يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 مقالا إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين، و يبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية…
كانت فكرة استرجاع المقاطعات الرومانية الإفريقية تراود كل الأباطرة البيزنطيين، إلى أن تمكن الإمبراطور ىجستنيان الأول (482م – 565م)، الذي كان حاكما على القسطنطينية منذ سنة 527م، من وضع حد نهائي للسيطرة الوندالية على الشمال الإفريقي عام 533م. وكان ذلك بعد سنة واحدة على توقيعه معاهدة الصلح مع ملك الفرس كسرى انو شروان(501م–579م)، مما يدل على عمق تفكيره الإستراتيجي. ومن جملة ما قام به جستنيان الأول قبل إعلانه الحرب ضد الوندال، تنظيمه حملة دعائية واسعة النطاق في أوساط الأساقفة الكاثوليك الذين أيدوه بكل حماس، إلى درجة أن مشروعه الحربي أصبح وكأن هدفه الوحيد يتلخص في نجدة الكنيسة الكاثوليكية. ولما أتم كل الاستعدادات كلفبيليساريوس (500م–565م)،أشهر قادة الجيش البيزنطي وأكثرهم قدرة وحنكة، بقيادة الحملة العسكرية.
وقد تشكل الأسطول البحري البيزنطي من خمسمائة سفينة كان يقودها عشرون ألف بحار وعلى متنها عشرة آلاف من المشاة وخمسة آلاف فارس، وصلوا إلى الساحل الإفريقي في شهر يونيو 533م، وبعد معارك طاحنة استولوا على قرطاج يوم 13 شتنبر من نفس السنة. وعلى إثر ذلك فر الملك جليمار(530م-534م) ولكن البيزنطيين طاردوه وتم إلقاء القبض عليه في مارس 534م في منطقة جبلية يبدو أنها لم تكن بعيدة عن الناظور المغربية. وهكذا انهزم الوندال في إفريقيا الشمالية بعد فترة من الزمان كانت كل شعوب الحوض المتوسطي تحسب لهم ألف حساب. والواقع أنهم لم يكونوا أصحاب حضارة، ولهذا لم يتركوا تراثا ثقافيا ذا مغزى، هذا مع العلم أن جل ما يعرف عنهم لم يكن سوى عن طريق أعدائهم الذين من المحتمل أنهم سكتوا عن أشياء وبالغوا في أشياء أخرى.
ولما وطئت أقدام الجنود البيزنطيين التراب الإفريقي استقبلهم الكاثوليك بالحفاوة والترحاب واعتبروهم محررين، بينما بقيت عامة الأمازيغ في حالة ترقب وكأن هذه الحرب ليست حربا تعنيهم، خاصة وأن القائدبيليساريوس استطاع إقناعهم بأن جنوده سيلتزمون باحترام أعراضهم وممتلكاتهم، و أن وجوده في إفريقيا هو في الواقع موجه ضد طغيان الوندال وبطشهم، وفعلا انساق الأمازيغ للدعاية الحربية البيزنطية ولم يستغربوا أن تحتفل الكنيسة الإفريقية بهذا الفتح لأنها كانت هي المستفيد الأول، وسرعان ما استعادت هذه الأخيرة نشاطها وممتلكاتها التي صادرها الوندال. بل أكثر من ذلك، لقد أصدر البيزنطيون قانونا إمبراطوريا سنة 535م يقضي بعزل المنشقين الدوناتيينوالأريوسيين عن الوظائف العمومية، مع المنع منعا كليا من القيام بأي نشاط ديني يتنافى والمذهب الكاثوليكي.
كما بادر البيزنطيون إلى تقسيم إفريقيا الشمالية إلى سبع مقاطعات إدارية موزعة بدورها إلى أربع مقاطعات كنسية. ونظرا لضعف الكثافة المسيحية في الجهة الغربية، فإن موريطانياالطنجية والقيصرية والسطيفية كانت تشكل مقاطعة كنسية واحدة فقط. علما أن وجود البيزنطيين في موريطانيا الطنجية كان يبدو منحصرا أساسا في مدينة سبتة التي تم اتخاذها كقاعدة غربية بيزنطية للمراقبة الأمنية. واتضح أن خطة الإمبراطور جستنيان الأول كانت ترمي في جوهرها إلى تمكينه من جمع السلطتين الدينية والدنيوية، إلا أن انشقاقات جديدة داخل الكنيسة نفسها وتفاقم الأوضاع السياسية البيزنطية حالت دون تحقيق طموحه.
لم تكن الحيلة الدعائية المبنية على المهادنة الصورية لتنطوي على العناصر الأمازيغية لمدة طويلة، فبعد عامين فقط على الاستعمار البيزنطي تحرك الأمازيغ في انتفاضات لا هوادة فيها ضد المحتل الجديد، بحيث استمرت إلى نهاية العصر البيزنطي بإفريقيا. وخلال هذه المجابهات استطاع الأمازيغ هزيمة وقتل ثلاثة من القادة البيزنطيين البارزين: تيودور (569م)، و تيوكتستوس (570م)، و امابليس (571م)، ولم يسبق للأمازيغ أن نظموا مقاومة متواصلة بهذا الشكل وبهذه الحدة، حتى أن المؤرخ بروكوب الذي رافق الحملة البيزنطية إلى إفريقيا سجل انخفاضا سكانيا كبيرا يقدر بخمسة ملايين من ذوي الأصول الرومانية ومن المتعاونين مع البيزنطيين، غادروا كلهم المقاطعات الإفريقية في اتجاه اسبانيا تفاديا لهجمات السكان الأصليين.
وهذه بطبيعة الحال إشارة أخرى مباشرة يستفاد منها النسبة المحدودة جدا لانتشار الديانة المسيحية في المجتمع الأمازيغي. إذ أنه ليس من المنطقي عدم تدخل الكنيسة الإفريقية، التي كانت تعتبر بنتا شرعية لكنيسة روما، من أجل تهدئة الأوضاع وحث الأمازيغ على التعايش السلمي مع إخوتهم في الدين. الواضح أن وزنها كان خفيفا وأن وجودها كان قبل كل شيء مرتبطا بجاليات أجنبية كانت لها علاقة استيطان استعماري بالمنطقة. ولو كان الوضع خلاف ذلك لما آلت الأمور إلى ما آلت إليه…