إلى من يهمه الأمر
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد
إلى القلب الذي يحمل أمانة الوطن بين يديه، إلى العقل الذي يُدرك قيمة التاريخ والحضارة، أكتب هذه الرسالة التي تنبض بالحب العميق لوطننا المغرب، إن هذه الرسالة ليست مجرد تعبير عن انشغال أو محاولة لتسليط الضوء على قضية عادية. إنها صرخة من أعماق التاريخ والجغرافيا المغربية، تُطلقها لغة الأجداد، الأمازيغية، التي تواجه اليوم امتحان البقاء في وطن كان لآلاف السنين حاضنة لها وللشعب الذي نطق بها، إنه نداء يعلو باسم الهوية المغربية، وصرخة استغاثة للحفاظ على الركيزة التي شكلت عمق هذا الوطن لآلاف السنين.
هذه الرسالة ليست مجرد كلمات تُكتب أو أصوات تُقال، بل هي إنذار أخير، نداء إلى من يهمه الأمر ولكل من يحمل ذرة من الإحساس بالمسؤولية تجاه هذا الوطن، الذي كانت ومازالت الأمازيغية تشكل العمود الفقري لهويته وروحه، فهي ليست مجرد لغة، بل ذاكرة عميقة تمتد جذورها إلى آلاف السنين من الحضارة والتراكم الثقافي.
ففي قلب كل أمة، تسكن روح تجمع ماضيها وحاضرها، وتوجه مسارها نحو المستقبل. في المغرب، تلك الروح تتجلى في الأمازيغية، ليست فقط كلغة أو ثقافة، بل كهوية ممتدة عبر الزمن، وشاهد على حضارة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ. اليوم، ونحن نقف عند مفترق طرق، نجد أنفسنا أمام تحدٍّ وجودي: إما أن نحافظ على الأمازيغية ونصونها كجزء لا يتجزأ من هويتنا، أو نسمح بانقراضها، مما سيقودنا إلى فقدان جزء كبير من ذواتنا، بل لخطر وجودي يهدد بقاء المغرب كما نعرفه.
الأمازيغية: عمق الهوية وروح الوطن
الأمازيغية ليست مجرد لغة تُحكى أو تُكتب، بل هي رمز متجذر في وجدان المغاربة، يُجسد روحهم وهويتهم عبر العصور. إنها الصخرة التي ارتكز عليها المغرب لبناء حضارته وأسسه، والعمق الذي وحّد أبناءه رغم اختلافاتهم. منذ فجر التاريخ، والأمازيغية ليست فقط وسيلة تواصل، بل هي وعاء حمل قيم المغاربة، أحلامهم، ومعاركهم من أجل الكرامة والاستقلال. هي لغة الأرض، وجسر الماضي إلى الحاضر الذي يجعل كل مغربي يشعر بأنه جزء من مشروع وطني متماسك، غني بتعدده وقوي بجذوره.
الأمازيغية ليست صوتاً فردياً بل نغماً جماعياً يُحيي الانتماء ويعزز الوحدة. فقدانها يعني فقدان روحٍ جمعت المغاربة وميزتهم بين الأمم، والابتعاد عن الجذور الصلبة التي منحت المغرب قوته ومرونته في وجه كل التحديات.
إن تهميش الأمازيغية لا يُضعف فقط الناطقين بها، بل يمزق نسيج المجتمع بأسره. إنها ليست لغة لجماعة أو فئة، بل ذاكرة وطنية جماعية تختزن قيم التعايش والصمود والإبداع. حين يتراجع حضور الأمازيغية، نخسر جزأً من ذواتنا، ونترك فراغاً قد لا يُملأ، لأن الهوية التي تفقد لغتها تفقد معها جزأً كبيراً من روحها وقوتها.
الأمازيغية هي درع يحمي التنوع المغربي من أن يُطغى عليه، وهي الجذور التي تستمد منها الأمة شرعيتها التاريخية وثقتها في ذاتها. كل محاولة لتهميشها ليست سوى تقويض لوحدة هذا الوطن، الذي لطالما وقف قوياً بأعمدته المتعددة، حيث تمثل الأمازيغية أرضيتها الصلبة.
الإحصاء: الحقيقة الصارخة ومسؤولية التدخل العاجل
إلى من يهمه أمر هذا الوطن، الأرقام وحدها قادرة على كشف الحقيقة دون مواربة. الإحصائيات الأخيرة، التي تظهر تراجع نسبة الناطقين بالأمازيغية إلى الربع فقط، هي أكثر من مجرد معطيات جامدة. إنها صرخة تحذيرية تُطالب بتحركٍ عاجل قبل أن تتحول الأمازيغية إلى مجرد أثرٍ في الذاكرة، وعلامة على فقدان روح هذا الوطن وقلبه النابض.
