يُعدّ “التطفل” ظاهرة متعددة الأوجه والسياقات، تتجاوز معناها اللغوي البسيط القائم على “الدخول في ما لا يعني الإنسان من غير إذن أو صفة” لتأخذ أبعادًا اجتماعية، ومهنية، وبيولوجية، وثقافية. ففي السياق الاجتماعي، يتجلى التطفل في اقتحام المجالس والنقاشات دون دعوة أو صفة، ما يُعتبر مسًّا بأعراف اللباقة وحدود العلاقات بين الأفراد. أما في المجال المهني والحرفي، فإن التطفل يتمثل في تسلل غير المؤهلين إلى مهنٍ متخصصة، مما يؤدي إلى الإضرار بجودة الخدمات والمنتجات، ويُضعف ثقة المجتمع بالممارسين الحقيقيين. وفي العلوم البيولوجية، يحمل التطفل دلالة علمية دقيقة، إذ يشير إلى علاقة غير متكافئة بين كائنين، يعتمد فيها أحدهما على الآخر في الغذاء أو الحماية مسببًا له الضرر، كما هو الحال في الديدان الطفيلية. أما في الحقل الثقافي والإبداعي، فيُلاحظ التطفل حين يقتحم غير المتمكنين مجالات الفكر والفن والأدب، مما يُربك الذوق العام ويشوّه معايير التميز والجودة. من هنا، يتضح أن التطفل، بمختلف صوره، لا يهدد فقط التخصص والكفاءة، بل يُخلّ بتوازن المنظومات الاجتماعية والمهنية والثقافية، ويطرح إشكالات عميقة تستحق الوقوف عندها..
يشكل التطفل على الصنائع إحدى الظواهر السلبية التي باتت تهدد أسس الجودة والمهنية في مجتمعاتنا المعاصرة. ففي زمن باتت فيه الجودة مطلبًا عالميًا آنيًا، نتيجة لعبور السلع والخدمات القارات والبحار والمحيطات، أصبح من الضروري الحد من التطفل باعتباره نقيضًا لمعايير الإتقان والتخصص. ولم يعد الأمر مقتصرًا على الصنائع المادية كالحرف والمهن، بل شمل أيضًا صناعة المحتوى الهادف، حيث أضحى بإمكان أي كان أن ينتج ويُعمم دون رقيب معرفي أو أخلاقي، مما يدعو إلى ضرورة ترسيخ ثقافة التخصص واحترام المسارات التكوينية..
في زمن تتسارع فيه وتيرة التكنولوجيات وتنتشر فيه المنصات الرقمية، أصبح من السهل أن يُنصّب أي شخص نفسه “خبيرًا” في ميدان لا يمتلك فيه لا تكوينًا ولا موهبة ولا تجربة. بهذا، تفقد الحِرف والصنائع معناها الحقيقي، ويقع انتهاكها من الداخل. إنها ظاهرة التطفل التي لم تعد مقتصرة على الحرف والمهن الشعبية القديمة كاالنجارة والحدادة وغيرها ، بل استفحلت اليوم بفعل مواقع التواصل الإجتماعي اصبح الكل ينشر معلومات دون الخبرة والتخصص والكفاءة في الميدان؛ في كل مجالات الحياة: من الطب إلى الإعلام، ومن التعليم إلى التدين، ومن الحِرف اليدوية إلى السياسة..
لكن المدهش أن التراث الأمازيغي، بعبقريته الرمزية، قد رصد هذه الظاهرة منذ قرون، وبلورها في قصص شعبية بسيطة في ظاهرها، عميقة في بنيتها القيمية. ومن بين هذه القصص البليغة، نذكر قصة البقرة والجزار المتطفل وقصة الثور والجمل، وهما نموذجان لسرد شفوي ينقل وعياً عميقًا بالصنعة وأخلاقياتها ومكانتها في بنية المجتمع..
تحكي القصة الأولى أن بقرة سمينة، تم اقتيادها للذبح بمناسبة احتفالية في إحدى القرى، وكانت تذرف الدموع بغزارة. وعندما سُئلت عن سبب بكائها أجابت: “لا أبكي خوفا من الموت، بل الجزار الذي سيذبحني غير محترف (أمرماد بالأمازيغية أو أملماد)، متطفل على المهنة، لا يعرف قواعد الذبح، ولا يحترم أسرار الصنعة، وسيكون حتفي مؤلمًا لا بسبب الذبح في حد ذاته، بل لكونه على يد من لا يستحق ملامسة أدوات المهنة..
هذه الحكاية، في عمقها، ليست مجرد تصوير لمشهد غريب أو طريف، بل هي تشخيص رمزي لأخطر ما يهدد الحِرف: التطفل. فمن منظور أنثروبولوجي، ترتبط الحِرفة في المخيال الأمازيغي بالمقدّس والطقوسي (الحرفة مقدسة قديما حيث إن لم تغنيك تزد في عمرك حسب الحكمة الأمازيغية)، وهي ليست عملاً ميكانيكيًا بل سلوكًا أخلاقيًا موروثًا. أما المتطفل، فهو “المنتهك” لهذا النسق، المتجاوز لحدوده، الذي يُمارس عنفًا خفيًا يُدمّر الصنعة من الداخل ويُلحق الأذى بمن يتلقى أثرها. ومن زاوية سوسيولوجية، تشير القصة إلى أن المجتمع التقليدي كان يربط الحِرفة بالكفاءة والمسؤولية، لا بالمظهر أو الطمع، وكان يفترض في الحرفي التكوين الداخلي الحقيقي، أي الموهبة، وهو أمر لا يُكتسب بالتظاهر أو بالسطحية..
أما القصة الثانية، فتُروى في مناطق منابع واد زيز، وتحكي عن ثور وجمل يرعيان في مرعى خصب. لاحظ الثور أن روثه اللزج (ترفا بالأمازيغية)يُوسخ المرج، بينما بعر الجمل صلب لا يُرى(أغياي بالأمازيغية)، رغم أنهما يأكلان من نفس العشب . فسأل الثور الجمل عن السر، فأجابه: “الصنعة من الداخل يا صاح.” هنا نُلامس رؤية أنثروبولوجية عميقة للصنعة، تقوم على التمييز بين المظهر الخارجي المشترك والجوهر الداخلي المختلف. فالموهبة هنا ليست مجرد قدرة طبيعية، بل هي ما يُكسب الحرفة روحها، ويجعل الممارس لها يُنتج أثرًا نقيًّا ومتقنا ..
ويُجسّد هذا المعنى أيضًا مثل شعبي أمازيغي متداول يقول: “أينا إيا وزگر إولمو”، ويُضرب هذا المثل في سياق نكران الجميل. فالثور الذي يطعمه المرعى ويُغدقه بالعشب يردّ الإحسان بالإساءة، مجازيًا المرج بروثٍ يلوث جماله. وهو تعبير رمزي عميق عن من يبدل الخير بالشر، ويقابل الإحسان بالجحود. ويُقال هذا المثل أيضًا لكل من يُسيء للجماعة التي احتضنته، أو يتطاول على بيئة منحته الحياة والدعم. إنها من الحكم البليغة التي تنبض بها الثقافة الأمازيغية العريقة، والتي تؤكد أهمية العودة إلى التراث لبناء أجيال مؤسسة على قيم الوحدة والإستقامة والجدية ؛ ونبذ الغش ، والتطفل..
في ظل العولمة والتجارة العابرة للقارات والبحار والمحيطات، أصبحت الجودة معيارًا حيويًا لا يمكن التهاون فيه. الجودة ليست رفاهية، بل ضرورة حتمية لضمان بقاء المنتجات والخدمات في الأسواق العالمية التنافسية. والتطفل، باعتباره تجاهلًا للمعايير المهنية والكفاءة الحقيقية، يقف عائقًا أمام تحقيق هذه الجودة، إذ يفسد جوهر الصنعة ويهدر الموارد ويقلل من ثقة المستهلكين. لذلك، فإن مقاومة التطفل والحفاظ على المهنة الحقة ليست فقط مطلبًا أخلاقيًا واجتماعيًا، بل هي شرط أساسي لضمان تنافسية المنتجات في السوق العالمية وحماية سمعة الصناعة والتجارة الوطنية للدول..
وعندما نتحدث عن الصنائع، لا يقتصر الأمر على المنتجات المادية فقط، بل يشمل أيضًا صناعة المحتوى الهادف والمثمر، الذي يتطلب نفس القدر من الاحترافية والاهتمام بالجودة. فكما أن المتطفل يدمر الصناعة التقليدية، فإنه يمكن أن يدمر أيضًا الفضاء الرقمي من خلال نشر محتوى غير دقيق أو مضلل وتافه، مما يؤثر سلبًا على وعي المجتمع وجودة المعرفة التي يتلقاها
وفي العصر الحديث ؛ أصبحت الجودة معيارا عالميا تجسده شهادة إيزو (ISO) ؛ التي تمنح للمؤسسات والشركات التي تستوفي مقاييس وشروطا دقيقة في مجالات الإنتاج ؛ والإدارة ؛ والحفاظ على البيئة. وقد تزامن هذا التحول مع تبني خطاب عالمي يدعو إلى احترام التوازن البيئي مما دفع بالعديد من الفاعلين الصناعيين إلى الشروع في إنتاج مواد تصنف ضمن خانة “المواد الصديقة للبيئة” إو مايعرف عالميا بالمواد الإيكولوجية. ومايلفت الإنتباه أن هذه القيم التي تنظم اليوم بمعايير عالمية كانت حاضرة في تراثنا الأمازيغي ؛ ومتجلية في الحديث الشريف «رحم الله امرءأ عمل عملا صالحا فأتقنه”
ما تُجمع عليه القصتان، أن التطفل ليس مجرد فعل فردي، بل أزمة بنيوية. فحين يتم إقصاء ذوي الكفاءة، وتُفتح أبواب المهن لكل من هب ودب، تنهار منظومة الحرفة، ويفقد المجتمع توازنه الداخلي. وينسحب هذا على جميع القطاعات: من التعليم إلى القضاء، من الحِرَف إلى الطب، ومن الاقتصاد إلى الثقافة. ويصبح التطفل حينها بنية اجتماعية مكرسة، يتغذى عليها الفساد، وتُغذيها المحسوبية والزبونية.
في ظل هذه المعطيات، تبدو القصص الأمازيغية وكأنها وثائق تربوية عابرة للعصور، تُعيد الاعتبار لفكرة أن الصنعة أخلاق ومسؤولية وتكوين داخلي، وأن من يتطفل على المهنة، يفسدها، ويؤذي المجتمع بفعله. إن شعار “وضع الشخص المناسب في المكان المناسب” ليس ترفًا إداريًا، بل ضرورة حضارية. فكما أن وضع لبنة في غير موضعها يهدد تماسك البنيان بأكمله ؛ فإن إسناد المسؤولية لمن لايتقنها يخل بتوازن التسير والتدبير؛ ويربك شوؤن الناس.ومصير المجتمعات .