولاقتصار الجهد في توضيح الفرق بين السياستين، خاصة أن صياغة واستعمال عبارة “السياسة الكبرى” في موضوع الأمازيغية تعود لكتاباتي وأرائي المنشورة مند سنوات، فالمقصود بكل وضوح هو الفرق بين مستوى سياسة الدولة ومستوى سياسة الحكومة والجماعات المنتخبة في المغرب، أي بين الصلاحيات الاستراتيجية والتدابير الكبرى، التي تعود للملك رئيس الدولة، ومنها الشأن اللغوي والثقافي والهوياتي، وبين صلاحيات وتدابير الحكومة والقطاعات الوزارية والجماعات المحلية، التي لا تخرج في أحسن الأحوال عن نطاق تصريف توجيهات وقرارات سابقتها، خاصة في الملفات الكبرى؟
– لماذا لم تتمكن المشاريع الحزبية التي عملت من أجلها وانخرطت فيها بعض الإطارات والفعاليات ومناضلي الحركة الأمازيغية مند أكثر من 13 سنة، من التحقق وبناء تنظيماتها وولوج مجال العمل السياسي؟ فباستثناء تجربة الحزب الديمقراطي الأمازيغي المغربي الذي استطاع المرور إلى مرحلة التأسيس، وصدر قرار قضائي بحله، فإن كل المشاريع الأخرى لم تتجاوز مرحلة إعلان النوايا والترتيبات القبلية؟ هل الأسباب موضوعية، مرتبطة بالوضع القانوني وسياسة الدولة، أم أن للجانب الذاتي ولحاملي هذه المشاريع نصيب أوفر في عدم تحققها؟
– الممارسة السياسية الحزبية في المغرب تفرض التمثيلية الترابية والاجتماعية والاقتصادية وليس الايديولوجية فقط….التي بها يرتهن نجاحها وحجمها أو فشلها. ومن تم الوعي بأن العمل الحزبي بمرجعية أمازيغية لا يمكن أن يحقق ذاته وأهدافه دون استدماج كل المكونات الأخرى وصياغة خطاب يلائمها بما في ذلك الرافضين والمشككين في هذه المرجعية، وكذا الشباب والعاطلين والمقهورين والتجار والصناع والحرفيين والفلاحين والعمال والميسورين والأعيان والموظفين والنساء وذوي الحاجات الخاصة…فهل بإمكان هذه المشاريع تقديم إجاباتها عن كل الأسئلة والانتظارات المطروحة، وكيفية تحقيق ذلك؟
– هل يكفي موضوع الدفاع عن أراضي الجموع والاراضي السلالية وأراضي القبائل والملك الغابوي والتنمية والعدالة المجالية …لصياغة أرضية إيديولوجية وسوسيو اقتصادية صلبة قادرة عل الاستقطاب وتشكيل القاعدة الجماهيرية الضرورية لتحقيق هذه الأهداف، وهل يكفي ذلك لنجاح مشروع حزب سياسي في المغرب؟
– هل الحزب ومناضليه، بعد تأسيسه مستقبلا، مستعدون للعمل في إطار الممكن السياسي، والتركيبات المتباينة للمجالس وتناقض المصالح، والدوائر المرسومة وتنفيذ القرارات، وإن تطلب الأمر التصويت على مشاريع قوانين وسن سياسات وتدابير تتنافى ومرجعيته الأمازيغية وخطابه السياسي، بل وبرنامجه الانتخابي، مثلا؟
– هل الحزب ومناضليه مستعدون مستقبلا لخوض معارك السياسة بكل أشكالها النبيلة والحقيرة وهي عديدة لا حصر لها، حسب كل مرجعية وسياق وشخص وموقف وطموح؟
– بعد الانضمام إلى احدى الأحزاب السياسية القائمة، وباستحضار تركيبة الأحزاب ومكوناتها واليات تشكل أجهزتها وفرز قياداتها وخاصة مكاتبها السياسية والجهوية، هل الراغبين مستعدون للعمل من أجل الأمازيغية على هامش مراكز القرار الحزبي، وهل بإمكانهم تحقيق طموحهم انطلاقا من هذه البنية المركبة حد التناقض، وباستحضار الأسئلة السابقة؟
– أليس من المجازفة رهن ملف الأمازيغية بحزب سياسي وحيد، علما أن كل الأحزاب مطالبة بتغيير مواقفها وممارساتها بعد دستور 2011؟ وكيف يمكن جعلها فعلا تستوعب الخيارات الجديدة وتمارسها عبر تجديد نخبها وأطرها ومنتخبيها؟
– لماذا لم تستطع بعد الحركة الأمازيغية الانتظام في إطار مشروع كبير، وأليس هذا الخيار الأفضل والقادر على التأثير من بين كل الخيارات المطروحة؟ والمقصود بالحركة الأمازيغية طبعا، لمن لا زال يتساءل ويشكك في ذلك، هي مجموع الإطارات والفاعلين والمناضلين والباحثين والمبدعين وعموم المواطنين والمواطنات الواعون والعاملين من أجل الأمازيغية لغة وثقافة وإطار هوياتي بحس ووعي حقوقي وديمقراطي وتنموي حديث، انطلاقا من خطاب الحركة وانتاجها المعرفي الذي أسس لرؤيتها وشخصيتها الثقافية والسياسية البارزة.
– هل بإمكان الحركة الأمازيغية اليوم، بكل إطاراتها وفاعليها وشبابها ومبدعيها…،القيام بتشخيص لحجمها البشري والمجالي، ومستوى كفاءاتها ومواردها، ومجالات اشتغالها وتواجدها، وقدراتها وحاجياتها، ونقط قوتها وضعفها؟
– لماذا لم تعمل ولم تستطع الحركة الأمازيغية بعد، خاصة مجتمعها المدني، رغم كل العمل الهام الذي قام به خلال السنوات الأخيرة، تشكيل لوبي ضاغط، والعمل على العديد من الواجهات السياسية والحقوقية والمؤسساتية، على شكل الحركة النسائية في علاقاتها بالدولة والأحزاب السياسية والفاعل الاقتصادي والمجتمع المدني؟ وكيف يمكنها تحقيق ذلك؟
للتذكير، فإن غايتنا من طرح هذه الأسئلة الحرجة ليس هي تعقيد الطموح والعزائم، بل المساهمة بصراحة في فهم واقع الممارسة السياسية وخيارات العمل الأمازيغي من أجل العمل على تقويتها ونجاحها مستقبلا، وتجنب هدر مزيد من الوقت والجهد، والتقدم في الاتجاه الصحيح.