هذه الأرقام ليست مجرد تذكير بتحديات الماضي، بل هي شهادة حية على الفشل في حماية الهوية المغربية. تراجع الأمازيغية ليس مصادفة أو نتيجة طبيعية لتحولات العصر، بل هو نتاج سياسات تراكمت لعقود، همّشت وبخّست اللغة والثقافة التي كانت صمام أمانٍ للمغرب منذ أزمنة سحيقة. كيف للغة الأصلية والتي هي أساس التماسك الوطني أن تصبح اليوم مهددة في وطنها، وهي التي وقفت في وجه الغزاة وصاغت وجدان أمة كاملة؟
هذا التراجع لا يمس الناطقين بالأمازيغية وحدهم، بل يهدد نسيج الهوية الوطنية ككل. فالأمازيغية ليست لغة لفئة، بل هي ميراث مشترك يجعل كل مغربي يشعر بالانتماء إلى تاريخ هذه الأرض وجذورها. إن انحسارها يفتح الباب أمام أزمات أعمق، تبدأ بفقدان الذاكرة الجماعية، وقد تمتد إلى اهتزاز الوحدة والفخر الوطنيين، وتنتج لنا مجتما لا يحس بالانتماء الكافي لهذا الوطن ونفقد معالم الدولة الوطنية.
نعم، إن معالجة نتائج الإحصاء هي التحدي الذي يواجه كل من يحمل على عاتقه مسؤولية الحفاظ على استقرار هذا الوطن. فقدان الأمازيغية يعني فقدان الرابط الثقافي الذي صمد في وجه الزمن، وهو ما يجعل التدخل العاجل ضرورة لا تحتمل التأجيل. إن استمرار هذا النزيف سيؤدي إلى جرح يصعب التئامه، لأن الهوية التي تُترك لتتآكل تفقد قوتها في الحفاظ على وحدة الوطن.
إن الرسالة واضحة: لا يمكن للوطن أن يظل متماسكًا إذا ما استمرت أجزاؤه في التآكل. إن حماية الأمازيغية ليست فقط خيارًا سياسيًا أو ثقافيًا، بل هي خطوة جوهرية لضمان أن يظل المغرب كما كان دائمًا، قويًا بتعدده، وصامدًا بجذوره. عليكم اليوم أن تكونوا على قدر المسؤولية، لأن التاريخ لا يرحم من يُهمل ركائزه. الإحصاء ينطق بحقيقة واحدة: الوقت ينفد، والعمل يجب أن يبدأ الآن.
الأمازيغية كمشروع وطني جامع
إن الأمازيغية ليست مجرد لغة أو موروث ثقافي، بل هي نواة لمشروع وطني جامع يُعيد تعريف الهوية المغربية بروح الانتماء العميق للأرض والتاريخ. في لحظة مفصلية كهذه، يصبح من الضروري تجاوز التعامل مع الأمازيغية كموضوع جانبي أو تحدٍ ثقافي، والنظر إليها كفرصة استراتيجية تُسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي، وإعادة بناء شعور وطني يربط بين المغاربة بمختلف انتماء اتهم.
لقد أثبتت التجربة أن المناطق الأكثر تمسكاً بالأمازيغية في حياتها اليومية كانت الأكثر ارتباطاً بالأرض، والأكثر إصراراً على حمايتها، ودروس مقاومة الإستعمار خير دليل، وكذا الاستثمار فيها، حتى من قِبل أبنائها الذين هاجروا إلى أصقاع الأرض. هذا الارتباط لا يقتصر على الحنين إلى الجذور، بل يتجسد في مشاريع تنموية تُعيد الحياة إلى القرى، وتؤكد أن الهوية ليست مجرد كلمات، بل هي أفعال واستمرارية تربط بين الأجيال. في المقابل، فإن فقدان الأمازيغية كلسان يومي يؤدي تدريجياً إلى فقدان هذه الصلة بالأرض وبالمشروع الوطني ككل.
إن جعل الأمازيغية محوراً لمشروع وطني لا يعني الاقتصار على حماية لغة، بل يعني إحياء الروح التي جعلت المغرب صامداً أمام مختلف التحديات عبر التاريخ. إن تهميش هذا المكون هو تهميش لجذورنا المشتركة، وتفريط في إرث يحمل مقومات الوحدة والاستقرار. على أولي الأمر أن يدركوا أن دعم الأمازيغية ليس فقط واجباً أخلاقياً أو ثقافياً، بل هو استثمار في استدامة الوطن، وضمانة لأن يظل قوياً بأبنائه، متماسكاً بتاريخه، وقادراً على مواجهة تحديات المستقبل بثقة واعتزاز.إن الخطوات التي تُتخذ الآن ستكون شاهداً على قدرتنا على تحويل أزمة التراجع إلى فرصة للنهوض، وعلى استعدادنا للاعتراف بقيمة ما يجمعنا بدلاً من تركه يذبل في صمت. الأمازيغية ليست قضية فئة أو جهة، بل هي قضية وطن. وكل تقصير في إنصافها هو تقصير في حق المغرب بأسره.
الأمازيغية: الحصن الأخير أمام تهديدات الإيديولوجيات العابرة للحدود
إن المشروع الوطني الذي نطمح إليه يتجاوز مسألة اللغة أو الثقافة إلى بناء المغرب كأمة ودولة قومية مستقلة تستند إلى هوية متجذرة ومستقلة، ترفض أن تكون مجرد امتداد أو ملحق لمشاريع أيديولوجية خارجية. إن تعزيز الأمازيغية هو تعزيز للهوية الوطنية التي تجعل من المغرب وطناً بكيانه المستقل، لا تابعاً لرؤى وتصورات تأتي من وراء الحدود. في المقابل، تقف الإيديولوجيات المستوردة كعقبة تهدد هذا البناء، وهي تيارات لا ترى في الوطن سوى محطة عابرة لتنفيذ أجندات خارجية.
إن هذه التيارات، التي تتغذى على التبعية للأيديولوجيات العابرة للحدود، أثبتت في تصريحاتها وخطاباتها ولاءها لغير المغرب، فنراها تُناصر قضايا خارجية على حساب القضايا الوطنية. تجدهم يجيشون أتباعهم للتظاهر من أجل قضايا بعيدة، بينما يغضون الطرف عن مشاكل تمس استقرار الوطن ووحدته. بل وأكثر من ذلك، هم ألد أعداء الأمازيغية، لأنها تمثل العمق التاريخي للمغرب وروحه المستقلة التي لا تتماشى مع مشاريعهم.
مؤخراً، شهدنا أمثلة صارخة على هذا التوجه، حيث أثار رئيس إحدى الجمعيات الحقوقية جدلاً بتبنيه مواقف تمس الوحدة الوطنية، مطالباً بتقرير المصير للأقاليم الجنوبية متحججا بقرارات الأمم المتحدة، بينما يرفض في ذات الوقت الاعتراف بقرارات أممية أخرى تتعلق بقضايا خارجية كقضية فلسطين.
هذه الإيديولوجيات العابرة للحدود تتغذى على تهميش الهوية الوطنية، وتستغل ضعف الارتباط بالجذور لضرب الاستقرار الداخلي. إن الأمازيغية، بما تمثله من رمز للوحدة والخصوصية المغربية، هي الحصن الأخير أمام هذه التيارات. فقدانها أو تهميشها يترك فراغاً يُملأ بأفكار دخيلة تجعل قضايا الآخر أولوية على حساب قضايا الوطن.
ما نراه اليوم من محاولات لخلق ولاءات تتجاوز حدود المغرب، مستغلة الفراغ الثقافي أو الهوية الممزقة، هو جرس إنذار يدعو للتحرك. دعم الأمازيغية لا يعني فقط الحفاظ على إرث ثقافي، بل هو استثمار في وحدة المغاربة وولائهم لوطنهم. إنها المشروع الذي يوحد مختلف أطياف المجتمع تحت راية واحدة، ويمنحهم القدرة على مواجهة كل محاولات الاختراق الخارجي.
إن بناء مغرب قوي يبدأ بإعادة الاعتبار لكل مكونات هويته، وفي القلب منها الأمازيغية، لتظل الدرع الذي يحمي الوطن من أن يتحول إلى مجرد مسرح لصراعات الآخرين. علينا أن نعي أن التهاون في هذا الملف ليس مجرد تقصير، بل فتح لباب قد يصعب إغلاقه أمام التيارات التي لا ترى في المغرب سوى أداة لتحقيق مصالحها الخاصة.
إن الدولة القومية لا تُبنى على تهميش مكونات الهوية أو إنكارها، بل على الاعتراف بها وتعزيزها. الأمازيغية هي الحصن الذي يحمي مشروع الدولة الوطنية من تأثيرات الخارج، ويُرسخ الانتماء للوطن أولاً. تقويتها ليست خياراً، بل ضرورة لضمان أن يظل المغرب وطناً مستقلاً بقراره، متماسكاً بوحدته، ومحصناً أمام أي محاولة لاختراق نسيجه الاجتماعي أو التلاعب بولاء أبنائه.
الأمازيغية كمحرك للتنمية المحلية والاستثمار في الهوية الوطنية
الأمازيغية ليست مجرد رمز للهوية أو اللغة، بل هي أيضاً محرك فعّال للتنمية المحلية وأداة يمكن أن تُستخدم في تعزيز الاستثمار الوطني والدولي في المناطق التي تحمل إرثها الثقافي واللغوي. فالمناطق الأكثر ارتباطاً بالأمازيغية تاريخياً هي أيضاً المناطق التي تمتلك إمكانات اقتصادية هائلة، سواء في السياحة الثقافية أو الصناعات التقليدية أو الفلاحة والصناعات المحلية. ومع ذلك، تعاني هذه المناطق من التهميش التنموي الذي يُضعف قدرتها على تحقيق النمو المستدام ويزيد من فرص استغلالها من قِبل تيارات دخيلة تسعى لطمس هويتها.
إن إعادة الاعتبار للأمازيغية لا يجب أن تقتصر على الجانب الثقافي، بل ينبغي أن تتحول إلى مشروع اقتصادي متكامل يدعم تلك المناطق لتطوير بناها التحتية وتحفيز استثمارات وطنية ودولية فيها. السياحة الثقافية مثلاً يمكن أن تتحول إلى رافد أساسي للاقتصاد المغربي إذا ما استُثمرت الهوية الأمازيغية كعامل جذب يعكس أصالة المغرب وتنوعه. الصناعات التقليدية المرتبطة بالثقافة الأمازيغية أيضاً تحمل في طياتها فرصة للنهوض بالصناعات الحرفية وتوفير فرص عمل للأجيال الشابة.
في السياق نفسه، إن تعزيز الأمازيغية في المناهج التعليمية وبرامج الإعلام يمكن أن يسهم في تكوين جيل جديد يرى في هويته الثقافية مصدر فخر ودافعاً للإبداع والابتكار. الأمازيغية يمكن أن تكون عنصر توحيد وتنمية بدلاً من أن تبقى رهينة التهميش. إدماجها في مشاريع التنمية المحلية يجعلها أكثر قرباً من حياة المواطن اليومية، مما يساهم في تقوية شعور الانتماء للوطن ويمنح المناطق الأمازيغية الأدوات اللازمة لتحقيق نهضة تنموية شاملة.
اليوم، يتحتم علينا أن ندرك أن الاستثمار في الأمازيغية هو استثمار في استقرار الوطن ووحدته. إنه مشروع تنموي يربط الهوية الثقافية بالاقتصاد، ويمنح الجميع فرصة للمساهمة في بناء مغرب قوي بتنوعه، متماسك بروح انتمائه، ومنفتح على العالم دون أن يفقد جذوره. هذه الرؤية تتطلب إرادة سياسية جادة وخططاً استراتيجية تحول الأمازيغية من مجرد قضية ثقافية إلى ركيزة وطنية للتنمية.
اللهم إني قد بلغت، فاللهم اشهد
إلى من بيده أمانة هذا الوطن، إن الكلمات التي نضعها اليوم أمامكم ليست مجرد خطاب عابر، بل هي تعبير صادق عن مسؤولية تاريخية يحملها كل من آمن بهوية المغرب واستقلاله. الأمازيغية ليست مجرد لغة موروثة، بل هي الروح التي تنبض في عمق هذا الوطن، إنها الشريان الذي يغذي وحدتنا الوطنية، ويؤكد تفردنا بين الأمم.
إن الحفاظ على الأمازيغية هو التزام أخلاقي وسياسي، ليس فقط تجاه الماضي، بل تجاه المستقبل. إنها ركيزة بناء الدولة القومية التي ننشدها، دولة تكرس هويتها الثقافية وتميزها الحضاري، وترفض أن تكون مجرد تابع لإملاءات أو أيديولوجيات دخيلة. إن إهمال الأمازيغية لا يعني فقط فقدان لغة، بل هو فتح باب أمام تيارات وأجندات خارجية تهدد النسيج الوطني، وتخلق شرخاً في وحدة هذا الوطن.
إلى من يهمه الأمر، نحن اليوم أمام لحظة حاسمة، إما أن نؤسس لمستقبل يحتفي بتنوعنا وعمق جذورنا، أو نترك الفرصة لطوفان التهميش ليجرفنا نحو المجهول. دعم الأمازيغية ليس رفاهية ولا خياراً هامشياً، بل هو ضرورة ملحة لحماية استقرار الوطن وضمان ولاء أبنائه. إنها ليست قضية فئة أو جهة، بل هي قضية كل مغربي يؤمن بأن هذا الوطن لا يمكن أن يزدهر إلا بترسيخ هوية جامعة ومستقلة.
ختاماً، نؤكد أن القرار بأيديكم، وأن التاريخ لن يغفر لمن أهمل أمانة هذا الوطن. فإما أن نحمل الراية معاً، ونعيد للأمازيغية مكانتها المستحقة كجزء لا يتجزأ من هويتنا، أو نواجه طوفاناً لن يترك لنا إلا الندم. اللهم إني قد بلغت، فاللهم اشهد.