يعد القضاء إحدى السلطات التي لا يقوم بنيان أي دولة بدونه، فهو الركن الثالث في الهندسة الإدارية و السياسة للدول. فالقضاء هو الذي يصحح الإختلالات التي قد تنجم عن زيغ السلطة عن مسارها الطبيعي، وهو الذي يفصل بين الأفراد في نزاعاتهم ويرد الحقوق لإصحابها. هذه المكانة المتميزة التي يتمتع بها القضاء و القضاة تخدشها التقارير الدولية و الوطنية و شكايات الأفراد و الجماعات حول نزهاته، إذ أن التقرير الذي صدر عن مجلس أوربا حول ظاهرة الرشوة في الإدارة العمومية لم يستثني القضاء، هذا المرفق الحيوي الذي يقصده الالاف من المغاربة من أجل استرداد حقوقهم و البحث عن انصافهم من ظلم الإدارة أحيانا أو ظلم الأفراد، أصبح في قفص الإتهام وأضحت مصداقيته على المحك.
في السنة الماضية، نشر المجلس الأعلى للقضاء قراراته التأديبية لمجموعة من القضاة، الذين لم يلتزموا بأخلاقيات المهنة كما جاء في تقارير صحفية، وتم توقيف البعض عن العمل لممدد مختلف و إحالة البعض على التقاعد، أما البعض الأخر فتم عزله لكنه احتفظ بحقه في التقاعد. في حين اتخذ نفس المجلس قرارات أخرى مشابهة في حق العديد من السادة القضاة، لكن هذه المرة لم ينشرها كما فعل في السنة الماضية، وذلك بضغط من القضاة أنفسهم ومنهم جزء غير يسير من الذين يطالبون بالشفافية و النزاهة و نظموا وقفات من أجل تحقيق هذا الغرض.
إذا كانت إشكالات القضاء المغربي تتميز بتشعبها و تعقدها، والتي لم تفلح كل الاصلاحات التي جربت في هذا الميدان في إيجاد حلول لها لحد كتابة هذه السطور، فإن ما أريد أن الفت النظر إليه في هذه المقالة هو كيف يتم التعامل مع ملفات كان أحد القضاة، الذ(ت)ي صدر في حقهم قرارا تأديبيا من قبل المجلس الأعلى للقضاء، عضوا من أعضاء هيئة الحكم التي اصدرت قرارا سواء كان ايجايبا أم سلبيا في هذه الملفات؟
سنحاول الإجابة على هذا السؤال باستحضار حالة صدر فيها حكم نهائي، و كان أحد القضاة الذين شاركوا في اصدار هذا القرار موضوعا لقرار تأديبي صادر عن المجلس الاعلى للقضاء في السنة الماضية؛ يتعلق الأمر بالسيدة القاضية فاطمة الحجاجي وهي مستشارة بمحكمة الإستئناف الإدارية بالرباط، و التي كانت ضمن هيئة الحكم التي اصدرت قرار تأييد ابطال تأسيس الحزب الديموقراطي الأمازيغي المغربي، و صدر قرار عزلها عن سلك القضاء مع احتفاظها بحقها في التقاعد، و هي عقوبة من الدرجة الثانية وفق المادة 59 من النظام الاساسي لرجال القضاء.
هذا الملف الذي يعرف العديد من المغاربة مساره، و الذي وصل إلى اصدار قرار من محكمة الاستئناف الادارية بالرباط، و كانت القاضية الموقوفة أحد أعضاء هيئة المحكمة التي فصلت في هذا الملف، لكن التساؤل المطروح اليوم، هو لماذا لم يتم إعادة النظر و فتح تحقيق حول الأحكام و القرارات التي كانت هذه القاضية عضوا ضمن الهيئة التي اتخذتها؟ ألا يعد قرار المجلس الأعلى للقضاء اقرارا بإخلالها بواجباتها المهنية أو بالشرف أو الوقار، كما جاء في الفصل 58 من النظام الأساسي لرجال القضاء السالف الذكر؟ إذا كان القرار التأديبي يمس فقط الشخص المعني فما هو تأثيره على الأفراد أو الجماعات التي قد تكون هذه القاضية مست بحقوقهم، خاصة في الوضع الذي تكون فيه مستشارة و مقررة في ملف ما، كما هو الأمر في حالتنا هاته؟
هذه الاسئلة وغيرها تجعل المتتبع حائرا حول بعض المواقف و القرارات، إذ ما معني أن يتخذ المجلس الاعلى للقضاء قرارات في حق أحد القضاة دون أن يباشر تحقيقا حول تركته من ملفات و قضايا لا زال أصحابها يشتكون من تبعاتها، ألا يعد قرار المجلس الاعلى للقضاء في حق هذه القاضية ضربا لمصداقيتها و نزاهتها؟ إذ كان الأمر كذلك ما هو الأثار القانون لهذا العزل على الغير الذي يحس بعدم رضاه على احكام و قرارات صدرت بهيئة حكم من ضمن أعضائها الاستاذة السابقة الذكر؟
لم تتطرق المسطرة المدنية على حد علمي لهذا النوع من الاشكالات، إذ أن مساطر الطعن في الاحكام الواردة في المسطرة المدنية واضحة، تتمثل أساسا في الإستئناف أو إعادة النظر و التي تشترط مجموعة من الشروط، كما يسمح القانون بتجريح أحد القضاة و حدد شروطه أيضا.
في حالة الحزب الديمقراطي الأمازيغي المغربي يملك حق النقض على اعتبار أن القرار الصادر لحد الان في حقه صادر عن محكمة الاستئناف. لكن يطرح اشكالا اخر في هذا الاطار وهو أن محكمة النقض هي محكمة قانون و ليس محكمة موضوع، ما سيفقد ميزة مهمة للحزب للدفاع عن نفسه، و بالتالي التساؤل الان هو هل يخول قرار التأديب الصادر في حق القاضية فاطمة الحجاجي، من طرف المجلس الاعلى للقضاء، امكانية إعادة الملف برمته إلى هيئة حكم جديدة أمام محكمة الاستئناف قبل الوصول إلى محكمة النقض؟
ليس هذا فحسب، فالأمر يزداد تعقيدا خاصة إذا كانت وزارة الداخلية أحد أطراف الدعوى، إذ تعتبر هذه الوزارة التي يطلق عليها اليسار سابقا الوزارة الأم، و ما تحمل هذه الكلمة من معنى التحكم و الإلمام بكل تفاصيل الحياة سواء السياسة و الاقتصادية و الاجتماعية للمغاربة، هذه الوزارة التي قال عنها محمد عنبر في حوار مثير مع جريدة الكترونية نشر يوم 27 نونبر 2013، أنها متحكمة في القضاء المغربي، بل وصف طبيعة العلاقة بينهما- وزارة الداخلية و القضاء- بالتبعية.
قد يبدو هذا غريبا خاصة لأولئك الذين يطالبون باستقلال القضاء عن وزارة العدل، إذ يبدو في الحقيقة أن ما يجب أن يكون مطلبهم ليس الاستقلال عن وزارة العدل بل عن وزارة الداخلية، التي تعتبر القضاء جهاز “لحفظ الأمن” كما يقول الأستاذ عنبر و ليس سلطة لإرجاع الحقوق لأصحابها ومواجهة سلطة الإدارة.
مما سبق يبدو أن كل الدروس التي يتلقاه طلبة الجامعات حول القضاء بصفة عامة و القضاء الاداري بصفة خاصة، لن تسعفهم في فهم الواقع المغربي، الذي تضرب فيه طقوس الممارسة كل الدروس النظرية عرض الحائط.