أخبار عاجلة

المُتَبربر الانغماسي

بقلم الدكتور ابراهيم الگبلي أستاذ الأدب المقارن—الولايات المتحدة الأمريكية

كثيراً ما سمعنا عن مصطلح الانغماسي في دراسات العلوم السياسية، خاصة المتعلقة بحرب العراق، ولكن حان الوقت لنحت استعمال جديد لهذا المصطلح المهم لاستيعاب حالة من أقترح تسميتهم بالمُتبربرين الذين يستعملون نفس أسلوب الانغماسية لافشال المشروع الحقوقي والديمقراطي والتعددي الذي تمثله الأمازيغية من الداخل.

هناك فرق شاسع بين المتبربر والمُستمزغ. فالأول حبيس نظرة مُرَوْمنة للأمازيغ في حين أن الثاني اكتسب الأدوات الضرورية لنقد واقعه والتحرر من انتكاسات الماضي. المتبربر يجرنا إلى الخلف فيما المتسمزغ ينظر إلى المستقبل بألق وثبات وروية تستند إلى وضوح في الرؤيا وانخراط صادق في بناء مجتمع متعدد يسع جميع مواطنيه.

أُعرِّفُ المتبربر الانغماسي بأنه أي شخص، ولو كان نفسه أمازيغيا، يسعى لكسب ود الأمازيغ الذين يحملون وعيا نقديا ومركبا لبناء شرعية شعبية تمكنه فيما بعد من إثارة النعرات وبث الشكوك وزرع البلبلة بين الأمازيغ الناطقين وغير الناطقين بخصوص هويتهم الأصلانية وتاريخهم ومناضليهم وشرف كفاحهم من أجل مجتمع يسع الكل ويحترم جميع مكوناته. المتبربر الانغماسي ليس خطرا على الأمازيغية فقط، بل على السلم الأهلي وعلى الهوية الوطنية الجامعة التي دافعت وتدافع عنها الحركة الأمازيغية منذ تأسيسها سنة 1966.

الإنغماسي يستغل وضعه داخل الجسم الأمازيغي لتفجيره من الداخل بطرح إشكاليات وقضايا لا تساهم بالضرورة في السير بالمشروع الأمازيغي قدما. نستطيع أن نتكهن بالانغماسي فقط من خلال تهربه من طرح أسئلة الديمقراطية والتعددية وسيادة القانون ولجوئه المستمر إلى قضايا تشكك في الجهد الجبار الذي بدلته أجيال من الأمازيغ لكي يستطيع هو أن ينعم بحرية أن يقول “أنا أمازيغي” ولوكان غير ناطق.

رغم أن خطر الانغماسي كبير على مستقبل الأمازيغية إلا أنني لا أؤيد مقاطعته أو التشكيك في ذمته غير أنني أؤمن بما لا يدع مجالا للشك أن المُتبربر الانغماسي يحمل مشروعا معاكسا لتطلعات الأمازيغ. فهو لا يهمه إلا جعل نفسه مركز الحقيقة المطلقة وصاحب الرأي الأول والأخير فيما يتعلق الأمازيغية. فهدا التفكير الجوهراني حول الحقيقة يجعل المتبربر الانغماسي منفعلا وغير قادر على قبول تعدد الآراء واختلاف المقاربات دون تنقيص من قيمة من يناقضونه. فإذا كانت الحركة الأمازيغية بكل تمظهراتها دافعت عن “الوحدة في التنوع” كشعار، فإن المتبربر الانغماسي يعطي لنفسه الحق في خلغ الأمازيغانية (Amazighity) عن كل من يسائل منطلقاته وتصوراته حول الأمازيغية.

يسعى المتبربر الانغماسي لقلب الحقائق بزرع الشك في تاريخ كل من أسسوا مشروعا فكريا ومجتمعيا في زمن كانت فيه الكلمة خطيرة والنطق بالأمازيغية جريمة. فأن يسمح شخص لنفسه، ولو كان ذلك لأسباب معرفية، بالتشكيك في تاريخ هرم من أهرام التاريخ المعاصر، كعلي أزايكو، دون تقديم دليل وأن ينتقص من قيمة السجن السياسي الذي تعرض له المناضلون، مثل حسن بلقاسم وأساتذة كلميمة، في عز سنوات الرصاص دون شرح أسباب نزوله ثم البحث عن تفسير مخالف لسبب مقتل شاب مناضل أمازيغي مشهور يعرف الجميع أنه ضحية العنف الجامعي، لن يكون أخطاء بريئة لأنها، في المحصلة، تبدو، حتى ولو لم تكن كذلك، خطوات من مشروع ممنهج للقتل الرمزي للأمازيغي واستبداله بالموري. هنا يجب أن نتساءل هل يستحق إعلاء شأن الموري قتل الأمازيغي؟ هل الموري أحسن من الأمازيغي ولماذا الموري الآن؟ ثم لماذا لا يمكن للموري أن يتعايش مع الأمازيغي الذي سبقه للوجود بسنوات ضوئية؟ تفسيري الشخصي لهذا الجموع هو الرغبة في تصفية الوعي النقدي الأمازيغي واستبداله بجمود جوهراني يستند إلى أساس عرقي وإثنوقومي خطير رفضه الأمازيغ منذ عقود عندما اختاروا “الوحدة في التنوع”. عندما يتعرض الانسان لضمير الحركة الأمازيغية وينتقص من قيمته، فهو قطعا انغماسي متبربر ليس له في الأمازيغية والتمرغ نصيب.

من خصائص المتبرير الانغماسي أيضا الحاجة الدائمة إلى تغذية راجعة ايجابية من الجمهور. فالدافع الأول والأخير للمتبربر هو تحفيز أناه للشعور بأهميته كشخص يمتلك الحقيقة ويقود الجمهور. فالحركة الأمازيغية، منذ نشأتها، مجال للسجال الحر والواعي من أجل الإقناع. فمن يرجع لكتاب “سجالات فكرية في سبيل الأمازيغية”، سيجد أن الأمازيغية لم تكن أبدا حكرا لأحد بكل كان عصب اهتمام فكري لأجيال من الكتاب والصحافيين والقراء الذين أغنوا، ولو في عز خلافاتهم واختلافاتهم الفكرية والايديولوجية، الخزانة الوطنية بنقاشات لم تعد الساحة الفكرية تنتج مثلها الآن. سيجد القارئ المتمعن لهذه السجالات أن الأمازيغية كانت محركا للفكر والنقد وموضوعا مجتمعيا شاركت فيه كل الأطياف السياسية والثقافية. لكن عوضا من المساهة في تقوية الوعي وتنميته يسعى المتبرير الانغماسي لاحتكار الحقيقة والنقاش وبالتالي لإقصاء كل من يخالفه الرأي وهذا من مقدمات الديكتاتورية الفكرية التي يجب أن يناهضها حملة الوعي الأمازيغي النقدي.

لا يمكنني أن أقعد لمفهوم المتبرير الانغماسي دون أن أشير إلى لغة الجسد وأهمية دراسة حالة الزهو النفسي الذي يشعر به المتبرير. لغة الجسد أبلغ من أي شيء آخر، وما على من يريد أن يكتشف المتبربر الانغماسي إلا أن ينظر إلى طريقة كلامه ووقوفه ولوكه للكلمات ليعرف أنه ليس في حضرة من يريد خدمة الأمازيغية كمشروع وطني جامع بل في “زاوية” من يريد أن يؤسس لعلاقة شيخ بمريديه.

لقد دفع الأمازيغ أثمانا باهظة لقاء أمازيغيتهم ولهم الحق في رفض مخاطر المتبربرين الانغماسيين لأنه لا يجب السماح بتخريب عمل أجيال من المناضلين من طرف من يبثون وعيا زائفا يؤخر الإدماج المؤسساتي للأمازيغية. فهذه هي الأولوية التي يجب أن ينصب عليها اهتمام الانغماسي لكي يبين بالفعل أنه يريد خيرا للأمازيغ والأمازيغية أما غير ذلك فهو ضجيج لحرف المشروع المجتمعي الأمازيغي عن مساره.

في الختام، أنوه أن هذا تقعيد نظري لا أقصد به شخصا بعينه ولكن إسقاطه على واقعنا قد يساعد في فهم بعض الاتجاهات التي تحاول قصم ظهر الأمازيغ في السنين الأخيرة.

اقرأ أيضا

قبل جيل Z: ماذا قال تقرير النموذج التنموي عن الأثر المواطن للسياسات العمومية؟

قبل أن يظهر جيل “زد” (Z) بصوته الرقمي ووعيه الفوري بحقوقه وواجباته، كان المغرب يعيش …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *