لا شك في كون ممارسة المحاماة اشد خطورة و أكثر تعقيدا و صعوبة في الدول التي تتأرجح بين محاولات بناء دولة الحق و القانون و بين نزوعات التحكم و محاصرة الانتقال الديمقراطي و ما يكفله من حرية الفكر و الرأي و التعبير و ما يضمنه من احترام لمبادئ حقوق الانسان و منها اساسا شروط المحاكمة العادلة و قرينة البراءة على اساس من التوازن بين سلطة الاتهام و مهمات الدفاع.
فخارج العلاقة المباشرة بين الدولة و سياساتها في ميدان العدالة و بعيدًا عن تحركات و انفعالات التموقع التي تفرضها لحظات الانتقال من دولة الضبط و المزاج الى دولة الحق والقانون فان المجتمع نفسه لا يخلو من عناصر المواجهة و التصدي لكل ما هو سد ممانعة تجاه القمع و الاستبداد و التسلط بكل ابعاده و مستوياته من منطلق ان الانحياز الى السلطة مربح و آمن سياسيا و مهنيًا و عائليًا و مجتمعيًا عكس المغامرة بالانحياز لجهةٍ ممانعة لا تتردد في احايين كثيرة بإعلان رفضها لما ترى فيه خرقا للقانون و انتهاكًا لحقوق الانسان.
العناصر التي تستفيد من امتيازات الدولة او لها تصور خاص مناقض للدولة نفسها هي التي نراها في الواقع تستكثر على المحامين حقهم في الاحتجاج عبر الكلمة الحرة و الوقفة المسؤولة و الموقف الناضج المتزن، كلمة حرة كما في الدول المتحضرة تتجاوز قاعات وردهات المحاكم لتعانق الفضاء العام بتموجاته و لوبياته و ضغوطاته، بإعلامييه و سياسييه …
كلمة حرة مسؤولة حتى لا تبقى قيم العدالة و حقوق الانسان و حريات الناس وعقائدهم رهينة لصناع الفرجة السياسية و هم يدافعون جماعات و فرادى عن الفصل “الجامد” للسلط و عن (العام زين ) مع وجود الدستور و القوانين !
المغرب كباقي دول المغرب الكبير تونس و الجزائر اساسا مع فارق في بعض الجزئيات و التفاصيل حيث الإشكال في جوهره واحد و متصل بواقع المحامي في وجوده بين مطرقة الدولة و سندان المجتمع حين يفرز قوى الظلم و الاستبداد حيث يبقى المحام جراءها في عزلة كلما تراجع الى الخلف زاد عليه الطوق انسدادا و انغلاقا فلا يكون له من مفر سوى الصد و المواجهة ان اراد الا يموت “حيا” في جداول هيئته دون رأي و لا موقف و لا كبرياء؟
في المغرب كما عند جيراننا المحامي في خطر !
في سنوات الجمر و الرصاص زملاء لنا آزروا انقلابيين و ثوارا و أعداء للدولة و النظام و لم ينتقم منهم احد بمناسبة مزاولتهم لمهام الدفاع، لا متابعة و لا مطاردة و لا قتل و لا ترهيب ولا سجن …ربما بل الاكيد ان المغفور له الحسن الثاني كان يرى في تعامله مع المحامين فرصة لإظهار الجانب العصري و الحضاري من شخصيته كملك و رجل دولة لا يقل تحضرا في هذا الباب عن رؤساء و ملوك دول عريقة في العدالة و طقوسها و مؤسساتها …
ماذا حصل حتى نرى محاميا توبع و حوكم و أدين غيابيا بسنة و ثمانية اشهر سجنا نافذة على كلام دافع به على مناضلي حراك الريف من خلال تصريحات و تدوينات من بين آلاف التدوينات المؤيدة و المعارضة للحراك وراء ها سياسيون و حقوقيون و مثقفون، و محامون في الجهة المقابلة ينوبون و يمثلون قوى الامن و تحاليل الدولة و مؤسساتها ..
ماذا حصل حتى نتجمد و نغرق أفواهنا في الرمال و نجيز قمع زميل لنا شاب في مقتبل العمر لم يكن مجرما و لا منتحلا لصفة بل دافع باستماتة عن أفكاره و قناعاته المستمدة من قضية مركبة و معقدة لا احد يملك حقيقتها بالكامل فبالأحرى تفاصيلها، حقيقة لا يمكن على كل حال ان تعكسها الاحكام القضائية بما تنطوي عليه من نسبية و شكوك تلغي امكانية الاطمئنان لعدالة تحمل أعطابا و ندوبا لم تندمل بعد ويصعب موضوعيا تجاوزها …
كيف ركبت اجزاء “المقصلة” على مرأى و مسمع منا ولم ترتعد فرائصنا و لم تخفق قلوبنا خوفا من القادم ولم يخطر ببالنا ان الثور الأبيض مجرد بروفا لقياس درجة الحياة و الكرامة في شراييننا …
صدر الحكم باسم جلالة الملك و طبقا للقانون و في غياب المحامي المتهم عبد الصادق البشتاوي، آوته فرنسا و منحته اللجوء السياسي …طوي الامر و انتهت الحكاية …و لان التاريخ ليس احادي الاتجاه كما يبدو فان في الحكاية درس و معنى من حقنا ان نعود اليها حتى لا ننسى!
اما محاولة “عزل “النقيب محمد زيان و الاستاذ إسحاق شاريا عن فضائهما المهني فهي قصة اخرى حيث تمت متابعتهم بوابل من المتابعات المشفوعة بأحكام و قرارات لا يتحملها الا صبور معاند عاشق للمهنة قد نختلف معه لكن لا نستطيع ان نشكك في قوته و غيرته على مهنة الشرف، و للتذكير فان كل المتابعات مرتبطة بتصريحات و مرافعات انتقلت من محاضر الجلسات الى افعال على صفحات محاضر الضابطة القضائية و ربما بعده صيغت في شكل حيثيات للنطق بالأحكام و القرارات …
ماذا حصل …حتى يقع كل ما وقع؟ كيف نرضى ان نتجرع كل هذه الضربات! في صمت رهيب و ببرودة اعصاب غريبة و بمقتضى ضبط للنفس لا مثيل لضبطه في وقت تتسع فيه دائرة الهجوم و التضييق على حرياتنا و حصانتنا !
ارتأيت ان اذكر ببعض مشاكل و فصول تاريخ مهنتنا ليس للنقد من اجل النقد فقط و ليس تبخيسا لعمل اي جهة لان التاريخ وحده كفيل بتحييث الاحكام و النطق بها في الوقت المناسب، بل بهدف بداغوجي مقصود و مرتب له هو ان نضع شباب المهنة في قلب تاريخ مهنتهم و في جوهر مقاصدها النبيلة في تحقيق العدل و الانتصار للمظلومين بجرأة و علم و ثقافة واخلاق و حب للوطن بعيدا عن الصغائر …