الدكتور الطيب بوتبقالت يكتب: إعادة التوازن النسبي للعلاقات المغربية المسيحية في القرن السادس عشر (الحلقة 17)

الدكتور الطيب بوتبقالت أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة

يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 مقالا إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين، و يبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية…

بغض النظر عن الفترات التي بلغت فيها الأزمات حدتها، فإن ما ميز علاقات المسلمين بالمسيحيين في المغرب والأندلس هو التسامح المتبادل. وهذه الأزمات كانت بالأساس أزمات يطغى عليها الطابع السياسي وليس الطابع الديني، لكن مع ذلك يجب الإقرار أنه أصبح من الصعوبة بمكان فصل الانتماء الديني عن السلوك السياسي، وبديهي أن دينامكية التطور التاريخي هي التي كانت ومازالت تتحكم في سيرورة هذا التداخل، ومنذ تشكيل النواة الصلبة للأمة المغربية إبان العهد المرابطي ظهرت زوايا، ورباطات، ومدارس كانت تلعب دور مؤسسات ثقافية واجتماعية تتم فيها عملية دمج السياسة بالدين بصفة تلقائية وتحسبا للأخطار الخارجية.

ومما لاشك فيه أن الفتور الذي حال دون تقدم الحضارة المغربية منذ واقعة العقاب (1212م) ازداد تأكيدا في الحقبة التاريخية الموالية،  حيث عرفت خلالها العلاقات المغربية مع العالم المسيحي عموما، ومع البرتغال واسبانيا خصوصا، تصعيدا كان على حساب المغرب. ولما اشتد عود التنظيم الديني المسيحي المسمى “فرسان النصارى” طالب برجوع المليشيات العاملة في صفوف الجيش المغربي إلى أوربا، وفعلا تم ترحيلها مع نهاية القرن الرابع عشر، وكان طبيعيا بعد الهجمة البرتغالية الشرسة على المغرب وبعد القضاء على النفوذ المغربي بالأندلس وسقوط غرناطة سنة 1492، أن تلتهب المشاعر الدينية عند المغاربة لتصبح هي المحرك الرئيسي للعمل السياسي من أجل الدفاع عن السيادة المغربية في بعدها الحضاري والاستراتيجي. لذلك كان القرن السادس عشر متميزا بانتفاضة دينية عارمة موجهة لصد العدوان الخارجي عن المغرب، وكان الفضل في هذه التعبئة المتنامية يرجع بالأساس إلى حماس الشرفاء السعديين وثباتهم، وسرعان ما ظهرت نتائجها الايجابية وتجلت قبل كل شيء في تراجع الاستعمار البرتغالي واسترجاع عدد من المدن المغربية المحتلة : اكادير (1541)، ثم أسفي وازمور (1542)، أصيلة (1549)، القصر الصغير(1550).

وتبقى معركة وادي المخازن (1578) من المعارك التاريخية التي كان المغرب يحسد عليها في سجل علاقاته مع العالم الغربي، لقد كانت صرخة مدوية في وجه كل المتربصين بالسيادة المغربية، فأكسبت البلاد هيبة جعلت الأتراك العثمانيين يحترمون استقلالها ويخشون بأسها، وغصت السجون المغربية على إثر ذلك بعدة آلاف من الأسرى البرتغاليين. وكانت بحق ضربة تاريخية أعادت الاعتبار ولو مؤقتا لمغرب تهاون أهله وفشل عزمه. وفي ظروف تاريخية مشحونة كهذه لابد وأن تكون هناك انعكاسات سلبية على مستوى التعايش الديني، وما قيام السلطان محمد الشيخ المهدي سنة 1553 بطرد المبشرين وأفراد الجالية المسيحية من داخل البلاد إلا إجراءا عاديا تمليه طبيعة الأحداث الجارية آنذاك، وعلى أي حال كان إجراءا وقائيا وليس انتقاميا بالقياس لما أقدم عليه الإسبان من ترحيل وتهجير لمسلمي ويهودي الأندلس الإسلامي.

ونظرا لبلوغ هذه الصحوة الجهادية ذروتها خلال القرن السادس عشر، فقد بادرت المصادر الغربية إلى تسميته ب “قرن كراهية الأجانب والتعصب الديني”، والذي استمرت تأثيراته الانغلاقية، حسب زعم نفس المصادر، إلى بداية القرن العشرين، أي إلى أن تم ابتلاع السيادة المغربية كاملة من طرف الاستعمار الأوربي. ولطالما وظفت الدعاية الكولونيالية المعاصرة هذا الطرح المدسوس، وهي تحاول بكل مكر وخداع النيل من جوهر الهوية المغربية. وفي هذا السياق جاء في كتاب لتيوفيل كوتيي تحت عنوان «قرون المغرب المظلمة»، إشارة منه بالخصوص إلى العصر المرابطي، جاء فيه تحليل لا يخلو من مراوغة تضليلية حيث يقول: “إن ما يرفضه التعصب المغربي بكل قواه هو قبل كل شيء العنصر الأوربي الذي لا يعني بالضرورة العنصر المسيحي، إن المغاربة يكرهوننا بالتأكيد لأننا غزاة أجانب يهينون كبرياءهم ويهددون استقلالهم، ويدقون إسفينا في هويتهم، إضافة إلى استهزائنا بمعتقداتهم الغيبية”.

ومهما يكن من أمر، فإن القرن السادس عشر كان بالنسبة للمغاربة بمثابة محاولة استنهاض واسعة، تجلت في تأسيس عدد من الزوايا اهتمت كلها بنشر الثقافة الإسلامية التي تعتبر خميرة الوعي الوطني ومصدر إلهامه. وعملا بتعاليم الإسلام مارست هذه المؤسسات التأطير الاجتماعي بهدف مقاومة الكفار، وأعطت نفسا روحيا جديدا تم استثماره سياسيا. فبفضل هذا المد التعبوي العميق استطاع السلطان أحمد المنصور الذهبي (1578/1603) أن يفتح السودان، وعندما انضمت البرتغال إلى عرش اسبانيا سنة 1581، لم يكن ذلك الحدث ليخيف المغرب، بل استمر في تعزيز مكانته من جديد بين الدول الفاعلة على المسرح السياسي العالمي حينذاك، لكن دوام الحال من المحال …

اقرأ أيضا

الإحصاء العام: استمرار التلاعب بالمعطيات حول الأمازيغية

أكد التجمع العالمي الأمازيغي، أن أرقام المندوبية تفتقر إلى الأسس العلمية، ولا تعكس الخريطة اللغوية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *