الديكتوقراطية

أحمد عصيد
أحمد عصيد

تهديدات راشد الغنوشي المتتالية وتصريحاته المتناقضة تعكس عقلية “الإخوان المسلمين” وأسلوب عملهم في كل بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فإما أن يكونوا في مقعد السلطة وإما الفوضى والخراب، وعندما يكونون في السلطة ينصرفون كليا لخدمة أنفسهم وتنظيمهم والتمكين له في الدولة حتى لا يغادروا مواقعهم أبدا رغم فشلهم في تدبير شؤون المجتمع والدولة. وعندما يستيقظ الناس على مخططات “الإخوان” في الحكومة يكون البلد قد وصل درجة كبيرة من الانهيار، لكن كل محاولة لتغييرهم إما عبر انتفاضة الشارع أو اعتمادا على ما يمنحه الدستور من إمكانيات التغيير، تجعلهم يلجؤون إلى التهديد والوعيد، وهكذا نصبح أمام مشهد سريالي: فإما حكم “الإخوان” الذي لا يخدم سوى “الإخوان”، وإما الفوضى والفتنة.

يمكن إطلاق تسمية الديكتوقراطية على التجارب السياسية لـ”لإخوان”، فهم يصلون إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع بأغلبية نسبية لا تمثل أغلبية الناخبين ولا أغلبية سكان البلد، لكن كل ممارساتهم داخل دواليب الدولة معاكسة تماما لمبادئ الديمقراطية وقيمها، فالقوانين التي يشرفون عليها تفرغ من مضمونها، والقرارات التي يتخذونها تنحو جميعها نحو نوع من التيوقراطية المضادة لحقوق الإنسان ولمبادئ المساواة والحرية والمواطنة.

يسمح لنا هذا بفهم السلوك المرتبك لزعيم حزب “النهضة” التونسي راشد الغنوشي، فمباشرة بعد إعلان الرئيس التونسي عن تجميد البرلمان لمدة شهر وإقالة الحكومة بعد انتفاضة شعبية في ظل اكتساح الوباء، دعا الغنوشي إلى التجمهر أمام البرلمان ضدا على قرار الرئيس، لكنه سرعان ما انتبه إلى أن عدد الذين التحقوا به قليلون جدا، ما أدى به في اليوم الموالي إلى الدعوة إلى “حوار وطني”، وبعد يومين من ذلك عاد ليقول بأن حزب النهضة لن يكون مسؤولا عما قد يحدث من “أعمال عنف”، وأنه “لا يضمن عدم حدوثها”، ولم يكتف بتهديد الداخل التونسي بل وجه تهديداته لأوروبا عبر القول إن قيام فتنة في تونس سيؤدي إلى انتشار الإرهاب الذي سيضرب اوروبا أيضا، لكن الغنوشي في نفس الوقت أعلن استعداده لـ”تنازلات” حزبه خدمة للبلد، ما يعكس شعورا بالضعف أمام المشهد الجديد الذي لم يكن ينتظره.

ورغم الطابع الاستبدادي الواضح لسلوك الإخوان في الدولة، فإنهم لا يدخرون وسعا لنعت غيرهم بالدكتاتورية مستعملين دائما آلية الاقتراع للتغطية على أهدافهم الحقيقية في إفراغ الديمقراطية من مضمونها القيمي.

بالمقابل قام الرئيس التونسي بتعيين وزير داخلية جديد قبل تعيين رئيس حكومة، وهي إشارة واضحة إلى استعداد الرئيس لمواجهة أي تهديد بالعنف من طرف “الإخوان” وأتباعهم في انتظار عودة المؤسسات. كما تبدو المواجهة مفتوحة بين الرئيس التونسي وحركة النهضة بعد بدء تحقيقات أمنية ضد محسوبين على الحركة.

والحقيقة أن ما يحتاجه “الإخوان” اليوم ليس تنازلات محسوبة كما ذهب الغنوشي تشبثا منه بكراسي السلطة، بل إلى تغيير راديكالي في الفلسفة الأصولية للتنظيم وفي الأهداف والغايات، حتى يفك الحزب ارتباطه بالتنظيم الدولي للإخوان الذي ما زال يتلقى منه التوجيهات الكبرى، ويتخلص من جبته السلفية ويعود إلى وطنه حزبا تونسيا يعمل من أجل مصلحة تونس الوطن، لا من أجل “الخلافة” أو “الأمة” أو “إقامة الشريعة” ومعاكسة الديمقراطية والتشويش على المؤسسات وعرقلة تطور البلد.

اقرأ أيضا

“اللغة الأمازيغية بالمغرب: تحديات البقاء ومخاطر الانقراض بعد إحصاء 2024”

تقف اليوم اللغة الأمازيغية بالمغرب، باعتبارها ركيزة أساسية في تكوين الهوية الوطنية المغربية، أمام تحدٍ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *