تظل الجامعة المغربية في حاجة ماسة إلى تراكم الممارسة الدرامية داخل أسوارها، وترسيخ فعل مسرحي هادف، وإنشاء نواة مسرحية تحتضن مجموعة من الطاقات والمواهب في إطار ما يسمى بـ (المسرح الجامعي)، فليس من المقبول أن تكتفي الجامعة المغربية بما هو نظري فقط، وبدرس مسرحي لا ينفتح على محيطه، وعلى الفنون الأدائية المختلفة، والفرجات المتنوعة.
وفي هذا الصدد احتضنت رحاب الكلية المتعددة الاختصاص بالناظور العرض المسرحي الموسوم بـ “تاخشبت”، وهو من إنتاج فرقة أمزيان للمسرح بالناظور، ومن تأليف الأستاذ عبد الواحد حنو، وإخراج خالد جنبي، والسينوغرافيا لعبد الله عدوي، والموسيقى لنوري حميدي.
أما تشخيص المسرحية فقد اضطلع به كل من رشيد أمعطوك في دور الراعي، وبنعيسى المستري في دور الصياد، وعبد الله أناس في دور قاطع طريق. والمسرحية تجري أحداثها في مكان مفتوح، وفي فضاء قد يكون خلاء أو غابة. هناك علاقات ملتبسة تحكم هذه الشخصيات الثلاث مبنية على التضاد والصراع وتضارب المصالح. يبرز أول الأمر الصياد شاكيا متبرما بوحدته وبفراغ المكان من كائنات حية، يخاطب نفسه مصرحا بأنه الوحيد الذي بقي حيا في هذا العالم المنذور للخراب، رغم نداءاته فلا أحد يجيبه غير الصدى. إنه الفناء ونهاية العالم حسب تعبيره، حتى الذئاب انتفت من المكان، والظاهر أن الذئاب تحضر في المسرحية فقط كمعان مُتلفّظة، فهي بمثابة المعادل الموضوعي للإنسان في الحيلة والغدر والافتراس، بل إن الذئب البشري يفوق باقي الذئاب الحيوانية.
ولعل المسرحية كشفت بواسطة أحداثها أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، أمام هذا الخواء القاتل والفراغ المريع يختفي الصياد، أو لعله يتذكر ليكشف عما حدث حتى بقي وحيدا، إذ المسرحية تبدأ من نهايتها، أي أنها مسرحية دائرية، تبدأ بهذا الفناء وتنتهي بالفناء نفسه والغربة ذاتها. أمام هذا الخواء العبثي والفراغ المريع يختفي الصياد ليظهر في مشهد آخر من مشاهد المسرحية الراعي مقتحما الغابة بماشيته وكلبه مغنيا منتشيا بقطيعة ومشيدا بعمله وفرحا بوحدته في هذا المكان الأليف بالنسبة له، حاملا عصا ترحاله وزاد رحلته البسيط. إنه رمز الإنسان البسيط، لكن سرعان ما سيقع في كمين نُصب للذئاب، تضيق الدنيا بما رحبت في وجهه يختفي غنمه، وينأى عنه كلبه، ويبقى وحيدا عاجزا، يعتصره الألم، ويستبد به الجوع والعطش، سيما وأن كيس زاده قريب منه لكن لا يستطيع تناوله نتيجة انطواء الكمين عليه، عزاؤه الوحيد في هَلْوَساته ومونولوجاته يتحدث مع الحجر راجيا أن يرد عليه الكلام. إنه الفراغ القاتل، والرغبة في البوح وملء وحشة المكان، فنرى الراعي يشغل نفسه بالرجوع إلى الذاكرة واستحضار بعض الألعاب الجماعية الخاصة بالأطفال المعروفة في البيئة الأمازيغية بالريف. في ظل هذا التوتر يظهر قاطع الطريق الذي سيكتشف أمر الراعي الرازح تحت ثقل جرحه، وانطواء الفخ عليه، لكنه لن يعبأ بحاله رغم استغاثاته المتكررة، بل سيلجأ إلى السخرية منه وتفتيش متاعه، ومحاولة الإجهاز عليه بتهديده بسكين كان يحمله، ولا يتردد في وضعه على رقبة الراعي بين الفينة والأخرى.
وتصل السخرية مداها عندما يحبّب إليه الموت في هذه الحالة لأن مصيره سيكون الجنة، وفي الجنة سينعم بالحور العين. المسرحية تشير بشكل متكرر لثنائية العالم السفلي في مقابل ما هو علوي، وثنائية الخير والشر، الحياة والموت، الجنة والنار، وأن ما حُرِم منه الإنسان في الدنيا يمكن أن يتداركه في الآخرة، غير أن ذلك كان يتم دائما في قالب مفعم بالتهكم. وهكذا نجد قاطع الطريق المستهتر بكل شيء، والمتلذذ بعذاب الراعي، لا يتوانى عن إلحاق الضرر به جسديا بِلَيِّ عنقه والعبث بجسده، وكذلك معنويا من خلال محاولة استنطاقه ودفعه للبوح بتفاصيل حياته. ثم يظهر الصياد من جديد، وتلتقي الشخصيات الثلاث في فضاء واحد حيث ستتواجه وتتشابك، وستتعارض المواقف هنا وهي مواقف فكرية، والصراع الدرامي سيصل ذروته، وتتعقد الأحداث، والصراع سيكون بادئ الأمر فكريا حول ثنائية الموت والحياة، وما جدوى هذه الحياة، سيما بعد أن حاول قاطع الطريق أن ينهي حياة الراعي بتقديم مشروب له فيه سمّ حتى يريحه من عنائه، وهذا جعل الصياد يتدخل ويمنعه من ذلك بدعوى أن ليس من حقه أن يتحكم في مصائر الناس، لذا سيخوض الصياد وقاطع الطريق صراعا وتشابكا مريرا بينهما، في نهاية المطاف سيموت الراعي وقاطع الطريق ويبقى الصياد وحيدا، ليكرر النداء نفسه أنا وحدي في هذا الخلاء الذي تردّد في بداية المسرحية. ثمّة روح عبثية ووجودية تتحكم في المسرحية وانتظار اللاشيء، فلا مخلص للراعي من كمينه الذي وقع فيه، ولا بُغية وجدها قاطع الطريق ولا آمال للصياد في فراغ الطبيعة.
تحضر في مسرحية “تاخشبت” ملامح المسرح العبثي لا سيما مسرحية “في انتظار جودو” لصمويل بكيت على مستوى مجموعة من التمظهرات من قبيل الشجرة الجرداء، وحبل المشنقة، والحوارات المتقطعة، وانتظار المخلص الذي لن يأتي أبدا، والتشكيك فيما هو مُتسامٍ وعلوي. أما فيما يخص الرؤية الإخراجية، فتأثيث الخشبة كان بسيطا والإكسسوارات المستعملة كانت وظيفية ودالة، ونجح الممثلون إلى حدود بعيدة في التعبير جسديا على مجموعة من المواقف والحالات وفي مساحة ضيقة وتنقلات محدودة، لذا كان التعبير بالإيماءات وملامح الوجه هو الطاغي. وممثلو المسرحية كلهم متمرسون ولهم تجربة كبيرة في الممارسة المسرحية والسينمائية والتلفزية، مما أعطى للعرض المسرحي تميزا خاصا، وكان أداؤهم ناجحا ومتناغما.
ولقد لجأت المسرحية بشكل لافت للنظر إلى تحطيم الجدار الرابع وكسر الإيهام المسرحي، واستدراج المتفرج من خلال مخاطبته والنزول إلى صالة العرض، كما أن الموسيقى التصويرية كانت حية، ونبغ في ذلك الفنان نوري حميدي، بمعزوفاته المواكبة للعرض المسرحي وبغنائه المعبر. وكل هذه المكونات مجتمعة جعلت المتلقي يتجاوب بحرارة مع هذا العرض المسرحي الهادف.
وبعد انتهاء العرض، وكلمات أعضاء الجهة الساهرة على تنظيمه في الكلية ممثلة في شعبة الدراسات العربية، أعربوا عن شكر السيد عميد الكلية للفرقة، وترحيبه بكافة الأعمال المسرحية الجادة. بعد ذلك تم الانتقال إلى المحور الثاني من النشاط المسرحي والمتعلق بتوقيع النص المسرحي “صخرة على الراعي” (ثسضاث خ أمكسا) للأستاذ عبد الواحد حنو، وهي المسرحية المعروضة نفسها.
ويبدو أن فرقة أمزيان للمسرح في شخص رئيسها والمكلف بإدارة الإنتاج والتواصل السيد محمد أدرغال، وأمام تراجع وفتور الحركة المسرحية بالمنطقة استطاعت أن تتسلم مشعل المسرح وتعيد له بريقه، وتتألق في ذلك، وتربط الحاضر بالماضي، وتؤسس لفعل مسرحي جاد ومنظم، باحثة عن الاحترافية في العمل والتنوع في الأداء والجودة في المواضيع، وأن ترتحل بعروضها نحو أصقاع وتُخوم مختلفة، لتوصل الفرجة لكل عاشقيها، وما المسرح في نهاية المطاف إلا التقاء الناس بالناس.
بقلم: جمال الدين الخضيري