تلعب المؤسسات دورا أساسيا في تسيير شؤون الدولة وتدبير الشأن العام والارتقاء به، فوضعها القانوني وجودتها وحكامتها ومردوديتها هو الشرط والمدخل الأساسي لتحقيق التطور الديموقراطي والاجتماعي والثقافي والتنمية الشاملة. الا أن بنية هذه المؤسسات وذهنيات تشكيلها وتدبيرها تشكل عائقا فعليا في بلادنا أمام تحقيق الأهداف و الطموحات المذكورة. هي تحديات ومعوقات بنيوية تعوق فعالية أدائها ومردوديتها، ومن أبرزها ظاهرتا “الصناعة المغشوشة” ” للكفاءات” و”التشبيب الوهمي”، وبنية التدوير والولاء، هاتان الظاهرتان تشكلان عقبة أمام إحداث التغيير الحقيقي الذي تحتاجه هذه المؤسسات، وتؤديان إلى إعادة إنتاج أنماط تقليدية قديمة تحت غطاء تجديد صوري، مما يعيق أي تطور جوهري.
عند النظر إلى “الصناعة المغشوشة” من منظور سوسيولوجي، نجد أنها تعبر عن محاولات لإحداث تغييرات سطحية داخل المؤسسات دون المساس بجوهر الأداء أو تغيير البنى الأساسية، تبدو هذه التغييرات على أنها ابتكارات أو إصلاحات، لكنها في الحقيقة مجرد تعديلات تجميلية تُبقي المؤسسة في دائرة الجمود، هذا النمط من “التجديد الزائف” لا يسهم في تطوير الأداء المؤسسي بقدر ما يُكرس حالة الركود، حيث تكون التغييرات مقيدة بطابعها الشكلي.
بالتوازي مع ذلك، تسهم ظاهرة “القبلية الجديدة” بمعناها الحديث، القائم على التحالفات المبنية على المصالح المشتركة، في تعميق هذا الجمود، لم تعد القبلية في هذا السياق مرتبطة بالهويات العرقية أو الثقافية، بل هي تجسيد لتكتلات داخل المؤسسات، قائمة على مصالح ضيقة تجمع أفرادًا أو مجموعات وفقًا لأهدافهم الشخصية، حيث تُدار المؤسسات بناءً على شبكات المصالح هذه بدلاً من التركيز على الابتكار والكفاءة، هذه التحالفات تُبقي القرارات والسياسات تحت سيطرة مجموعات صغيرة تسعى للحفاظ على مواقعها، مما يعمق الانعزال الداخلي ويُعرقل أي إصلاحات جوهرة.
إلى جانب ذلك، نجد أن “التشبيب الوهمي” يشكل عقبة إضافية أمام تقدم المؤسسات، إذ يُشير إلى إدخال وجوه شابة جديدة في المناصب القيادية، مما يعطي انطباعًا ظاهريًا بالتجديد، غير أن هذه الوجوه الجديدة غالبًا ما يتم اختيارها بناءً على الولاءات الشخصية أو الحزبية، وليس على أساس الكفاءة أو القدرة على تجديد الذهنيات والتصورات المبتكرة وإحداث تغيير حقيقي، حيث تسعى البنية التقليدية إلى تدوير المناصب دون أن يُحدث أي تحول فعلي في بنيتها الأساسية.
وتُفاقم هذه الظاهرة من عزلة الكفاءات الحقيقية وتعزز نشوء “الكيطوهات” داخل المؤسسات، وتحولها إلى مناطق معزولة تستبعد الأفراد أو المجموعات الكفأة والمجددة من المشاركة الفعالة في القرارات المؤسسية. هذه المناطق المغلقة قد تتشكل داخل المؤسسات الكبرى نفسها، حيث يتم عزل المبدعين والكفاءات عن مراكز صنع القرار لصالح المجموعات التقليدية المسيطرة، هذه الظاهرة لا تعيق فقط التقدم، بل تؤدي إلى ضعف التفاعل الإيجابي بين مختلف مكونات المؤسسة وتحجم عطاءها.
من أجل مواجهة هذه التحديات يجب أن تتحرر المؤسسات من القبليات الجديدة والعزل المؤسسي (الكيطوهات) التي تعرقل الابتكار، على المؤسسات أن تفتح المجال للكفاءات القادرة على المساهمة في تطوير الأداء وتحقيق التغيير المطلوب. هذا التحول يتطلب إرادة سياسية قوية، وإجراءات فعّالة تعزز من ثقافة العمل الجماعي والإبداع.
في النهاية، يتضح أن “الصناعة المغشوشة” و”التشبيب الوهمي” و”القبلية الجديدة” و”الكيطوهات” تشكل عقبات رئيسية أمام تقدم المؤسسات، التغلب على هذه التحديات يتطلب تجاوز التغييرات السطحية والانتقال إلى نماذج مؤسسية جديدة تعتمد على الشفافية والكفاءة الحقيقية. حينما يتم منح الفرصة للعناصر المؤهلة والكفاءات القادرة على الإبداع وعلى تغيير الذهنيات، ستتمكن المؤسسات من تحقيق الأهداف المرجوة، والمساهمة بفعالية في دفع عجلة التقدم والتنمية الحقيقية التي ترتقي بحياة المواطنين ويلمسون ذلك في واقعهم اليومي وبالتالي المصالحة مع مؤسساتهم والثقة في السياسي الذي يسير الشأن العام.