أخبار عاجلة

الأمازيغية وإعادة كتابة التاريخ

بقلم الدكتور ابراهيم الگبلي أستاذ الأدب المقارن—الولايات المتحدة الأمريكية

أريد في هذه المقالة طرح إشكاليات أراها ضرورية لمن يشتغل في حقل الدراسات الامازيغية ويعتبر نفسه معنيا بإعادة كتابة تاريخ المغرب أو تامازغا من منظور أمازيغي لا يقصي التداخلات والتكاملات التاريخية التي حدثت نتيجة التمازج بين العنصر الأصلاني الأمازيغي وبقية الشعوب الأخرى التي كانت ومازالت جزءا من هذا التاريخ. فتاريخ تامازغا هو تاريخ شعوبه التي تداخلت فيما بينها على مر العصور وإعادة كتابته لا يمكن أن تتم دون الاهتمام بأهمية العنصر الأمازيغي كأساسه الصلب. في نفس الوقت، وجب التحذير أن إعادة كتابة التاريخ لا تعني لي عنق المصادر التاريخية وتقويلها ما لم تقله كما أنها لا تعني القبول بصمت هذه المصادر على العنصر الأمازيغي وإلغائها له. إعادة كتابة التاريخ تفترض عملا منهجيا يمزج بين قراءة المصادر قراءة متأنية ونقدية والحرص على إدخال الشك المنهجي في حقيقة الوقائع التي يتم استخلاصها من هذه المصادر بتقديم تفسيرات واجتهادات أخرى تفتح السردية التاريخية على الآفاق تُشعر التي يفتحها تعدد وتنوع السرديات حول الماضي. فليس هناك ماض يسير بطريقة خطية وفق سردية أفقية انسيابية لأن كل تاريخ، في الحقيقة، عبارة عن “تواريخ” (histories) وكل من يشتغل في الحقل التاريخي ولا ينطلق من هذا المعطى فعليه أن يعيد النظر في انتمائه لهذا الحقل.

يتكسي التاريخ أهمية أكبر للعاملين في حقل الدراسات الأمازيغية لأن وضعيتنا ناتجة عن تقلباته وشح مصادره وغلبة منظور المنتصر على المرويات التي تتناول ماضي بلاد الأمازيغ أو تامازغا.

انطلاقا من هذه المعطيات، ما هي، يا ترى، بعض الضوابط التي يجب أن يتقيد بها الباحث أو الدارس المشتغل على إعادة كتابة التاريخ من منظور أمازيغي؟ قبل جرد بعضا من هذه الضوابط، أود أن أشير إلى أن الحقل التاريخي مجال متشعب تتقاسمه مدارس كثيرة لا مجال لذكرها الآن. كما أود أن أشير إلى أن المدرسة التاريخية “التامزغية” (نسبة إلى تامازغا) تتميز بكثير من الدينامية والابداع وأنصح القراء بالعودة إلى أعمال رودها من باحثين ونشطاء لفهم إشكاليات البحث التاريخي وإعادة كتابة التاريخ في مجالهما الأوسع.

أما فيما يتعلق بالضوابط، فأقترح ما يلي:

1. اكتساب المعرفة الدقيقة بإشكاليات كتابة التاريخ المغربي والتاريخ بشكل عام. فلا يمكن للباحث العامل في المجال الأمازيغي أن يشتغل في مجاله دون أن يكون مدركا للإشكاليات الكبرى التي يطرحها الاشتغال على تاريخ تامازغا من حيث التحقيب (periodization) والمصادر (sources) والفاعلين (actors) والعلاقة بين الذاكرة والتاريخ (history and memory). لذلك، يجب على المهتم أن يبدأ بقراءة كتب محمد القبلي عن الدولة والمجتمع في العصر الوسيط للتعرف على الأسئلة التي ظلت مغيبة عن الاهتمام التاريخي بعد دخول الإسلام إلى تامازغا. بعد التكم من الأسئلة الكبرى، يتعين على الباحث دراسة أعمال عبد الأحد السبتي ومحمد كنبيب وامبارك زكي كمؤرخين بارزين عملوا على مواضيع استشكلت حقول تاريخية لم تستفد كثيرا من البحث قبل اشتغالهم عليها. هؤلاء متخصصون قضوا وقتا طويلا في التفكير في محاولة الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها إعادة الكتابة كانشغال معرفي له تمظهرات اجتماعية وثقافية وسياسية لابد للمؤرخ من التعامل معها بحكمة منجية ومعرفة مستفيضة.

 

2. التعرف عن مجالي الذاكرة والتاريخ واستزادة المعرفة بخصوصهما. لقد كان المؤرخون المغاربة بعد الاستقلال يمزحون بأن التاريخ ينتهي في سنة ١٩١٢ حيث الذاكرة لذلك كان جل اهتمامهم منصبا على تاريخ ما قبل الاستعمار اتقاء لمشاكل الذاكرة. هذه الأخيرة هي التاريخ الحي الذي يعيش صانعوه بينا بينما التاريخ يعيش فقط في الوثائق والمصادر التاريخية التي فقدت قدرتها على التأثير في الواقع (هذا كلام نسبي بطبيعة الحال). فعندما يقول المؤرخ إن التاريخ ينتهي في سنة ١٩١٢، فهذا يعني أن هناك محاذير كثيرة يجب أن يعرفها المشتغل على الفترة التي يتقاطع فيها التاريخ بالذاكرة من قبيل وجود من عايشوا هذه الفترة ويستطيعون أن يكذبوا المؤرخ أو مقاضاته مثلا وقد حدث هذا فعلا خلال سنوات الألفين. لهذا السبب تحاشى الكثير من المؤرخين المغاربة الكتابة عن مواضيع قريبة منهم زمنيا، مثل تاريخ الحركة الوطنية مثلا. فمن يشتغل في حقل الدراسات الأمازيغية لا يمكنه أبدا التغاضي عن قوة الذاكرة كمكون من مكونات التاريخ الأمازيغي الحديث. فعندما يستفز شخص ما الأمازيغ بتشكيكه في رموزهم وسرديتهم لتاريخهم الحديث، حتى ولو كان هذا الشخص أمازيغيا، يجب أن نفهم أن ردهم المتشنج عليه رد طبيعي لأن هذه السرديات مازالت في مجال الذاكرة ولم تدخل بعد مجال التاريخ الميت الذي لا تأثير له على حاضر جهود إحياء الأمازيغية ودمجها مؤسساتيا. لذلك، لا يمكن لمن يريد أن يعيد كتابة التاريخ أن ينخرط في ورش مثل هذا دون أن يأخذ في الحسبان قوة الذاكرة ووقعها في المجتمع.

