إن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي وعاء الهوية وحافظة الذاكرة التاريخية لأي شعب. وعندما نتحدث عن الأمازيغية، فإننا نتحدث عن لغة ضاربة في عمق التاريخ، لغة قاومت الزمن والتهميش واستمرت بفضل أهلها وروادها الذين سعوا إلى إحيائها والحفاظ عليها. ومن أهم أركان صون أي لغة، استخدامها في الكتابة ونشرها في الفضاء العام، لا سيما بحروفها الأصلية تيفيناغ، التي تُعد جزءًا أساسيًا من الهوية البصرية والثقافية للأمازيغ.
ما دفعني لطرح هذا الموضوع هو الجدل الذي أثارته مؤخرًا الصخرة الأمازيغية التي عُثر عليها في ألميريا بالأندلس في إسبانيا، والتي كُتب عليها بحروف تيفيناغ، ما جذب اهتمام الباحثين والمهتمين بالتراث الأمازيغي. هذه الصخرة الصغيرة، رغم بساطتها، حملت لنا رسالة عميقة عبر الزمن، قالت ما لم تقله قرون من الوجود الأمازيغي في الأندلس. فبينما عاش الأمازيغ المسلمون في الأندلس قرونًا طويلة وساهموا في بناء حضارتها، لم يتركوا أثرًا كتابيًا بلغتهم، بل دوَّنوا كل شيء باللغة العربية وبحروفها، ما جعل حضورهم يبدو كأنه لم يكن. فعندما نتأمل المعالم التاريخية في الأندلس، نجد مثلًا أن قصر الحمراء في غرناطة، أحد أبرز الشواهد على الحضارة الإسلامية هناك، تزين جدرانه عبارة “لا غالب إلا الله” مكتوبة باللغة العربية، دون أي أثر للغة الأمازيغية، رغم أن كثيرين ممن شاركوا في بناء الأندلس المسلمة كانوا أمازيغًا، سواء كانوا فقهاء أو قادة عسكريين أو معماريين.
ويرجع السبب في ذلك إلى أنهم لم يدوّنوا حضارتهم بلغتهم الأصلية، بل اعتمدوا بالكامل على العربية، مما جعل أثرهم يذوب مع الزمن، على عكس الشعوب التي حرصت على توثيق لغتها وهويتها كتابةً.
اليوم، ندرك أن الحفاظ على أي ثقافة يمر عبر التدوين والكتابة، وأن دعم الأمازيغية لا يكون فقط بالتحدث بها، بل أيضًا بتوثيقها في الكتب، والمعالم، والفضاء العام، وبحروفها تيفيناغ، التي تشكل عنصرًا جوهريًا في هويتها البصرية. فالكتابة بحروف تيفيناغ لا تعني فقط تسجيل اللغة، بل تعني أيضًا ترسيخ حضورها في الوعي الجمعي، تمامًا كما فعلت الصخرة الأمازيغية في ألميريا، حيث أثبتت أن الأمازيغ كانوا هناك، حتى وإن لم تتحدث عنهم الكتب الرسمية كثيرًا.
لذلك، عندما تنتشر الكتابة باللغة الأمازيغية وبحروف تيفيناغ على اللوحات الإرشادية، وفي الوثائق الرسمية، وعلى واجهات المباني، فإنها تعكس وتؤكد وجود واستمرارية الهوية البصرية لأي ثقافة. وعندما تصبح جزءًا من المشهد البصري العام، فإنها تضمن للأجيال القادمة رؤية لغتهم وثقافتهم في الحياة اليومية. وهذا يخلق ارتباطًا وجدانيًا وحسيًا باللغة، ويعزز مكانتها ويضمن استمرارها.
إن درس الصخرة الأمازيغية في ألميريا واضح، لأن التاريخ يكتبه من يُدوِّنه. وإذا أردنا أن يكون للأمازيغية مكانة في المستقبل، فعلينا أن نكتب بها، أن نوثق بها، أن ننشرها بحروفها تيفيناغ في كل مكان. فبدون الكتابة، قد نكون موجودين، لكننا سنظل غير مرئيين، تمامًا كما حدث لأجدادنا في الأندلس.