الدكتور الطيب بوتبقالت يكتب: محنة الأسرى المسيحيين في عهد مولاي إسماعيل (الحلقة 18)

الدكتور الطيب بوتبقالت أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة

يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 مقالا إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين، و يبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية…

لم يحدث قط في تاريخ المغرب – إلى حدود القرن العشرين –  أن تم التداول على السلطة بطرق سلمية خالية من الفوضى وبدون تعثرات. و هكذا لما توفي السلطان مولاي المنصور الذهبي سنة 1603، بدا واضحا أن الدولة السعدية تلفظ أنفاسها الأخيرة، لكن احتضارها دام أكثر من نصف قرن!  و لم تمر سوى سنوات جد قليلة حتى أصبحت السيادة المغربية من جديد في مهب الرياح. كانت فرصة سانحة أمام الإسبان الذين انقضوا على التراب الوطني واستولوا على العرائش (1610)، والمهدية أو المعمورة (1614)، واندلع ما يشبه حربا أهلية بالبلاد. وفي هذا الخضم برز الشرفاء العلويون يحملون لواء الجهاد ضد التدخل الأجنبي وينادون بجمع الصف وتوحيد الكلمة من أجل الدفاع عن الهوية المغربية و وحدة المصير. وكان من بين ملوكهم الأوائل السلطان مولاي إسماعيل (1672/1727) الذي يعد حكمه في الواقع امتدادا لحكم السلطان المنصور الذهبي، حيث لم يتوان منذ وصوله إلى السلطة عن الدفاع عن حوزة البلاد وتهدئة الأوضاع الداخلية بعزيمة لا تقهر. وانقض بدوره على الإسبان وأخرجهم من المعمورة (1681)، ثم ضيق الخناق على الإنجليز الذين كانوا يحتلون مدينة طنجة منذ أن سلمها لهم البرتغال سنة 1661، فحررها (1684 )، وحرر العرائش (1689)، وأصيلة (1691).

كما حاول مرارا تحرير الجيوب الاسبانية بالشمال المغربي وشدد عليها حصارا دام أكثر من عشرين سنة. وفي الجهة الشرقية من البلاد اهتم ببناء التحصينات تحسبا لمواجهة محتملة مع الاستعمار التركي الذي كان يحتل تونس والجزائر. وكان بحق ملكا شجاعا لا يأبه بتهديدات الأعداء، بل يعمل جاهدا لاستعادة مكانة المغرب الدولية. ولهذا فإن العلاقات المغربية الأوربية في عهده كانت في جوهرها مبنية على مبدأ الند للند رغم استمرار اتساع الهوة الحضارية لصالح أوربا.

وبطبيعة الحال كل هذه المعارك التحريرية كان لابد أن ينجم عنها تكاثر للأسرى المسيحيين في السجون المغربية، كما أن الجهاد البحري(القرصنة) سجل هو الآخر تناميا ملحوظا في تلك الفترة التاريخية، مما ضاعف من عدد هؤلاء الأسرى الذين انضاف إليهم صنف ثالث نسميه اليوم بسجناء الحق العام. وهذا التضخم النسبي في الساكنة السجنية المسيحية بالمغرب هو الذي كان سببا ظاهريا في اندلاع حملة دعائية أوربية مغرضة وواسعة النطاق، والتي استهدفت المغرب في شخص سلطانه مولاي إسماعيل ونعتته ب «الملك السفاك» ونسبت إليه تعذيب وإعدام الأسرى بالجملة، وبالغت في ذلك وشوهت سمعته قدر ما استطاعت، حتى أنها لقبته بأكبر الملوك المستبدين الذين عرفهم التاريخ على الإطلاق. وهناك من شبهه “بالحيوان المتوحش” الذي لا يخضع إلا لنزوات عنفه الغريزي … وفي الواقع كانت هذه محنة حقيقية واجهها السلطان مولاي إسماعيل مع دعاية غربية مبيتة سكت عنها التاريخ !

لقد صدرت كتابات عديدة تخصصت كلها في الإساءة إلى مولاي إسماعيل من منطلق تعامله اللاإنساني المزعوم ليس فقط مع الأسرى المسيحيين، بل كذلك مع رعاياه وكل من اقترب منه. ومن ضمن هذه المؤلفات كتاب للسفير الفرنسي بالمغرب آنذاك، بيدو سانت أولون، وصف فيه أول لقاء له بالسلطان: «ولم يكلف مولاي إسماعيل نفسه عناء الظهور بمظهر لائق في استقباله الأول لي، حيث كان على صهوة جواده أمام الإسطبل، وكانت ثيابه وساعده الأيمن مازالت ملطخة بدماء اثنين من كبار عبيده اللذين انتهى للتو من إعدامهما طعنا بسكينه». وقد صدر كتاب السفير الفرنسي هذا سنة 1693 تحت عنوان «الحالة الراهنة للإمبراطورية المغربية». ويضيف نفس المصدر تعزيزا مرقما لمزاعم أخرى: «إن الرأي السائد يفيد بأن مولاي إسماعيل أقدم شخصيا على قتل 20.000 شخص خلال السنوات العشرين الأولى من حكمه، وإنه لا يسعني إلا أن أؤكد ذلك، وقد سجلت شخصيا 42 إعداما تمت على يده خلال فترة إقامتي ببلاطه والتي لم تتجاوز 21 يوما»،.وفي كتاب صدر بإشبيلية سنة 1708 لمؤلفه فرنسيسكو ديلبويرتو إشارة لأكثر من أربعين ألف إعدام قام مولاي إسماعيل شخصيا بتنفيذها!

وأما القنصل الفرنسي بسلا، ويدعي استيل، فقد أكد في مذكرته أن العدد الإجمالي للأشخاص الذين تم قتلهم على يد مولاي إسماعيل إلى حدود سنة 1698 كان يبلغ 36000 شخص، وأنه استقى معلوماته من عند سجين اسباني كان مولاي إسماعيل قد كلفه بمسك جداول الإعدامات! وفيما يخص تقارير الرهبان التابعين لتنظيم الرأفة، فإنها أضافت من التهويل والمزايدات الشيء الكثير، بحيث أن مولاي إسماعيل أصبح على ضوء ما جاء في تلك الكتابات التلفيقية، وكأنه آلة للذبح تعمل بدون توقف على مدار الساعة، و لا تميز بين الرعايا المسلمين والأسرى المسيحيين. وقد قام فريق من هؤلاء بثلاث رحلات إلى المغرب في سنوات 1704و 1708 و 1714 من أجل افتداء الأسرى المسيحيين، ونشروا نتيجة رحلاتهم التبشيرية إلى المغرب في كتاب صدر بباريس سنة 1724. والغريب في الأمر أنه لا أحد تساءل كيف نجوا من «جحيم» مولاي إسماعيل وقد زاروا المغرب ثلاث مرات!؟ … و من جملة ما جاء في كتابهم أن أسيرا مسيحيا بدأ بكتابة سيرة مولاي إسماعيل، ولما شرع في جمع المعلومات لم يعد قادرا على مواصلة العمل من شدة التأثر العميق الذي خلفته مذابح مولاي إسماعيل في نفسه!

وهكذا وقفنا على جانب بسيط من الغمامة الدعائية المسمومة التي عاشها السلطان مولاي إسماعيل كمحنة لازمته طيلة فترة حكمه، والتي لم تبدأ غيومها في الانقشاع إلا بعد وفاته لما صدر كتاب القبطان الانجليزي برايثويت بعنوان «تاريخ ثورات إمبراطورية المغرب » سنة 1731  بامستردام.

اقرأ أيضا

الإحصاء العام: استمرار التلاعب بالمعطيات حول الأمازيغية

أكد التجمع العالمي الأمازيغي، أن أرقام المندوبية تفتقر إلى الأسس العلمية، ولا تعكس الخريطة اللغوية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *