تفتح السينما أبواب الذاكرة والتاريخ على مصراعيهما، وتنبش في الأفراح والآلام، ، وتميط اللثام عن جوانب عديدة في طي النسيان، من خلال ما تسمح به إمكانياتها في العودة إلى الماضي عبر تقنياتها المختلفة، من حيث بناء السرد، وتوظيف التخييل، وإعداد الديكورات، والموسيقى، وغيرها من الوسائل غير المتاحة في حقول إبداعية أخرى. شكل السفر في محطات التاريخ الوطني سمة الكثير من الأفلام السينمائية المغربية، ولو أن الأفلام الأولى قد ركزت على التاريخ العسكري والسياسي، مثلما حدث في الكتابة التاريخية الأكاديمية أيضا، فإن فئة من الأفلام الجديدة، انحازت لتيمات دقيقة تخص مجالات جغرافية خاصة، مع الاشتغال على امتدادات تلك القضايا في المغرب الراهن، ومن بين هذه القضايا التي أصبحت مطروقة بشكل لافت، نجد استعمال القوات الاستعمارية الإسبانية، بدعم من فرنسا للغازات السامة في غاراتها ضد المقاومة في منطقة الريف، خلال عشرينيات القرن الماضي، في هذا المقال سأتناول أسلوب طرح هذه القضية من طرف ثلاثة مخرجين، تنوعت مقارباتهم، ومنطلقاتهم في تسليط الضوء على هذا الجرح الذي لازالت آلامه، تسرق الفرح من أبناء الريف.
سليمان : السرطان يهدد التماسك الاجتماعي
اختار المخرج محمد البدوي“سليمان” عنوانا لفيلمه الطويل الأول، وهو من إنتاجات سنة 2012. يحكي الفيلم قصة اجتماعية درامية سنة 2011 تتحدث عن سقوط سليمان في فخ الخيانة الزوجية بشكل علني أمام زوجته وجيرانه، مع سيدة إسبانية انبهرت بجماله وشكله، بطريقة غريبة بعدما أوصلت الابن إسماعيل إلى المنزل. تغوص مشاهد الفيلم في نقل تفاصيل التمزق النفسي للزوجة التي تعاني من هجر زوجها لها، وعدم الاهتمام بشؤون المنزل، بما فيها المشاكل الصحية للابن، وتعقدت الأمور أكثر بعد تراجع كمية الأسماك في البحر مما أثر على الدخل المالي للأسرة. إلا أن النقطة التي تهمنا في هذه المقاربة تخص مرض الطفل إسماعيل الذي لم يتجاوز عقده الأول، والذي يجد صعوبة في متابعة حصصه الدراسية بسبب تعبه قبل الوصول إلى المدرسة، وقد ركز المخرج على هذه المحنة، وبنا عليها الكثير من مشاهد فيلمه، لكننا سنكتشف مع توالي المشاهد أن “إسماعيل” مصاب بسرطان الرئة، وأن علاجه مكلف، بل ومستحيل حسب تقارير الأطباء.
لم يكشف الفيلم بشكل مباشر عن سبب إصابة الطفل إسماعيل بالسرطان، لكن استحضار الحسيمة كمدينة من الريف تطل على البحر الأبيض المتوسط، وحضور السياح الإسبان واللغة الإسبانية، كان كافيا للربط بين ما تعيشه المنطقة على مستوى انتشار أمراض السرطان، بما فعله الإسبان خلال حربهم ضد المقاومين في الريف. يثير الفيلم أزمة القطاع الاجتماعي بالمنطقة، خاصة التعليم والصحة، ومما لا شك فيه أن تصوير المخرج لأسرة إسماعيل بمصحة خاصة، ليس إلا تعبيرا عن فشل المستشفيات العمومية في توفير خدمة صحية تتوفر فيها الشروط الملائمة،وه ما يفرض على الأسر نفقات إضافية تتجاوز قدراتهم المالية. يشكل الفيلم إضافة إلى أفلام أخرى صرخة في وجه الدولة المغربية للاعتناء بهذه المنطقة، كما أنه يحمل المسؤولية للإسبان بطريقة غير مباشرة في ما يجري اليوم بالريف، ويدعو إلى ضرورة الاعتذار، وجبر الضرر الجماعي للساكنة.
إبيريتا : المرافعة بالعلم من أجل الاعتراف والاعتذار
يسترجع المخرج محمد بوزكو في فيلمه “إبيريتا” من إنتاجات سنة 2017، الواقع الاقتصادي والاجتماعي لقرية وسط جبال الريف المغربية بداية الثمانينيات من القرن العشرين، هذه القرية تكالبت عليها محنة الجغرافيا القاسية، حيث الغطاء النباتي قليل ومتفرق، والتربة تغطيها صخور تحول دون زراعتها، ومحنة المنتخبين وممثلو السلطة المرتشين والفاسدين. يصعب التخمين من العنوان بموضوع الفيلم، خاصة بالنسبة لمن يجهل اللغة الإسبانية، لكن العتبة الشاعرية، والتي تم تصويرها بإحساس صادق، تحيل مباشرة إلى مرضى الرئة، الذين يتخلصون من سموم مرضهم في أكياس بلاستيكية خاصة، إذ تتابع الكاميرا كيسا يتصاعد في السماء، ثم يسقط في قرية بني كبدان التي تدور فيها أحداث الفيلم بتقنية ربط بديعة.
تبدأ الحكاية من رحلة بسيارة أجرة تصعد في منعرجات خطيرة، كمؤشر على محنة السفر، وضبابية الأفق، ولا يكشف الفيلم عن مشكل الغازات السامة، وآثارها في ساكنة المنطقة إلا بعد مرور أزيد من ربع زمن الفيلم، حيث كان الموت الذي خطف “تيموش” ووالدها، وزوجة رئيس الجماعة، سؤالا محيرا لزوار القرية وسكانها. استغل المخرج وقتا كافيا لتشخيص الظروف التي تعيشها القرية، من حيث التعليم الفاشل، فالفصل الدراسي معزول، وتجهيزاته بسيطة، والتلاميذ يستغلون في تنقية الحقول، على حساب زمنهم المدرسي، وتباع مؤن إطعامهم في السوق السوداء بتواطؤ بين من المدير ورئيس الجماعة، أما القطاع الصحي فظروفه مآساوية، والأنشطة الاقتصادية تقليدية، والرواج ضعيف جدا، مع حضور ملفت للتهريب وبيع الممنوعات.
ينقلنا المخرج بعد مسح مقرب للواقع، عبر تقنية “الفلاش باك “إلى حكاية أخرى تربط الحاضر بالماضي لتقريب المشاهد مما يجري، إذ سقط طيار إسباني من المظليين، فتم إنقاذه من طرف السكان، فأصبح واحدا منهم، ليشهد على مآساة أبناء الريف الذين اكتووا بنار بالغازات السامة، ويكون شاهدا على إدانة السلطات الإسبانية، وحلفائها، ويقود حملة مرافعة ضدها رفقة الباحث زيان والأستاذ ميلود، لإرغام إسبانيا على الاعتراف بجرائمها، الاعتذار للضحايا وأبنائهم، وبذلك يرسم الفيلم الأفق الذي يجب أن يسلكه الريفيون في هذه القضية الشائكة، وذلك بإعادة كتابة تاريخ منطقتهم الذي يعرفونه أكثر من أي جهة أخرى، مثلما جاء على لسان الإسباني” خوسي”. لقد نجح الباحث زيان في فك لغز حضور الإسباني وسط القرية، وربط بين كثرة الموت، وانتشار مرض السرطان المميت، بما عاشته المنطقة زمن الاستعمار، وأقنع صديقه ميلود والطيار السابق”خوسي”، بالسير قدما بواسطة كل أساليب المرافعة والبحث، لكشف تفاصيل تلك الجرائم، التي لازالت نتائجها تخطف أرواح الكثير من أبناء الريف.
دقات القدر : المرض اللعين وكبح المقاومة
يحط فيلم “دقات القدر”2019 للمخرج محمد اليونسي، الرحال بنا شمال المغرب خلال عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، من خلال إشارة واضحة بالإحالة إلى تجنيد الجنرال فرانكو لسكان الريف في حربه ضد الجمهوريين، واستحضار الفيلم مرحلة تثبيت النفوذ الإسباني بالريف، بعد الاجتياح العسكري، ولو أن المخرج اعتمد أسلوبا تجريبيا في سرد حكايته، من خلال توظيف تقنيات خاصة مقتبسة من المسرح، وهو ما يجعل المشاهد يتيه على مستوى الزمن والمكان، ولهذا لا نفهم سياق الأحداث واتجاهاتها إلا بعد مرور دقائق عديدة من زمن الفيلم، هذا الأخير يسرد حكاية وضعيتين متشابهتين لسيدتين تعانيان من قيود مفروضة من نظامين مختلفين ف”تودة” المغربية وجدت نفسها أسيرة في منزل حماتها وزوجها المريض، وفريسة لتسلط حدو، شقيق زوجها الذي يرغب بها زوجة حتى قبل وفاة أخيه، أما الشابة الإسبانية”ماريا” فقد فرض عليها أن تكون راهبة رغم رفضها القاطع لذلك، وغامرت بكثير من الجرأة في رفض المصير المفروض عليها. يصور الفيلم تزايد طمع حدو في زوجة أخيه بعد تعيينه قائدا من طرف الإسبان، ليدعم فكرة التجنيد، ويكشف خطط المقاومين، وهؤلاء كانوا ضحية الزوايا والطرق الصوفية، التي كانت متواطئة مع المستعمرين الإسبان.
يهمنا في هذه المقاربة حضور السرطان في الفيلم، والطريقة التي تم به تناول تأثيره على الساكنة. شكل سلام أحد أبناء الأسر المقاومة النموذج البارز للإصابة بالمرض في الفيلم جراء التعرض للغازات السامة خلال مرحلة حرب الريف، ولم تتم تسمية المرض بشكل دقيق، رغم أن تودة كررت أكثر من مرة انتشار هذا المرض في سائر مناطق الريف. نقطة أخرى تتعلق بهذا الجانب الصحي في الفيلم وهي أن الإسبان أنشأوا بعض المراكز الصحية لتقديم العلاجات للريفيين، ووظفت لذلك بالإضافة إلى الأطباء والممرضين المدنيين، فئة من الراهبات، للمشاركة في تقديم العلاج، ودعم عملية التبشير، ومن خلال موقف سلام فقد كان الكل مستعدا لتلقي العلاج، ولو كان مقدما من طرف الراهبات الإسبانيات.
يظهر من خلال الفيلم أن المخرج لم يركز على مرض السرطان، وغيره من الأمراض التي تكاثرت بعد استهداف منطقة الريف بالغازات السامة، وإنما ركز أكثر على وضعية المرأة في ظل الحرب الأهلية الإسبانية التي كانت ضحية المؤامرات بين الأطراف المتصارعة، والمرأة المغربية التي كان همها الحفاظ على روح المقاومة، إلا أنها كانت ضحية تقاليد بائدة تفرض عليها الخضوع للجماعة، وقد عبرت تودة عن أقصى درجات التمرد بحلق شعرها الذي يعبر في السياق المغربي عن هويتها الأنثوية، وهو ما أفزع القائد حدو، الذي تراجع للوراء حين قدمت له تودة جسدها منفصلا عن روحها.
تتقاطع الأفلام الثلاثة في إثارة موضوع الغازات السامة في منطقة الريف، والتي كانت لها انعكاسات آنية بتسهيل الانتصار على المقاومين، وتدمير المزروعات وتهديد التنوع البيولوجي، وآثار أخرى ممتدة في الزمن إلى يومنا هذا، دون أن ننسى أنه هناك تقاطع بين هذه الأفلام في أهمية المعرفة والعلم لتحقيق الخلاص والنجاح، وهكذا فإن السينما تكون قد ساهمت من موقعها في إثارة هذا الموضوع المعقد، إلى جانب أصوات أخرى دقت ناقوس الخطر حول ما يدور ويجري في الريف المغربي.
محمد زروال / بني ملال