 

3. نقد المصادر التاريخية المتداولة: المصادر التاريخية ليست قدرا والسرديات التي تُمتح منها ليست حقيقة مطلقة لا يرقى إليها الشك. كما لا توجد حقيقة علمية مطلقة، ليس هناك مصدر تاريخي يتضمن حقيقة لا يمكن التشكيك فيها. لذلك يجب على المشتغل في حقل الدراسات الأمازيغية أن يقارب كل المصادر، حتى الأمازيغية منها، بالشك المنهجي ويقوم بمقاطعة المعلومات التي تتضمنها بالمعلومات الموجودة في مصادر أخرى أو بطرح أسئلة تشكك في الروايات التي تتضمنها هذه المصادر. كما يقول المؤرخ Michel-Rolph Trouillot في كتابه Silencing the Past: Power and the Production of History، هناك أربع محطات يدخل منها الصمت إلى السردية التاريخية: مرحلة تشكيل المصادر ومرحلة تكوين الأرشيف ومرحلة بناء السرديات ثم مرحلة صياغة التاريخ. ففي كل مرحلة من هذه المراحل يتسرب الإلغاء إلى ما سيصبح فيما بعد تاريخا. بالنتيجة، يجب مقاربة كل مت تتضمنه المصادر من حقائق تاريخية على أنها فقط تاريخ واحد من بين تواريخ ممكنة كثيرة فقد بعضها بسبب تسلل الصمت إلى الأرشيفات والمصادر. فعندما نشتغل على إعادة كتابة تاريخ تامازغا، فأول عمل يجب القيام به هو فهم هذا الصمت والتعامل معه منهجيا بطريقة ناجعة.

 

4. فهم أهمية السرد في التاريخ. كما بيَّنHayden White في أعماله، فالمؤرخون يكتبون أنواعا مختلفة من السرد يختلف حسب ما يختاره كل مؤرخ. فليس هناك تاريخ بدون سرد أو حكي لأن هذا الأخير هو اللحمة التي تخلق انسجام المعطيات التاريخية بعدما يتم استخراجها من المصادر المختلفة. فبدون سرد، ستبدو المعلومات المستخرجة من المصادر كلائحة طويلة من المعطيات ليس بينها رابط منطقي. السرد هو الذي يساعد المؤرخ على الربط بين معلوماته ويمكِّنه، في نفس الوقت، من ربطها بقضايا أكبر وأوسع. فالتاريخ المجهري (microhistory) يستطيع أن يفسر لنا كيف تصل كسرة الخبز من ماكن بعيد جدا إلى فم المستهلك عن طريق سرد رحلة القمح من مكتم الإنتاج إلى مكتم الاستهلاك.

فعندما ننخرط في ورس إعادة كتابة التاريخ من منظور أمازيغي لا يجب أن يكون الهدف هو إقصاء السرديات السائدة حاليا، والمضرة طبعا بصمتها عن مساهمات الأمازيغ في تاريخ تامازغا، بل بتوسيع هذه السرديات بشكل يجعلها تفقد نسقها الداخلي وهيمنتها على طريقة فهم الماضي. الهدف ليس نسف الأساس، بل تبيان تهافته وتناقضه مع ما وصلت إليه العلوم والاكتشافات في مجالات الأنثربولوجيا والأركيولوجيا وغيرها من العلوم المنشغلة بالماضي. فالعمل على تفكيك السرديات القديمة وتأسيس سرديات جديدة كلها عمليات ضرورية في أفق إعادة قراءة التاريخ بطريقة ممنهجة ومتأنية لا تقصي الحقائق المنتشرة حاليا بل تساعد على توسيع أفقها وتعميق أبعادها بأشكال لم يتوقعها أصحابها الأصليون. في المجمل، يجب جعل الوقائع والمصادر تقول تاريخا مختلفا عن الذي استرجعه منها من كان يحمل إيديولوجيا لم تكن تستوعب أهمية الأمازيغ في تاريخ وطنهم الأصلي تامازغا.

ختاما، إعادة كتابة تاريخ تامازغا ورش كبير يتطلب الكثير من الجهد والاجتهاد والخلق والإبداع وعلى من يريد خوض غماره التزود بالعدة المعرفية والحصافة المنهجية الضروريتين للنجاح في المساهمة في تثوير الميدان التاريخي دون جعل المجهد الشخصي والمنفعة المادية المحرك الأساسي للمشاركة في هذا المجهود.

اقرأ أيضا

محمد شوكي يسائل وزير التعليم العالي حول إقصاء حملة الإجازة المهنية في ديداكتيك الأمازيغية من الترشح لماستر ديداكتيك الأمازيغية

وجه النائب البرلماني محمد شوكي عن التجمع الوطني للأحرار سؤالا كتابيا إلى وزير التعليم العالي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *