الأمازيغية: بين الخطاب الرسمي عنها وواقعها المعاش

بقلم: ذ. محمد أمدجار – رئيس منظمة تاماينوت

تمهيد :

انبثقت الحركة الأمازيغية في المغرب في صيغتها العصرية في نهاية الستينات في بيئة تلونت بإقصاء الأمازيغية وتهميشها والتنكر للهوية الوطنية و احتقار كل مظاهر ثقافتنا الأمازيغية وجعلها شيئا غير مرغوبا فيه ويجب إخفاؤه و”العمل على إماتته” ، فصدح صوت شباب مغربي واع بذاته يمزق بؤس المشهد وينثر بعض الضوء في جنباته القاتمة من خلال الدفاع عن الامازيغية والدعوة إلى حمايتها والاعتراف بها وإدماجها في دواليب الدولة وفي كل مناحي الحياة العامة ومنه إعادة صياغة الهوية الوطنية بعدما كانت تختزل كليا في بعد واحد وإغفال بعدها الأساسي، فطالبت الحركة الامازيغية في مختلف المحطات بدستور ديموقراطي شكلا ومضمونا يعترف بالامازيغية لغة رسمية للبلاد ويضمن حمايتها وإنصافها  وطالبت بإدماج الامازيغية في المنظومة التربوية وقطاع العدل، وطالبت بإنشاء مؤسسة أو مؤسسات أكاديمية لتطوير اللغة الامازيغية والنهوض بها، وطالبت بإدراج الامازيغية في الفضاء العمومي (الهوية البصرية) وفي مختلف الإدارات العمومية، وطالبت بإدماج الامازيغية في المنظومة الإعلامية، وطالبت بربط الامازيغية بسوق الشغل وضمان بيئة اقتصادية مناسبة لاحتضانها، وإعادة قراءة التاريخ وكتابته بأقلام وطنية. واحترام العمق الحضاري والتاريخي والجغرافي الذي يميز شمال افريقيا عن فضاءات أخرى، وطالبت بالعدالة المجالية واحترام ملكية الأهالي للأرض وضمان حقها في الموارد وفي كل الفضاءات التي يرتبط بها نمط عيشهم، كما طالبت بالعدالة والديموقراطية والبنية التحتية، وبضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للإنسان والمجتمع المغربي.

من أجل هذه القضية (القضية الامازيغية) ومن أجل هذه المطالب وغيرها قدمت الحركة الامازيغية تضحيات جسام، فتعرضت للإهمال ثم للرفض المطلق وللمضايقات والاستفزازات وقدمت معتقلين ومختطفين وشهداء في سبيل الدود عن اللغة والثقافة الامازيغيتين وبث إكسير الحياة في شرايينها حماية لها من الموت البطيء والانقراض الذي دعا إليه البعض وعمل البعض الآخر على تجسيده على أرض الواقع .

بداية الالفية الثالثة

عرفت الألفية الثالثة منذ بداياتها مجموعة من القرارات التي خلقت نوعا من الارتياح والتفاؤل بمستقبل الأمازيغية، ونوعا من الانفراج في تعاطي الخطاب السياسي الرسمي مع القضية الأمازيغية، حيث تقرر إنشاء المعهد الملكي للثقافة الامازيغية سنة 2001، وفي سنة 2003 وضعت أرضية لإدماج الامازيغية في المنظومة التربوية من خلال برمجة زمنية محددة، وفي سنة 2010 تم إنشاء القناة الامازيغية (الثامنة)، وفي دستور 2011 تم الاعتراف بالامازيغية كلغة رسمية للبلاد، وتم إصدار القانون التنظيمي رقم 16-26 المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية سنة 2019، وأخيرا في سنة 2023 تم الاعتراف برأس السنة الامازيغية واعتباره عيدا وطنيا ويوم عطلة مؤدى عنه، ولكن ماذا بعد ؟.

سنة 2023 .. ماذا بعد ؟

عموما لا يمكن أن ننكر أن هناك انفراجا في الخطاب الرسمي تجاه الامازيغية، لكن الأكيد هو أنه ليس هناك تغيير جدري في طبيعة التعامل العملي معها، إذ أن كل مطالب الحركة الامازيغية، تقريبا، لازالت قائمة وتطرح نفسها بإلحاح، ولم تتم الاستجابة لها بعد، إما نهائيا، وإما أن الاستجابة تمت بكيفية مشوهة ومعطوبة، وسنحاول في هذا العرض المختصر الوقوف على مدى تحقق هذه المطالب (الحقوق) وما مدى وجود إرادة سياسية حقيقية لإنصاف الأمازيغية.

الحق في الارض :

إن الأرض بالنسبة للأمازيغي هي الهوية وهي الكرامة وهي الحرية وهي الوطن، إن الأرض في الثقافة الأمازيغية تمتلك مكانة تتجاوز اعتبارها مساحة أرضية لها قيمة مادية يمكن استبدالها بأخرى أو التخلي عنها ببساطة، إنها عنوان الانتماء والأصالة، إنها الفضاء الذي يحتضن الثقافة واللغة الامازيغية وأعراف ومعارف وعادات وتقاليد وقيم المجتمع الأمازيغي ونمط عيشه. إن كلمة “أمازيغ” هي كلمة لازالت تستعمل في الكثير من المناطق في المغرب، كمنطقة إلبنسيرن بنواحي إمي ن تانوت على سبيل المثال لا الحصر، ومعناها الإنسان الحر ، لكن الحرية هنا ترتبط بالملكية ، بملكية الأرض تحديدا ، أي أن أمازيغ هو صاحب الأرض و إبن البلد الذي لا يشتغل عند غيره في أرضه لأن له أرضه الخاصة و يملك حقه في مياه السقي و تكون قيمته و مكانته الاجتماعية أكبر من قيمة و مكانة غيره ( أقبيل أو أمزداغ ). إلا أن القرار السياسي لا يأخذ كل ذلك بعين الاعتبار و يفعل كل ما بوسعه لتفكيك هذه البنية الاجتماعية و كل ما تحمله من رأسمال مادي و رمزي ، فهو يلزم الساكنة في كثير من الأحيان بتجرع مرارة الهجرة الإجبارية بسبب الكثير من الدواعي نذكر منها : غياب أو هزالة البنية التحتية و الخدمات الاجتماعية ( طرقات ، مستشفييات ، مدارس ، ماء ، كهرباء … الخ ) ، و توطين الحلوف الذي يعيث فسادا في حقول الساكنة الموجهة بالأساس إلى الزراعة المعيشية ، توسيع الملك الغابوي مما يحد من تحرك الساكنة و تحرك ماشيتهم ، تشجيع و حماية مافيات الرعي الجائر و عدم محاسبتها و لا ثنيها عن ما تتسبب فيه من أضرار للساكنة دون وجه حق . بالرغم من خلق الكثير من الديناميات الوطنية و الجهوية و المحلية المطالبة بالتدخل لإنصاف الساكنة و حماية ممتلكاتهم ، إلا أن دار لقمان لازالت على حالها ، و هو ما يبين أننا بصدد معركة متعددة الأبعاد ، و الأكيد أن هذه المعركة لازالت مستمرة .

العدالة المجالية :

لازالت ثنائية “المغرب النافع و المغرب غير النافع” هي الثنائية التي تغلف و تؤطر السياسات العمومية و البرامج التنموية على مدى عقود من الزمن ، بحيث أن أغلب البنيات التحتية و الخدمات الأساسية متمركزة في منطقة محدودة تمتد بين القنيطرة و الدار البيضاء و الجديدة و التي تستفيد من اهتمام الدولة و ميزانياتها ، في حين يتم تهميش باقي مناطق البلاد و إقصائها من حقها في التنمية بالرغم من كونها مناطق غنية بالموارد و الثروات الطبيعية و الكنوز الثقافية و الطاقات البشرية ، و التي تجعل منها مناطق مفقرة و ليست فقيرة ويجعلها مناطق نافعة لكنها ليست منتفعة .

من بين حسنات الزلزال الأخير الذي ضرب منطقة الأطلس الكبير التي تندرج ضمن المناطق التي صنفها الخطاب الرسمي ضمن المغرب غير النافع و جعل جميع البرامج التنموية تخطئها ، أنه جعل العالم بأسره يكتشف منطقة شاسعة من المغرب تفتقر إلى أبسط شروط العيش الكريم و إلى كل الحقوق الأساسية التي تضمنها جميع الإعلانات و المواثيق الدولية لحقوق الإنسان و حقوق الشعوب و كذا الدستور و باقي القوانين المحلية ، و بات جليا للجميع أن المغرب يسير بسرعتين متفاوتتين جدا في درب التنمية ، تلك السرعة التي يتم التسويق لها في الإعلام و في مختلف المناسبات الرسمية و هي سرعة فائقة تجاوزت كل الحدود ، و السرعة التي تسير بها التنمية في المغرب العميق على أرض الواقع و التي أصبحت مرادفة للجمود . لا شك أن الجميع بات يعرف اليوم أن هذه المناطق التي توصف في الإعلام الرسمي بالفقيرة هي مناطق غنية جدا بالثروة المائية و التنوع البيولوجي النباتي و الحيواني و بالثروات الطبيعية من ذهب و فضة و نحاس و كوبالت و غيرها من المعادن القيمة و التي يتم استخراجها من طرف شركات مغربية و أجنبية دون أن تستفيد الأرض التي احتضنتها و لا الإنسان الذي يقطنها أي شيء إلا التلوث و استنزاف الموارد و التهجير . و بالتالي فإن العدالة المجالية ورش مفتوح على مصراعيه في بلدنا ، و تبقى مطمحا يجب أن تسعى جميع القوى الحية إلى تحويله من شعار أجوف مفارق للواقع المعاش إلى دينامو يحرك جميع الخطط التنموية و منطق يخترق كل طرق توزيع الاستفادة من خيرات البلاد و ميزانيات الدولة .

الديموقراطية و المساواة :

إننا هنا نتحدث عن الديموقراطية كممارسة و كقناعة و عقلية و ليس ” كمراسيم و فولكلور ” بتعبير محمد عابد الجابري . إن الديموقراطية المقصودة لا تتمظهر في تعدد الأحزاب و صناديق الاقتراع و تغيير الحكومات و المجالس ، بل تتمثل في الحوار و الإنصات و أثرهما في القرارات و الاختيارات النهائية ، و في الحق في حرية التعبير من خلال القنوات التواصلية الرسمية و الجماهيرية ، و الإيمان بحق الرفض ، و السماع لنبض المجتمع و إعطاء كل ذي حق حقه ، و في النزاهة و الوضوح ، عوض فرض الأمر الواقع و تنزيل قرارات مصيرية بشكل عمودي و بطريقة وزعت فيها الأدوار بشكل لا رجعة فيه بين طرف يقرر و طرف ليس له إلا الإذعان و الامتثال ، و في حالة العكس تحضر الأدوات المعروفة ، القمع والعنف كما تابعنا في العديد من القضايا آخرها قضية النظام الأساسي لقطاع التعليم الذي تمت صياغته في عتمة الكواليس و تم تمريره في المجلس الحكومي و نشره في الجريدة الرسمية في وقت قياسي ، و لم يكن من نصيب الأصوات الرافضة إلا التعنيف و التنكيل و الاعتقال و الحط من الكرامة ، و هو نفس السيناريو الذي تابعناه قبل ذلك في احتجاجات الريف و جرادة و غيرها ، و هي نفس المقاربة التي تم نهجها مع مناضلي الحركة الأمازيغية غير ما مرة . إن الديموقراطية تتجلى كذلك في التوزيع العادل للثروة و المساواة في الحقوق الأساسية و المصالحة مع الذات و ترميمها بنفس المواد التي استعملت في بنائها عوض تسول مواد أولية غريبة عنها و لا تمت لماضيها و لا حاضرها بصلة . إن الديموقراطية ليست حالة قارة و نهائية ، بل هي سيرورة دائمة و منفتحة . إن الأصح هو الحديث عن الدمقرطة كعملية منفتحة على كل الإمكانات التي تسمو بالقيمة المطلقة للّإنسان ، عملية تتجاوز تلك العملية الحسابية البئيسة التي تقسم الأصوات إلى أغلبية و أقلية كميكانيزم يضفي الشرعية على الظلم و الإقصاء . و بالتالي فالنضال من أجل الديموقراطية و الدمقرطة مستمر و له مبرراته القوية و الواقعية .

ترسيم الأمازيغية :

لقد اعتبر مطلب ترسيم الامازيغية في دستور ديموقراطي شكلا و مضمونا من طرف تنظيمات و فعاليات الحركة الامازيغية عصب الملف المطلبي الامازيغي ، و بعد أن ووجه هذا المطلب بالرفض المطلق من طرف الدولة و الكثير من التنظيمات الحزبية و الجمعوية و من طرف مجموعة من الأصوات التي تخندق نفسها في خانة الفكر و الثقافة ، طيلة عقود من الزمن ، يتم الآن تسويق فكرة تحقيق المطلب و بالتالي لا جدوى الاستمرار في المطالبة بتحقيقه ، لكن هل تحقق ذلك فعلا ؟

لا شك أن ترسيم الامازيغية ليس هدفا في حد ذاته ، بل إن الحركة الامازيغية اعتبرته مطلبا رئيسيا نظرا لما يكتسيه من أهمية في حماية الامازيغية و تأهيلها و تطويرها و إدماجها في جميع مشاريع الدولة و برامجها و مؤسساتها ، فالأهم ليس هو الترسيم بذاته ، بل ما يفترض أن يتيحه و يضمنه هذا الترسيم ، لكن هل حدث ذلك بعد مرور اثنتا عشر سنة من ترسيمها ؟ الجواب الموضوعي هو النفي ، فالامازيغية لم يتم تعميمها لا أفقيا و لا عموديا في المدرسة المغربية ، و الامازيغية غائبة عن قطاع العدل ، و دفاتر التحملات لا يتم احترامها في الإعلام المغربي ، والخطاب الرسمي لازال يعتبر المغرب بلدا عربيا و شمال افريقيا مغربا عربيا و تاريخ المغرب يعود إلى اتنا عشر قرنا فقط ، فهناك فرق شاسع بين الدولة الدستورية و الدولة التي لها دستور ، فالدولة الدستورية تعتبر الدستور بمثابة تعاقد بين الدولة و الشعب ، و بوصلة تحدد التوجهات الكبرى التي ستعمل الدولة على العمل بها عمليا ، و نبراسا يضيء كل تحركاتها و قراراتها و اختياراتها ، لكن الدستور في المغرب في الكثير من محتوياته ، للأسف الشديد ، يبقى حبرا على ورق اعتبرته الدولة هدفا في حد ذاته لخلق تسويات معينة و خلق واقع وهمي لا حياة له خارج القرطاس ، و هذا ما يجعل المغرب دولة لها دستور و ليس دولة دستورية ، كما أن الصيغة الشكلية التي يتم بها وضع الدستور المغربي ، و الكثير من المضامين التي تنظم العلاقة بين الحرية و السلطة و تدبير الثروات المادية و الرمزية للمغاربة تطرح عدة تساؤلات لا نريد الخوض فيها في هذا المقال . كل ذلك يجعل مطلب ترسيم الامازيغية في دستور ديموقراطي شكلا و مضمونا لازال قائما.

إدماج الأمازيغية في منظومة التربية و التكوين :

لقد تم وضع أرضية لإدماج الامازيغية في المنظومة التربوية منذ 2003 وفق تصور معين و برمجة زمنية محددة ، لكن بعد مرور عشرين سنة ، أي في سنة 2023 ، لم يتم الوفاء بكل ذلك ، فالامازيغية اليوم يمكن أن نقول أنها خارج المدرسة المغربية العمومية منها و الخصوصية و عن مؤسسات التكوين ، فهي غائبة نهائيا عن المدرسة الخصوصية و عن التعليم الأولي ، أما تامازيغت في المدرسة العمومية فهي غائبة كليا عن السلكين التأهيلي و الإعدادي ، و غائبة عن مئات المدارس الابتدائية ، و تم الزج بها خارج جدول الحصص ، و ليس لمدرسها قاعة / قسم خاص به ، و هي ليست مؤثرة في نجاح أو رسوب المتعلمين ، و تبقى غير محمية قانونيا بمذكرات و مراسيم تعطيها المكانة التي تستحقها و تجعلها إجبارية ، مما يتركها في كثير من الأحيان تحت رحمة مزاجية بعض المتدخلين . كما أن الأمازيغية غائبة نهائيا عن مؤسسات التكوين المهني و عن معاهد التكنولوجيا و مدارس المهندسين و مراكز التكوين الخاصة بجميع الوظائف العمومية : التعليم – التمريض – القضاء … الخ ، إلى غير ذلك من المعطيات التي تبين أن هذا المشروع أريد له أن يولد ميتا ، و ليس هناك ما يعكس إرادة الدولة في إنجاح إدماجها و لا في الالتزام بما تم تسطيره ، و بالتالي فمطلب إدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية لازال قائما ، بل و ملحا في ظل السرعة التي يسير بها مسلسل التعريب ، و في ظل اقتيات شبح الزمن من الكثير من مقومات اللغة الأمازيغية .

قطاع العدل

بالنسبة لقطاع العدل فالصورة غارقة في السوداوية ، ففي سنة 2022 ، أي بعد 11 سنة من ترسيم الامازيغية ، و بعد ثلاث سنوات من إصدار القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للامازيغية ، صدر التنظيم القضائي الذي يعتبر بشكل صريح و واضح لا يقبل التأويل أن لغة التقاضي هي العربية ، و اللغات الأجنبية ستستفيد من الترجمة ، إما بواسطة مترجم محلف أو بعد أداء اليمين ، و لم يتم تحديد وضعية الامازيغية بشكل جلي داخل منظومة العدالة ، إذ تمت الإشارة فقط إلى أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار مسألة تفعيل الطابع الرسمي للامازيغية دون تحديد أي التزام أو برمجة أو خطة و لا أي شيء من هذا القبيل . و بالتالي فمطلب إدماج الأمازيغية في منظومة العدالة لازال قائما ، لاسيما أنه يعصف بالحق في المحاكمة العادلة و بالكثير من الحقوق المرتبطة به .

الأمازيغية في الفضاء العمومي

على مستوى الهوية البصرية ، فهناك تطور ملحوظ في حضور تيفيناغ في الفضاء العمومي مقارنة مع ما كان عليه الأمر قبل سنوات ، لكن هناك ملاحظات مقلقة تجعل الشك يتسرب إلينا في مدى حسن نية مؤسسات الدولة ، أو على الأقل في مدى جديتها في التعامل مع البعد الرئيسي في هويتنا ، و تتجلى هذه الملاحظات أولا في أن هناك العديد من المؤسسات العمومية و الجماعات الترابية و المرافق العمومية و الفضاءات العمومية و الوثائق الرسمية التي لا تستعمل الامازيغية بحروفها تيفيناغ بشكل مطلق ( مثال : البطاقة الوطنية – جواز السفر – الفواتير : الماء و الكهرباء مثلا ، – الأوراق المالية – السيارات التابعة للمؤسسات العمومية : الشرطة و الدرك و وزارة العدل مثلا … الخ ) ، و هناك مؤسسات و إدارات و وزارات استعملت تيفيناغ في واجهاتها و في المرافق التابعة لها بكيفية متضمنة لأخطاء فادحة ( هناك من نبهنا إليها في مختلف مناطق المغرب قبل أو بعد إنجازها دون أية نتيجة ، و لدينا أمثلة عن كل ذلك ) و هناك واجهات استعملت تيفيناغ بشكل صحيح ، لكن بكتابة غير واضحة و صغيرة الحجم و في مرتبة ثالثة بعد العربية و الفرنسية .

هذا على مستوى كتابة اللغة الأمازيغية ، أما على مستوى استعمالها و التحدث بها ، فهذا ورش مغيب بشكل نهائي ، ففي القطارات و في الترامواي و في الطائرة و في الشواطئ و غيرها تستعمل اللغة العربية و الفرنسية و يتم تغييب الامازيغية نهائيا . و هذا ما يجعل مطلب حضور الامازيغية في الفضاء العمومي لا يزال قائما .

الأمازيغية في الإعلام السمعي البصري

أما الإعلام السمعي البصري ، فصحيح أنه تم إنشاء قناة أمازيغية هي المعروفة بالثامنة ، لكن بعد ثلاثة عشر سنة من إنشائها لم تصل بعد إلى البث على مدار أربعة و عشرين ساعة ، و في أوقات البث تقدم هذه القناة باقة من البرامج الرديئة جدا على مجموعة من المستويات الشكلية منها و التقنية و من حيث المحتوى كذلك ( لابد من الإشارة إلى وجود برامج جيدة ، لكنها تبقى قليلة جدا مقارنة مع البرامج الرديئة المقدمة في القناة ) ، كما أن أغلب صحفيي القناة يتحدثون بلغة خضروفية لا تمت للأمازيغية بصلة ، بل هي لغة عربية تتخللها بعض الكلمات و الروابط باللغة الامازيغية ، حتى ضن الناس أن العيب كامن في اللغة الامازيغية و ليس في صحفيي القناة و القيمين عليها . كما أن الفيلم و السينما و المسلسل و المسرح الأمازيغي لا يحضى بالدعم الذي يستفيد منه مثيلها الناطق بالدارجة ، مما يجعل القناة الثامنة تعتمد بالأساس على الإعادات و على ترجمة الأعمال الناطقة بالدارجة إلى اللغة الأمازيغية .

هذا غيض من فيض من الملاحظات التي سيسجلها أي شخص يتابع القناة ، علما أن كل هذا لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن أن القنوات المغربية العمومية الأخرى لا تحترم دفتر التحملات في ما يتعلق بالامازيغية ، و لا حسيب و لا رقيب لها في هذا المستوى ، و بالتالي فمطلب إدماج الأمازيغية في الإعلام بطريقة تشرفها و تعرض كنوزها الخفية و تلامس الهموم الحقيقية لشعبها و تقدمها في أبهى حلة لازال قائما .

كتابة التاريخ بأقلام وطنية موضوعية

في ما يخص إعادة قراءة التاريخ و كتابته بأقلام وطنية و احترام العمق الحضاري للبلاد ، فمازالت عبارات مثل المغرب العربي و البلد العربي و الشعب العربي تتكرر في مختلف القنوات الاعلامية المرئية منها و المسموعة و المكتوبة ، و لازالت أسطورة اثنا عشر قرنا تلوث أسماعنا ، و لازلنا نجهل ماضينا و حاضرنا ، و لازلنا ننسب كل تراثنا المادي و اللامادي للغير ، و نعيش الفراغ و نتسول هوية نملكها أصلا ، و لازالت الدولة تتخندق في تحالفات و في مؤسسات تتجاوز الموقع الجغرافي لبلادنا ( القارة الافريقية و شمال افريقيا ) و ترميها في أحضان تجمعات عرقية مفارقة لواقع بلادنا و تاريخها و عمقها الحضاري .كما لا يجب أن نغفل على كون الكثير من الكتب المدرسة و الدعامات التربوية المسستعملة في المدرسة المغربية تحمل معطيات تاريخية و ثقافية مغلوطة يتم تمريرها للمتعلمين بشكل مقصود لجعلهم مستلبين و متنكرين لذواتهم . بل إن بعض النصوص التي تغرد خارج سرب الكتابة الموضوعية للتاريخ و إعادة الاعتبار للذات الوطنية ، يتم الاعتماد عليها في الامتحانات الاشهادية في تشويه ممنهج و مقصود لهوية البلاد . بالإضافة إلى ضرورة تسجيل كون الكثير من المعطيات التاريخية التي يقدمها عدد كبير من المرشدين السياحيين للمغاربة و الأجانب الذين يزورون مختلف مناطق بلادنا تنقل صورة مغلوطة عن تاريخ البلاد و واقعها ، إذ يتم ربط أغلب المآثر التاريخية بحضارات أخرى عربية كانت أو رومانية أو غيرها مما يفرغ العمق الحضاري الأمازيغي من مكوناته و عناصره و يصور الشعب الامازيغي ، بطريقة غير مباشرة ، على أنه شعب لم ينتج أية حضارة إنما كان ينتظر الغزاة لكي يشيدوها على أرضه ، في الوقت الذي يكفي فيه بدل مجهود بسيط لمعرفة عظمة الحضارة التي خلفها الإنسان الامازيغي في شمال إفريقيا و التي لازالت العديد من الآثار تدل عليها ، عوض البحث عن الحل الكسول و الخبيث الذي يتجلى في ربط كل تراثنا المادي و اللامادي بالآخر . و بالتالي فمطلب إعادة كتابة التاريخ و احترام العمق الحضاري للبلاد مطلب لازال قائما .
ربط الامازيغية بسوق الشغل

أما مسألة ربط الأمازيغية بسوق الشغل فهي مسألة تحصيل حاصل ، فمادامت الأمازيغية غائبة عن الفضاء العام و عن الادارات و المؤسسات العمومية و عن المشاريع البنيوية للدولة، إلا بكيفية محتشمة ، فإن من الطبيعي أن تكون مكانة الامازيغية في سوق الشغل ضيقة و محصورة جدا مقارنة مع ما يجب أن يكون ، و بالتالي فإن مطلب ربط الأمازيغية بسوق الشغل لا زال قائما .

خاتمة

لا شك أن الظروف التي تشتغل فيها الحركة الأمازيغية و السياقات الوطنية و الدولية التي تتحرك في إطارها قد تغيرت بشكل كبير ، مما يلزم الحركة بتغيير آليات عملها و استراتيجية ترافعها عن الامازيغية و عن مشروعها المجتمعي و إبداع أشكال نضالية و احتجاجية و ترافعية جديدة ، و ربما البحث عن تحالفات جديدة مبنية على توافقات و أجندات و غايات واضحة و محددة. لكن الأكيد أن النضال من أجل إنصاف الأمازيغية إنسانا و أرضا و لغة و ثقافة لا تزال أسباب نزوله قائمة ، و هو ما حاولنا توضيحه أعلاه ، حيث أن مؤشرات وجود إرادة سياسية حقيقية لإنصاف الامازيغية و دمقرطة المشهد السياسي و الاقتصادي و الثقافي غائبة للأسف الشديد في بلادنا ، و بالتالي فعلى كل الضمائر الحية و كل من يؤمن بحقوق الانسان و حقوق الشعوب و بالدمقرطة أن يشحد الهمم ، لأن المعركة مستمرة و دربها شاق و طويل ، و لكنها تستحق أن نخوضها .

اقرأ أيضا

الإحصاء العام: استمرار التلاعب بالمعطيات حول الأمازيغية

أكد التجمع العالمي الأمازيغي، أن أرقام المندوبية تفتقر إلى الأسس العلمية، ولا تعكس الخريطة اللغوية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *