تنطوي العلاقة بين الكتابة والتشكيل على مجموعة من الوشائج التي تتيح بناء موضوعها، وتسوغ نظريا إمكان البحث لاستجلاء المشتركات الرمزية بين تعبيرين فنيين يستندان في الظاهر إلى مادتين مختلفين للبناء والإبداع، مادة اللغة في الكتابة، بوصفها مادة غير محايدة تكتنف دوالها ذاكرة رمزية من المدلولات والرؤى، والخامات والمواد الصباغية في مدارات التشكيل بوصفها موادا تتطلب اشتغالا استثنائيا وفعالية إبداعية ورمزية لاستنطاقها والعبور بها من حالتها الأولية إلى دوائر الفن.
غير أن الكتابة والتشكيل يؤسسان نسبا رمزيا لهما في كونهما ينهضان على متخيل رمزي، ينبع من اتصال الإبداع بوجه عام بالرغبة وبالجسد وبما يعتمل في الأعماق والمغارات الداخلية للإنسان من هواجس وتوجسات وأسئلة إزاء الوجود الإنساني.
مشتركات رمزية جعلت إمكان الحوار واللقاء بينهما مفتوحا على الدوام على إمكانات التحقق، لقاء كثيرا ما مد المشهد الإبداعي الكوني بأعمال وهبات انبجست كعلامات مضيئة وشمت الذاكرة الإنسانية بأثر خلاق، يظل امتدادا وبعدا من أبعاد الإبداع بيدين، على نحوما أشار إليه الكاتب المغربي عبد السلام بنعبد العالي في إحدى أعماله النقدية.
في هذا المقال نقترب من شهادات وتأملات لتشكيليين وكتاب من المشهد الإبداعي الأمازيغي في المغرب، عن تمفصلات العلاقة بين الكتابة والتشكيل،كما نطلع على تجارب انخرطت في أفق الحوار بينهما وفي أمدائه.
محمد واكرار: شاعر ومترجم
سبق لي أن انخرطت في تجربة الحوار مع تجارب تشكيلية، إن الحديث عن الحوار بين التشكيل والكتابة، يندرج ضمن إطار عام هوالسفر والتحول الذي يمكن أن تعيشه التجربة الجمالية من مجال إلى أخر، في اعتقادي أن العلامة سواء كانت علامة شعرية أو علامة بصرية تشكيلية أو غيرها من العلامات، فإنها عندما تنتمي إلى الأفق الإبداعي وتتجاوز الاستعمال البيسيط فإن إمكان تحولها مفتوح على احتمالات شتى، لأن انتمائها إلى الإبداع يجعل هذا التحول سلسا من حيز جمالي إلى أخر، فأعمالي الشعرية تحول بعضها إلى عمل مسرحي تم عرضه في إحدى دورات المهرجان الدولي للموسيقى الأمازيغية تيميتار، كما تم الاشتغال عليها موسيقيا من قبل موسيقيين من طينة نادرة كالموسيقي عموري مبارك والموسيقي ادريس المالومي والموسيقية المغربية سامية أحمد، وتم تحويلها إلى جداريات تؤثث جدار شارع الحسن الثاني أحد أقدم الشوارع بمدينة أكادير الحديثة وتنفتح على متلقين جدد، وتصل إلى حواس الناس، كما انخرطت الفنانة التشكيلية كلداسنتتين، في محاوارة إحدى نصوصي الشعرية تشكيليا، وانخرطت حديثا في حوار مفتوح مع التشكيلي ابراهيم اشيبان شهد ميلاد فيديووثق التجربة ومد الجسور بين أعمالي الشعرية وتربته الصباغية، إن علاقة الكتابة بالتشكيل، هي علاقة أبدية ومستمرة، علاقة لا تقبل الانفصال، حتى وإن لم ينتبه إليها الفكر الإنساني، إنها علاقة بين فعاليتين إبداعيتين، بين طاقتين إبداعيتين، الطاقة والفعالية الإبداعية لا تعترف بالزمان والمكان، لها قوانينها الخاصة، إنها من صميم عالم أخر، المبدع الحقيقي وحده يستطيع أن يبلغه، على كل حال يبقى المطلوب هو الوعي بها وإدراك وجودها، وهو الإدراك الذي يمكن أن يؤسس لتجارب الحوار ويعززها.
حسن أوبراهيم عموري: كاتب وروائي
لا يمكن استيعاب الحياة بدون فن وهنا تحضرني مقولة الفيلسوف الألماني نيتشه “لولا الفن لكانت الحياة غلطة” الفن له القدرة على تغطية مختلف مناحي حياة الإنسان، كيف وحياته تتخلها أزمات؟ فلا يمكن أن يعتزل الفن وقت الأزمة فلم يسجل التاريخ هذا هذه الملاحظة حيال الفن اوالفنان، فإذا كان الإبداع وليد الفن. فالفن وليد الأزمة. أما والأزمة الان هي العزلة فالعزلة محراب ومرسم الفنان او الشاعر يستلهم منها ادواته التعبيرية تبتغي المقاومة نحو التمسك بإرادة الحياة كميزة إنسانية تجعل الإنسان متمسكا بحياته منافحا عنها بشتى الطرق والوسائل.
باعتقادي أن هذه المحاورات دائمة بين الأدب والفن التشكيلي، كونهما خطابين إبداعيين يطبعهما التماثل وكذا المحايثة لواقع الإنسان، كتعبيرين مختلفين من حيث الأدوات والوسائل لكن الهدف ربما واحد هوإثراء وإغناء الواقع الإنساني المعقد بمختلف تمظهراته وتشكلاته، فالواحد منهما ناطق ترسمه ريشة الكلمات، والآخر صامت ترسمه لغته الألوان، أما والحديث عن علاقة الأدب بالفن التشكيلي هي علاقة قديمة تستمد جذورها من رغبة الفنان؛ (الإنسان) الأزلية في البحث عن الجمال وتذوقه وإما من محاكاته للطبيعة وإستنساخه لجمالها كعلاقة جدلية تتأرجح بين التأثير والتأثر، وأما قدرته على ترجمة العلاقات الإنسانية في قوالب إبداعية تتزين كنسيج من الألوان المختلفة لتُقدّم كمنتوج يعبر فيه الفنان عن موقف حيال قضية من القضايا التي يتموقع او يتموقف إزاءها وما يمكن أن تحمله من رسائل فنية او اجتماعية او علائقية او سياسية او روحية. وغيرها، والمدارس التشكيلية في هذا الباب غنية عن البيان، اما الأدب من خلال الرواية او القصة او الشعر فليس فليس ببعيد عن عالم الفن التشكيلي، فمثلا اذا كان الشاعر يستلهم صوره الشعرية من لوحة الطبيعة، فالفنان التشكيلي ألوانه وأشكاله من القصيدة التي هي في الحقيقة تصوير للشاعر الذي يسكنه، أما والحديث عن القدرة على تجاوز الخطاب الكلاسيكي في هذا الباب فمعروف ان الفن عموما ابن الواقع يلازمه في مختلف مراحله فلايمكن ان نتحدث عن فن ميت، فخاصية الفن هي الحياة، فلكل عصر قضاياه وبالتالي الفن هواداه تعبير سواء بالنسبة للشاعر او للفنان التشكيلي او غيره لكن المحايثة والملازم بينهما هي دائما قائمة تغذيها القواسم المشتركة بينهما،
الطيب أمكرود: شاعر وباحث
إن العلاقة بين الصورة والكلمة علاقة حتمية وقديمة، فالشعر رسم بالكلمات لأحاسيس ومشاعر الإنسان ورؤيته للكون، والصورة تجسيد لها مجتمعة بالألوان.
فالريشة ترسم ما يعتمل بداخل الإنسان، كما أن الكلمة انعكاس لمشاعره، وتجربة حوار الشعر والتشكيل ليست إلا إحياء وتكريسا لتلك العلاقة السرمدية للونين من ألوان الإبداع الإنساني أي الشعر والتشكيل.
الأدب والتشكيل نموذجان من أشكال التعبير عن إنسانية الإنسان، فرغم اختلاف اللغتين، إذ أن لكل منهما ضوابطه، إلا أنهما تلتقيان في كونهما تنشدان الفن والجمال، فالقصيدة واللوحة وجهان لعملة واحدة هي الإبداع، والإبداع انعكاس غير ممكن تعقب مساراته لمشاعر الإنسان العابرة للزمن والحدود والتاريخ، ومغامرة في المجهول واللانهائي في نظرته للعالم والوجود والكون، وهي العلاقة الحديثة/ القديمة الملامح التي أحيتها تجربة حوار الشعر والتشكيل.
الفن في مجمله صورة ينظر من خلالها إلى المبدع، فكل عمل إبداعي ما هو في النهاية إلا منظار أو كوة نطل من خلالها على عمق الإنسان، على مشاعره، على نجاحاته وإخفاقاته، على نظرته للكون والوجود… ونظرا لكون الشاعر والفنان يمتحان من نفس معين الثقافة، فمن البداهة أن تجمعهما مشتركات رمزية تتسللان إلى منجز كل منهما دون استئذان.
علاقة الأدب بالتشكيل علاقة سرمدية وبديهية، فكم من أديب يرسم بقلمه اللوحات تلو اللوحات يجمعها بناء المشهد العام لعمله الإبداعي الأدبي، وكل رسام إنما يكتب قصيدة تلوالقصيدة يتقن قراءتها الراسخون في علم فك رموز الفن التشكيلي.
ابراهيم أشيبان: تشكيلي
أقامت الجامعة الصيفية بأكاديرا حوارا بين تجارب تشكيلية وإبداعية، وفي نظري إن ما ميز تجربة: حوار في زمن العزلة، هو أولا ذلك الإصرار على إمكانية الحوار في ظرف يفرض العزلة والتباعد الاجتماعي. ثانيا الاختيارات التي تأسست عليها هذه التجربة: اختيار التجارب الإبداعية والحساسيات، زد على ذلك صيغة وشكل التجربة (vidéo) الذي يتيح فرصة استنطاق كل المفارقات.
لا أستطيع القول إن هناك تجاوزا ما للعلاقة الكلاسيكية بين الأدب والتشكيل، ولكن التجربة اتسمت بنوع من التلقائية الابداعية ونوع من الملائمة بين التشكيلي والشعري.
وقد أسهمت إلى حد ما جملة من الاعتبارات في تحقيق التناغم في الحوارات يكمن أهمها في إقامة حوارات ثنائية بحيث تحس ان الشاعر والتشكيلي الذي يحاوره يتقاسمان عوالم مشتركة وتقاطع في الرؤى . ويجب التنويه بمجهود رشيد الحاحي الذي قام بنسج كل هذه الحبكة باتقان.
كما لا يجب ان ننسى مجهود المخرج عبد العزيز اوصالح الذي حاول تحقيق التناغم على مستوى كل شريط.
إن التشكيل والأدب محكومان بالتطور ومسايرة تحديات ومستجدات الانسان، لذلك فإني أرى أن مستقبل علاقة التشكيل بالادب ستعرف لا محالة الكثير التجارب الخلاقة خصوصا ان تحطيم الحواجز بينهما لم يتم بعد بشكل كافي باستثناء تجارب قليلة.
رشيد الحاحي: تشكيلي وناقد جمالي
سبق لي أن اشتغلت في معرض وتجربة تشكيلية على أشعار الشاعر صدقي علي أزايكو في بداية الألفية، وبالتحديد على ديوان “إزمولن”، وهو اشتغال أتى في سياق بحث في جماليات التشكيل ورمزيته في الثقافة الأمازيغية، وكنت قد أوضحت في كتابي “الفن والجسد والصورة” أن علاقة الشعر بالتشكيل، يجب أن تتجاوز الشكل التقليدي المعهود الذي يقتصر على إلحاق نص شعري معين بلوحة تزينه وتوثث فضاء مجلة مثلا، بشكل لا يبين عن العلاقة الوطيدة بين الفنيين والتعبيرين الإبداعيين، لذلك فإن اشتغالي على أشعار صدقي علي أزايكو انطلق أولا من قراءة متأنية لأشعار أزايكو باعتبارها تمثل مرحلة دقيقة جدا في تاريخ الشعر الأمازيغي؛ باشتغاله على الشعر الشفهي وعناصرها بحس تحديثي وإدراجها في مدارات الشعر الحديث، إضافة إلى القوة الرمزية والأسلوبية والصورة الشعرية، التي تبين عنها وتقدمها أشعاره، الشيء الذي أتاح إمكانية تصور أفق تشكيلي لحوار الشعر والتشكيل من جهة، وإظهار بعض خصائص وجماليات العمل التشكيلي انطلاقا من مقومات ثقافية ذات مرجعية أمازيغية في مستوى الرمز والصورة وغير ذلك من المستويات.
ويمكن اعتبار الحوار الإبداعي الذي نظمته الجامعة الصيفية مؤخرا، بمشاركة تسع مبدعين في مجال الآداب وتسع فنانين تشكيليين وفوتوغرافيين، والمقدم في حلقات على قناة الجامعة الصيفية باليوتوب، تجربة رائدة في تناول أبعاد هده العلاقة في شكل إبداعي معاصر، حيث أبان المبدعون واعمال الفيديوهات المنجزة عن اشتغال عميق بمدارات الحوار والتفاعل والتكامل بين هذه الفنون.