مساء الأربعاء الماضي كان المغاربة على موعد مع قرار ملكي سيبقى في ذاكرتهم لعقود طويلة. فقد صدر بلاغ عن الديوان الملكي يزف فيه قرار العاهل المغربي الملك محمد السادس بإقرار رأس السنة الأمازيغية، عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها، على غرار فاتح محرم من السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية، ومقدماً توجيهاته لرئيس الحكومة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل هذا القرار الملكي. ومما جاء في البلاغ أن هذا القرار يأتي تجسيداً للعناية التي يوليها الملك للأمازيغية باعتبارها مكوناً رئيسياً للهوية المغربية الأصيلة الغنية بتعدد روافدها، ورصيداً مشتركاً لجميع المغاربة من دون استثناء. كما يندرج في إطار التكريس الدستوري للأمازيغية كلغة رسمية للبلاد إلى جانب اللغة العربية.
اعتماد رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية مدفوعة الأجر، مثل مطلباً شعبياً واسعاً لسنوات عدة، بل إن تيارات وأحزاب سياسية طالبت بشكل واضح باعتماد رأس السنة الأمازيغية كعطلة على الأقل منذ عشر سنوات. هذه الدينامية المطلبية، جاءت في سياق ما حمله الملك محمد السادس في السنوات الأولى من جلوسه على العرش من آمال بخصوص اللغة والثقافة الأمازيغيتين، وقد اتضح ذلك جلياً منذ الخطاب الملكي في أجدير الذي كان بمثابة انطلاق مرحلة جديدة في تاريخ الأمازيغية بالمغرب. ففي 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2001، كان المغاربة أمام لحظة مصالحة عميقة مع حزء من الهوية الثقافية والحضارية للبلاد. قال الملك محمد السادس في ذلك الخطاب إن “العمل الذي نقدم عليه، اليوم، لا يرمي فقط إلى استقراء تاريخنا؛ إنه بالأحرى تجسيد لقوة إيماننا بالمستقبل، مستقبل مغرب التضامن والتلاحم، مغرب الإرادة والجد، مغرب الفضيلة والطمأنينة والرصانة، مغرب الجميع، القوي بوحدته الوطنية”.
عرفت البلاد بعد ذلك الخطاب دينامية مهمة تُوجت بمعيرة اللغة الأمازيغية واعتماد حرف تيفيناغ لكتابتها، إضافة إلى مظاهر مصالحة كبيرة مع الأمازيغية على كل الأصعدة خصوصاً فتح ورش تدريسها لجميع المغاربة وإن كانت هذه الورش إحدى أكبر انتكاسات الأمازيغية في السنوات الأخيرة، ذلك أن الأمازيغية كلغة أم ينطبق عليها ما ينطبق على باقي اللغات، فهي “بثقل استراتيجي هام في حياة البشر والكوكب بوصفها من المقومات الجوهرية للهوية وركيزة أساسية في الاتصال والاندماج الاجتماعي والتعليم والتنمية”، إذ هكذا تقدم الأمم المتحدة اللغة الأم التي كانت منذ عقود في بلادنا، موضوع نقاش طويل، وموضوع مطالب ثقافية تحولت إلى حقوقية ثم في مرحلة أخيرة أصبحت سياسية، لماذا؟ لأن النهوض بلغة ما وحمايتها من الإندثار، هو تعبير عن إرادة سياسية ويتم عبر قرار سياسي.
كانت معركة اللغة الأمازيغية في المغرب؛ نموذجاً لمعركة طويلة لإقرار الحقوق الثقافية بشكل شمولي في مرحلة لاحقة، فبعد 2011 ومع الدستور الجديد، حققت المطالب الأمازيغية أهم المكاسب والمتمثلة في دسترة الأمازيغية كلغة رسمية للبلاد.
لم يكن الاعتراف الدستوري بالأمازيغية لغة رسمية بالشيء الهيّن بالطبع، فرغم وجود هذا المطلب في كل الوثائق الصادرة عن الحركة الثقافية الأمازيغية منذ “ميثاق أكادير” سنة 1991 إلى “البيان الأمازيغي” سنة 2000، مروراً بالمذكرة المرفوعة للملك الراحل الحسن الثاني سنة 1996 أثناء التعديلات الدستورية، فإنه لم تتم الاستجابة لهذا المطلب إلا سنة 2011 في سياق وطني وإقليمي تميز بتداعيات “الربيع العربي” ونسخته المغربية “20 شباط (فبراير)، وكان ضرورياً … انتظار سنوات بعد إقرار الدستور لتصدر القوانين التنظيمية المتعلقة بالأمازيغية كآخر القوانين التنظيمية التي تم إصدارها (بإستثناء القانون التنظيمي للإضراب)، ففي الوقت الذي كان من المفترض أن تصدر كل القوانين التنظيمية عند نهاية ولاية حكومة عبد الإله بنكيران وفق ما ينص عليه الدستور، فإن الواقع كان على عكس ذلك.
في الولاية التشريعية السابقة أقر البرلمان القانون الرقم 04/20 المتعلق بالبطاقة الوطنية للتعريف الإلكترونية، ينص هذا القانون في المادتين 4 و5 على كتابة المعطيات التي تتضمنها البطاقة الوطنية على وجهيها الأمامي والخلفي بالحروف العربية واللاتينية، هكذا من دون تحديد صريح للغة التي يجب أن تُكتب بها تلك المعطيات، فهذه الحروف هي مجرد أبجدية يمكن كتابة أكثر من لغة بها، فالأوردية والفارسية والكردية مثلاً إضافة إلى اللغة العربية، تكتب كلها بالحرف العربي – الآرامي، وكذلك الأمر بالنسبة للحرف اللاتيني، حيث تكتب به كثير من اللغات حول العالم كالفرنسية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية… الخ، وهو ما يعني أن القانون واقعياً، لا يحدد بشكل صريح أي لغة ستكتب بها معطيات البطاقة الوطنية، علماً أن القانون ذاته لا ينص على صدور نص تنظيمي لتوضيح وتدقيق هذا الأمر ورفع اللبس الذي يكتنفه والمتروك لتأويل الإدارة في موضوع لا يجب أن يكون قابلاً للتأويل، لكن المؤكد أن صيغة القانون تستثني بصفة مطلقة كتابة معطيات البطاقة الوطنية بحرف التيفيناغ وهو الحرف القانوني لكتابة اللغة الأمازيغية في المغرب.
وإذا كان معروفاً مسبقاً أن تأويل الحرف العربي سيكون هو الكتابة باللغة العربية وهو وضع طبيعي ومنطقي لأن العربية لغة رسمية، كما أنه سيتم اعتماد الفرنسية وليس الإنكليزية مثلاً كتأويل للكتابة بالحرف اللاتيني وذلك من دون أي سند قانوني طبعاً، فإن إقصاء اللغة الأمازيغية يتعارض بشكل واضح مع الفصل الخامس من الدستور ومع القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، فالدستور ينص في فصله الخامس في فقرته الثانية والثالثة صراحة على ما يلي :
“تعد الأمازيغية أيضاً لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيداً مشتركاً لجميع المغاربة من دون استثناء. يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفية إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلاً بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية”.
بينما نجد في الباب السادس من القانون التنظيمي الرقم 16/26 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفية إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، والمتعلق باستعمال الأمازيغية في الإدارات وسائر المرافق العمومية ينص بشكل واضح لا لبس فيه في المادة 21 على: “تحرير باللغة الأمازيغية، إلى جانب اللغة العربية، البيانات المضمنة في الوثائق الرسمية التالية:
– البطاقة الوطنية للتعريف؛ عقد الزواج؛ جوازات السفر؛ رخص السياقة بمختلف أنواعها؛ بطاقات الإقامة المخصصة للأجانب المقيمين بالمغرب؛ ومختلف البطاقات الشخصية والشواهد المسلمة من قبل الإدارة”. فكيف سمحت الحكومة السابقة لنفسها أولاً بخرق الدستور، وثانياً بخرق القانون التنظيمي للأمازيغية؟ كيف تفرض الحكومة على مواطن مغربي أن يحمل بطاقة هويته الوطنية وهي تتسع للغات العالم بينما تضيق عن لغته الأمازيغية؟ فهل تتدارك الحكومة الحالية ذلك، من جهة أولى، احتراماً لما أحدثه القرار الملكي الأربعاء الماضي من مرحلة جديدة في التعاطي مع موضوع الأمازيغية؟ ومن جهة ثانية احتراماً للدستور والمنطوق الصريح والواضح للقانون التنظيمي المتعلق بمراحل تطبيق الأمازيغية كلغة رسمية؟ وأخيراً اختباراً لما أبدته الحكومة من جدية غير مسبوقة في موضوع الأمازيغية؟
خطاب أجدير كان انطلاقة لمسلسل من المصالحة الثقافية على غرار المصالحة السياسية التي شكلت نقطة تحوّل كبير في مسار البناء الديموقراطي في المغرب وترسيخ الوحدة الوطنية، وجاء واقع دستوري، صالح البلاد مع جزء أساسي من هويتها الوطنية من خلال التنصيص الدستوري على الأمازيغية وعلى الجانب الهوياتي المتعدد للمغرب الذي جاء في تصدير الوثيقة الدستورية، وكذلك التنصيص في الفصل 5 من الباب الأول على أن “الأمازيغية تُعد أيضاً لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيداً مشتركاً لجميع المغاربة، من دون استثناء…”.
لقد كان من المفترض أن يكون المغرب سبّاقاً لترسيم السنة الأمازيغية عيداً وطنياً، ويكون قاطرة لباقي الدول المغاربية حتى يكون هذا العيد إضافة جديدة ونوعية للهوية المغاربية المشتركة. إن عدم الوضوح والتردد في موضوع الهوية الوطنية من طرف الحكومتين السابقتين، وبصفة خاصة ما يتعلق بالأمازيغية، استوجب التعامل معه بكثير من الحذر، لأن فتح الآمال للناس وإطلاق الوعود، ومتى لم تتحقق، فإنها تهدم الصدقية، بل تعزز شعوراً جماعياً بـ”الظلم” والوقوع ضحايا “للخديعة”… وعندما يصادف ذلك مناطق ترابية توجد على هامش السياسات العمومية منذ سنوات، وتعاني من أشد وأقسى درجات العزلة والتهميش، فإن ذلك سوف لن يكون سوى تركيبة مثالية لغضب قد لا نعرف حدوده… لذلك يمكن القول إن القرار الملكي باعتماد رأس السنة الأمازيغية عطلة وطنية، جاء ليقدم نفساً جديداً للأمازيغية هي بحاجة إليه.