الحياة الأدبية في المجتمع الأمازيغي القديم… الموهبة في خدمة الامبراطورية!

بقلم: سعيد بلغربي

تتفق مجمل الكتابات والشواهد الأدبية على أن شمال أفريقيا القديمة تميزت بوجود أجود الخطباء من رواة القصائد والحكايات الشفاهية.. يبدو من خلال آثارهم أنهم كانوا رجال مراحلهم؛ نخبة ركزت على توطيد علاقة مقبولة بينها وبين عموم الناس من الحركات الجماهيرية، التي كانت بمثابة «قوة الرأي العام»، التي تضمن لها البقاء والشهرة. فكانوا يتفننون ويتسابقون في إبداع طرائف وقصص ومرويات أدبية ذات عوالم روحية، كان الهدف الأسمى منها هو تبجيل الآلهة الوثنية وتقديرها وتسليتها، واعتبر اجتهادهم هذا تعبدا وتقربا من الأرباب التي يتم تكريمها من حين لآخر في المدن والأرياف، ونستطيع تخيل؛ أنه كان ثمة اعتقاد عام يحمل شعارا سائدا: «أنت مبدع، إذن أنت مخلص للآلهة».

ولهذا يُطلب من أبوليوس (125 ـ 180م) في مناسبة من المناسبات الدينية أن يُحضِّر مادة أدبية متميزة ليَنْعَمَ بها على إله المدينة، فنسمعه يقول: «يحل غدا يوم الاحتفال بتأسيس هذه المدينة.. ونحن وحدنا بين الناس نتقرّب في هذا اليوم إلى الإله المعظم ريسوس بطقوس ملؤها الفرح والمرح.. وحبّذا لو استنبطت شيئا ظريفا من ابتكارك الخاص لتكريم هذا الإله»..(المسوخ: 56.)

لا يمكن الحديث هنا، عن الأدب الأمازيغي الذي ميز هذه الفترة التاريخية من دون ربطه بالسياق العام، الذي مرت به المستعمرات الرومانية في شمال أفريقيا القديمة، إذ أن القيم والضوابط الاجتماعية والأخلاقية المعاصرة لهذه الحقب من التاريخ الأمازيغي تميزت بخاصية العناد والنزعة الاستقلالية والالتزام بالثوابت القومية. هذه الخاصية التي لم تساعد هذه الشريحة من النخبة المثقفة التأقلم والاندماج بكل سهولة في هذا المجتمع، فكان من الضروري التنازل عن مجموعة من المبادئ التي غالبا ما كانت تتم على حساب كرامة الشخص ووفق رؤية تدعم آراء الانفصال والتخلي عن الهوية واللغة الأصلية والانخراط الأعمى في كل الأجندة الرومانية، التي كانت سياستها تقوم على مبدأ معاهدة ولاء صارمة.

مأزق وجد المثقفون الأمازيغ أنفسهم فيه كعبيد تابعين لسلطة إقطاعية متجبرة، فرضت عليهم بكل قوة التعامل مع ثقافتها الحضارية ومواكبة توجهاتها الاستيطانية، مقابل نبذ وإهمال كل ما هو أهلي أصيل، فتوجهوا مرغمين إلى تسخير مواهبهم في خدمة الإمبراطورية. نخبة يمكن أن نتصور؛ أنها كانت تعيش حالة انفصام ثقافي وتشتت فكري، وكانت تتعامل بمعادلة غير متزنة وبإزدواجية لغوية وهوياتية، في إطار يقلص من ممارسة حريتها الفكرية والإبداعية بكل طلاقة، وهذا ـ ربما ـ ما جعل أبوليوس يصرح في قولته المشهورة بانتمائه لثقافتين متنافرتين، بقوله: «أنا نصف نوميدي ونصف كدالي». ونستخلص من كلام الباحثين كذلك أن يوبا الثاني ما فتئ يصرح بأصله النوميدي وتأثره بالثقافتين الرومانية والفرعونية، فالأولى ينتمي إليها عبر رابط هوياتي، والثانية تربى في كنفها، والأخيرة تثاقف بها عن طريق المصاهرة بزواجه من ابنة ملكة مصر كيلوباترا. الشيء نفسه يذكر عن الكاتب والفيلسوف الأمازيغي سيبتموس سيفيروس (145 – 211 م)، إذ أنه تعلم «اللاتينية التي كانت بالنسبة له لغة أجنبية، وظل يتكلمها بلكنة أفريقية طيلة حياته، وعندما زارته أخته بروما كانت لاتجيد إلاّ التحدث باللغة البونيقية (الليبية القديمة)، مما سبب له إحراجاً بين الرومان، كونه إمبراطورا رومانيا وأخته لا تتحدث اللاتينية»(ويكيبيديا) ، إحساس يبدو أنه نابع من عدم الثقه بالنفس، والخوف من أن يفقد الرعاية التي وفرتها له الإمبراطورية.

نهجت روما سياسة ديمقراطية مزيفة، شيدت ـ تقول هاملتون ـ على أساس العبودية، لأن ذلك كان الشرط المسبق للحياة المدنية في العالم القديم. استباحت حكما مطلقا مستبدا لم يسمح بفتح المجال أمام ممارسة رسالة الإبداع الحر، فعملت على ترهيب الكتاب والخطباء والفلاسفة.. ووضعت بالمقابل خطوطا حمراء، اعتمدت في تشريعاتها على قوانين حديدية، ما ساهم في خلق أدباء اغتالت فيهم ملكة الإبداع والتفكير السوي، فكانت مهمتهم الأساسية الاستغلال والسطو على الإرث الأدبي والفني للمستعمرات الرومانية، القائم على خليط عناصر مأخوذ من جميع الثقافات المجاورة، وإعادة صياغته باللغة اللاتينية، وظل هذا الأدب المسروق يباع ويستهلك في المسارح والأماكن العامة والخاصة بشكل روتيني لعقود كثيرة، أدب تشكٌّل جزء من تربته الخام من التراث الأمازيغي القديم، وكان عبارة عن نصوص ذات طبيعة وتيمات خاصة لا تمت بصلة للمجتمع الروماني، ومواضيعها المتميزة لا تهدد بشكل أو بآخر استقرارها السياسي والاقتصادي وأمنها الروحي. مما حذا بهم إلى السماح بانتشارها وتداولها بشكل واسع إلى جانب آداب أخرى ما دامت أنها تحمل إخباراتٍ لا تخصهم في شيء.

في هذا الباب تعلق هاملتون (1867 ـ 1963م) بقولها: «فالرومان كان لديهم ميل جارف لإجازة القوانين عن كل شيء في العالم، تمتعوا بالرقابة. وسنوا قانون القوائم الأثنتي عشرة، الذي يعاقب الناس بالجلد إذا كتبوا أي شيء يشوه السمعة، والعقاب كان ينزل سريعا على الكاتب، فيجعله لا يفكر أبدا في الكتابة مرة ثانية.( الأسلوب الروماني في الأدب: 27 ـ 28)

تعايشَ الأدباء الأمازيغ بصعوبة مع هذه الأجواء المشحونة، فعلى الرغم من التوترات السائدة حينها إلاّ أنها كانت تبدو طبيعية ومقبولة ومتناغمة مع سائر احتياجات ومتطلبات النظم القائمة. وبما أنهم صاروا من مثقفي السلطة بعد فترة اختبارات قادتها (الاستخبارات الرومانية)، فأصبحت الأوامر الاستعمارية تتلاءم وفق مقاساتهم الفكرية، فعملوا على الارتقاء بالأدب من مجرد وسيلة للتسلية والترفيه وإهدار للوقت إلى أدب المنافع. تثبت لنا الوثائق أن الأدب الأمازيغي انحرف حينها عن دوره الديني والروحي؛ ليصبح بين نقطة تحول وأخرى إلى سلعة رائجة وصناعة قائمة بذاتها، يسيّرها أخطبوط من الفلاسفة والخطباء والسماسرة والمتآمرون والمنجّمون.. فإلى جانب التجارة في الموت عبر ترتيب المراهنات والمبارزات في حلبات الأولمبيات الدموية والألعاب البطولية، التي تبنت لغة العنف والتدمير والتي ترفع بأصحابها إلى مصاف الأبطال المبجلين. يأتي دور الأدب؛ ففي متاهاته كان مجرد امتلاك الأديب لمؤهلات بلاغية وكلامية فرصة ثمينة تتيح له الالتحاق بمجتمع القمة والأسياد؛ والتسلق والالتفاف حول رجال الدين وأصحاب النفوذ والقرار، والتمكن من التدرج بسهولة نحو الأعلى في التراتبية والحصانة الاجتماعية، ولدينا في كتابات أبوليوس وأوغسطين الوفير من الدلائل التي تشفي الغليل حول هذا الموضوع.

لقد وفّر الاستيطان الروماني في شمال أفريقيا مراكز تعليمية كانت تدرّس فيها للناشئة المبادئ الأولية من علوم مختلفة أبرزها فن الكلام والمنطق وفقه البلاغة.. وهي مدارس ظلت مسرحا لحركات فكرية كانت تعتمد على تدريس ونشر ما توصل إليه الفكر والفلسفة والعلوم والثقافة حينها، وكانت هذه المعاهد في الوقت نفسه عبارة عن «مقاولات نفعية» تدر على المستفدين منها أرباحا مادية مهمة، ومن أهم هذه المدن الثقافية نجد مركز مادورا التعليمي (إحدى مدن نوميديا، تبعد 24 كلم تقريبا عن تاغسطا المعروفة اليوم بسوق أهراس بالجزائر) الذي دَرَس فيه أوغسطين في طفولته مبادئ اللغة والفصاحة، فنسمعه يقول: «استقدماني من مادورا وهي مدينة قريبة منّا كنت قد أقمت فيها في بدء الأمر لدرس اللغة والخطابة».( اعترافات: 31) ليصبح بعدئذ من بين أهم شباب الخطابة وأشهرهم بلاغة وفصاحة في عصره، فأسس بدوره مدرسة في قرطاجة، في إطار صفقة بينه وبين أحد أعيان المدينة لتدريس الخطابة وهو في سن التاسعة عشر، كان يُعلم فيها أصنافا من الفنون وينظم فيها مهرجانات ومسابقات أدبية وفكرية مقابل أجر وظيفي مهم كان يصرف من أموال الضرائب والجبايات. «وحدث أن تجلت مواهبه هنا، فنصحوه بالذهاب إلى روما لإنشاء مدرسة للخطابة فيها. إلاّ أن الطلاب كانوا لا يدفعون له أجرا، وإن شهدوا بقدراته. فكان أن انتقل (سنة 384 م) إلى ميلانو، حيث حصل على وظيفة رسمية تمثلت في معلم للخطابة، وحيث لحقه إليها أصدقاؤه الأفريقيون». (زيعور: 103.) وكانت دروسه تلقى رواجا كبيرا، بحيث كان الآباء يحرصون على تعليم أبنائهم حرفة الأدب المدرة للدخل، ويبرر أوغسطين ذلك بقوله: «فرحت أدرِّس الخطابة وأبيع هذا الفن طوال تلك السنوات وكان رواجه يقوم بالهذر وشقشقة اللسان». (اعترافات: 58).

كان الشعر والكوميديا والخطابة وفن الجدل.. من جودة الأسلوب والإلقاء وتحسين الصوت والكلام الذي يثير لطف المتلقين سلعة وحرفة مربحة. ظاهرة أدبية يشير إليها القديس نفسه بقوله: «أستطيع أن أجني من الشعر غذاء لا بأس به»..( نفسه: 48.) وهو الذي يعني بكلامه أنه كان بمقدوره أن يحقق ثروة فاحشة من خلال المتاجرة في بلاغته الأدبية، لولا إيمانه وتوبته الصادقة التي جعلته ينصرف عن قول الشعر الدنيوي إلى مناجاة الله دينيا. وهذا ما يفسر كذلك كرهه لفن التنجيم الذي قضى جزءا من حياته الفاسقة في تعلمه، ويعلق على ذلك بقوله: «حين عزمت على الاشتراك في مباراة شعرية سألني أحد المنجمين مبلغا من المال ثمن فوزي على أقراني، فأجبته: لعنة الله على هذه العقود المخجلة فإنني أكرهها».(نفسه: 59.)

يبدو أن الفكر الديني الجديد الذي أسست له الكنيسة الأمازيغورومانية بشكل كبير؛ أخذ يروج للأدب الكهنوتي ذي الطابع التقوي المتميز بمظاهر الجدية، مقابل التنديد بالانحلال الذي مس الأدب الوثني وأهله، وهذا ما استطعنا أن نلمسه بكثير من الوضوح في اعترافات أوغسطين الإيمانية، حين يصف تلك الإبداعات بالترّهات والأباطيل بقوله: «ألم يكن لديهم موضوع آخر يشحذون به أذهاننا ويصقلون ألسنتنا؟ حقاً، إن تسابيحك في الكتاب المقدس أعذب على أملود قلبي من تلك الترَّهات». (نفسه: 24 ـ 25.) وهي تنبيهات دعت إلى قطع الصلة بالأدب الوثني والقضاء على المآثر التي أبدعها السابقون في تبجيل الآلهة الباطلة، وقاوم هؤلاء الرهبان القرابين وطقوس المذابح والاحتفالات الوثنية وأمروا بتقويض التماثيل وإغلاق جميع الهياكل والمعابد الوثنية، فكانت هذه الأفكار التي دعّمها المفكرون والأدباء الكنيسيون ـ كما يبدو ـ تطمح إلى تطهير الأدب من الأدناس والرذائل والكف عن الجري وراء سراب الأكاليل والشهوات المزيفة، وهذا ما يؤكده كذلك القديس نفسه، بقوله: «وكنا نسعى في أثر شعبية رخيصة نجـــنيهــا حينا من تصفيق النظارة لنا وأحيانا من المباريات الشعرية التي اشتركنا فيها والجهاد في سبيل أكاليل ذابلة ومن المشاهد المسرحية الصبيانية والشهوات الجامحة؛ وطمحت إلى التطهر من تلك الأدناس».( نفسه: 57).

صور تاريخية تأخذنا إلى عالم أدبي يبدو تخيلا أنه كان سوقا يعج بالمكائد والضغائن والتنافس، تشوبه العلاقات المتنافرة والمواقف العدائية التي كانت تشغل الشخصيات الثقافية والفكرية آنذاك، وذلك في إطار لا يمنح للجانب القيمي والبعد الأخلاقي أي اعتبار. لدينا من أخبار هذه الدسائس خير وثيقة أدبية تركها لنا أفولاي المادوري في مرافعاته التاريخية التي جرت فصول أحداثها على أرض صبراتة الواقعة في أقصى غرب ليبيا، مرافعة تناولت بين طياتها جوانب من أدبيات القلق والعنف المتفشي داخل المجتمع الروماني، دافع من خلالها على براءته من التهم المنسوبة إليه؛ بكل استماتة أمام محكمة وجمهور غفير، حج لمتابعة أطوار محاكمة أشهر محام وأديب عرفه التاريخ. تلك النجومية التي ذاع صيتها والتي ما فتئت تتعاظم يوماً بعد يوم، والتي قال عنها مواطنه أوغسطينس: «عندنا نحن الأفارقة، أبوليوس هو الأكثر شعبية بيننا»،( بن ميس: 71) حيث كان وقع كلماته الرنانة التي ما فتئ الجمهور يسمعها حتى تزيد في حماسته وتحدث بينهم جلبة، استنكارا لما طال فيلسوفهم الكبير من ظلم وتهم واهية. فأدخل في مرافعاته هاته وبلمسة بارعة فواصل مرحة، ليفند بها في أسلوب لاذع بَاسمٍ مليء بالهجو والحكمة، مستهزئا من خلاله بخصمه البليد. مزاعم واتهامات حيكت ضده زورا وبهتانا؛ وحسدا طاله من اولائك الذين ربما وجدوا في شهرته الأدبية تهديدا لمنافعهم ومصالحهم الشخصية، وهو الذي يقول عنهم متأسفا: «لا يمكن حقاّ أن نجد من سبب سوى الحسد العقيم لإقامة هذه الدّعوى ضدّي، فضلا عمّا دبّر لي من عديد المكائد المهلكات». (المرافعة: 81) ونتيجة لفصاحته وذكائه استطاع بالحنكة والحجج البيّنة أن ينجوَ ببراءة من مقصلة الإعدام.

من الواضح جدا، وأمام شح المصادر، فإنه من الصعوبة بمكان رصد جميع التحولات التي أثثت واقع المشهد الثقافي في شمال أفريقيا القديمة. وعلى ما يبدو، أن النخبة الأمازيغية كانت حليفة للطبقات الحاكمة في المجتمع الروماني وذلك ضمن قطيع من موظفي البلاط، وكانت تعيش حالة انكشاف وتعرّ أخلاقي وقيمي، ومن هذه المنطلقات جميعها نستطيع إدراك دور المثقف والمفكر الأمازيغي الذي كان يتخبط في دوامة من الصراع العبثي العقيم، فأغلال الأنظمة الرومانية البشعة القائمة حينها؛ سلبت منه إدراكه ووعيه بدوره الحقيقي في تحريك الآلة الثقافية عبر إهانته وتعبئته بالخوف والتردد واستغلاله في ما يخدم مصالحها الاستعلائية.

اقرأ أيضا

“اللغة الأمازيغية بالمغرب: تحديات البقاء ومخاطر الانقراض بعد إحصاء 2024”

تقف اليوم اللغة الأمازيغية بالمغرب، باعتبارها ركيزة أساسية في تكوين الهوية الوطنية المغربية، أمام تحدٍ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *