من “كاش كوش” إلى “جبل إيغود”، ومن رماد الطقوس الحجرية إلى بريق الممالك الأولى، كانت أرض المغرب ولا تزال حاضنًا لنبضٍ حضاري لا يهدأ. ومازل مصرا على خلق ديناميات حضارية أصيلة.
خلافًا للأساطير الحديثة التي رأت في هذه الأرض صمتًا جيولوجيًا أو فراغًا ثقافيًا، تكشف التنقيبات والقراءات المتأنية للطبقات الأرضية أن هذه الربوع لم تكن هامشًا للتاريخ، بل كانت منبعه، ومفترق مساراته الكبرى. هنا، في تجاويف “كاش كوش” الغائرة بجبال الريف، همس الإنسان الأول بما يشبه القصيدة الأولى، بينما كانت يداه تشق الصخر وتلهب النار.
وهناك، في “جبل إيغود”، انبثق أقدم وجه بشري معروف، لم يحمل فقط ملامح الإنسان العاقل، بل حمل أيضًا أسئلته، ومخاوفه، وشغفه بالخلود.
وفيما بينهما، على امتداد السهول والهضاب والوديان، تطورت الطقوس من البسيط إلى المركب، ومن الأدوات الحجرية إلى البُنى الرمزية، لتُعبّد الطريق نحو ولادة التنظيمات السياسية الأولى. فمن نُظم القرى الصخرية في العصور النيوليتية إلى نواة الكيانات القبلية التي ستنضج لاحقًا إلى ممالك، يلوح المغرب كمسرح كثيف للذاكرة، لا كفراغ جغرافي
لقد كانت هذه الأرض تُنصت بعناية إلى البحر المتوسط، تستقبل الرياح من المحيط الاطلسي، وتبادل الضفاف حكاياتٍ عبر السفن والرموز. لم تكن فقط طرفًا يستقبل، بل مركزًا يُنتج، يُبدع، ويُقاوم النسيان.
وها هي الأرض، رغم ما بُحِث فيها، ما زالت تُخفي في جوفها رسائل طُمرت عمدًا أو نُسيت سهوًا، تنتظر من يقرأها بعين الباحث لا بعين الغنيمة، وبشغف المؤرخ لا بعُجالة السائح.
يجب أن نمتلك ما يكفي من الجرأة اليوم على إعادة سرد تاريخ هذه الأرض، لا باعتبارها تابعة، بل باعتبارها فاعلة، حية، ومُلهمة
“كاش كوش” الغائر في صخور الريف، و”جبل إيغود” الشامخ بوجه الإنسانية الأول، يكتب ايصر المغرب على كشف فصوله الخفية من التاريخ بلغة الأرض، ووشوشة الرياح، وبصمة الإنسان.
لطالما نُظر إلى هذه الربوع كأطراف نائمة على هامش حضارات المتوسط، كأرض عابرة لا تسكنها إلا الطبيعة. لكن الاكتشافات الحديثة، والتنقيبات الأركيولوجية، تقلب هذه الصورة رأسًا على عقب، لتكشف أن هذه الأرض لم تكن خاملة كما زُعم، بل كانت قلبًا نابضًا، وساحة نشطة في ذاكرة البحر الأبيض المتوسط.
هنا، في كهوف العصر الحجري، وُلدت البدايات الأولى للرمز والسؤال. وهنا، تحوّلت أدوات الصيد إلى طقوس، والطقوس إلى رؤى جماعية مهدت لبنية المجتمعات، ثم الممالك. لم تكن الممالك في المغرب-ومازالت- وليدة الصدفة، بل ثمرة مسارات طويلة من التراكم المعرفي والتفاعل البيئي والثقافي.
فتاريخ المغرب، أصر على مع انهاء التصورات الكولونيالية التي ألبسته ثوب “اللامرئي”، يظهر اليوم بوجه جديد: فضاء للتفاعل الحضاري، ومختبر مبكر لبناء الإنسان والمجتمع والدولة.
وإذا كانت الأرض قد باحت ببعض أسرارها، فإن في جوفها ما يزال كثيرٌ مما يُنتظر اكتشافه. لا بالنوايا الاستهلاكية، بل بعين الباحث، وبشغف المؤرخ، الذي يعلم أن التاريخ الحقيقي يُقرأ بصبر، وباحترام لصمت الحجارة وأثر الأقدام، وعبر طبقات الزمن، يعيد المغرب اليوم رسم خريطة الذاكرة العالمية، ويمنح المغرب مكانته الحقيقية؛ لا كظل للتاريخ، بل كأحد مصادر نوره الأولى. وها همات وجدت جذور الإنسان؛ حين نطق الصمت في كهوف وهضاب “كاش كوش” وجبل “إيغود”.
في عمق كهوف الشمال وبين مرتفعات الأطلس، وُجدت آثار لخطى الإنسان الأول في المغرب، أقدمها بقايا الإنسان العاقل في جبل إيغود، التي تعود إلى أكثر من 300 ألف سنة. لم تكن هذه الكهوف مجرد مأوى، بل مختبرًا مبكرًا للسلوك الرمزي والطقسي، حيث التقى البقاء بالإبداع، والحياة بالمعنى. وذلك ما يتجسد ويبرز من خلال طقوس والتنظيم وهنا يعلن الانسان في المغرب انه سر قيام وميلاد الاجتماع
مع العصر النيوليتي، لم تعد الأدوات الحجرية فقط أدوات للبقاء، بل أدلة على استقرار اجتماعي وبناء أولي لهياكل تعاونية. ظهرت حين ظهرت القرى الصخرية، ونُسجت أولى خيوط التمايز والسلطة الرمزية، وبُذرت بذور التحول من الجماعة إلى القيادة. وهنا فوق هذه الأرض تشكلت الهوية الأولى للإنسان، وقامت معها النظم الزراعية الأولى في واد بهت، واد المركبات الزراعية المبتكرة التي استغلت الموارد المائية، بحكمة بيئية قل نظيرها.
وبفعل ذلك تحولت العلاقة بين الإنسان والأرض إلى عقد طويل المدى. عبر التحكم في الماء، وتدجين الحيوان، وعرف الانسان القديم هنا كيف يسكن الزمن بدل أن يلاحقه، فصارت القرية مركزًا معرفيًا وروحيًا، وانبثقت منها روح التنظيم الذي سيتبلور لاحقًا في أنوية الحكم.
وتحول المغرب الى عاصمة قيام الملكيات في عموم المتوسط؛ وهذا ما يفند الصورة النمطية، التي تريد ان تلصق به تجمع لقبائل متناثرة، وهنا تأبى الاكتشافات الا ان تكشف لنا من خلال النقوش والنقود والنصوص القديمة أن المغرب لم يكن هامشًا سياسيًا، بل مهداً لقيام أقدم النماذج الملكية في غرب المتوسط.
فمن الملكية الموريتانية في الشمال الغربي (تنجيس، وليكسوس، وقصر تاموسيدا)، التي تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، إلى الممالك الأمازيغية المتحالفة مع قرطاجة وروما، كان المغرب فاعلًا سياسيًا، ينتج الملك ولا يستورده.
لقد أبدع المغاربة نموذجًا سياسيًا أصيلًا يقوم على السلطة الرمزية والقرابة، ويمزج بين الحكمة الروحية والعسكرية. وفي هذا النموذج، كانت البيعة والمجالسة القبلية والتقاليد الزراعية جزءًا من الشرعية، قبل أن تتبلور الممالك الإسلامية لاحقًا بنفس الروح مع دين جديد.
فالمغرب والمتوسط هي عناوين جغرافيا التأثير لا التأثر لم يكن المغرب مجرد نقطة عبور،
بل فضاءً يفاوض، يصدّر ويستقبل.
من الرياح الفنيقية إلى الغزوات الرومانية، ومن التجارة الأمازيغية البحرية إلى التحالفات العابرة للقارات، كانت الضفة الجنوبية للمتوسط – في المغرب بالذات – مركزًا ثقافيًا واستراتيجيًا.
لا غرابة إذن أن تحوّلت سواحل طنجة والعرائش وتطوان إلى مواقع تنافست عليها القوى الكبرى، منذ ما قبل التاريخ إلى الحقبة الإسلامية والحديثة.
فخريطة الاركيولوجيا المغربية مازالت غير مكتملة، وما تخفيه الأرض أكثر مما أظهرتهرغم الاكتشافات المذهلة، لا تزال جبال المغرب وسهول الغرب وأطراف الأطلس وصحاري الجنوب، وسواحلة المغمورة تحمل في جوفها ما لم يُكتشف بعد.
فهناك مقابر ملكية مطموسة، ومراكز دينية مفقودة، وآثار لمدن لم تُحسم مواقعها بعد.
الكتابة الجديدة لتاريخ المغرب لا تحتاج فقط إلى أدوات حفر، بل إلى أسئلة جديدة، وتحرر من النظرة المركزية للتاريخ كما كُتب في فترات الاستعمار أو التبعية الفكرية.
واعتقد ان عناوين المرحلة المقبلة لابد ان تصاغ وفق مايلي: من ذاكرة الحجر إلى وعي الأجيال حين نعيد قراءة تاريخنا، لا نفعل ذلك بدافع الفخر العاطفي فقط، بل لصناعة وعي متجذر.
فالشمال المغربي، الذي طالما نُظر إليه كظلّ للتاريخ، يثبت أنه كان أحد مصادر نوره.
والأرض، التي أنجبت الإنسان الأول، لا تزال قادرة على ولادة رؤى جديدة، لمن يقرأها بشغف المؤرخ، وحكمة الحكيم، وبصيرة المستقبل. وإذا كان هذا هو حال شمال المغرب الذي حضي بشيئ من البحث الاركيولوجي، فماذا سنكتشف يوما في صحاري المغرب الممتدة من واد درعة الى الكويرة ومنها الى تخوم الازواض.