اعتاد النظام الجزائري على تجاهل متعمد لأصوات طالما دعت إلى التعقل في تناول القضايا السياسية والأمنية والإقتصادية بما يتناسب مع قيم العدالة والمواطنة وإلى التعاطي بواقعية مع الطبيعة الجغرافية والديمغرافية للجنوب الجزائري وصولا إلى الجوار المحاذي لهذه المنطقة وبالتحديد إقليم أزواد شمال مالي وهي منطقة بمجملها تشكل عمقا استراتيجيا للجزائر لما تزخر به من من ثروات طبيعية هائلة ولما تشكله من إضافة كبيرة للتنوع الحضاري والثقافي للجزائر ولما تمثله من حصن حماية للأمن القومي الجزائري بما فيها من تضاريس طبيعية تشكل جزءا مهما من كبرى صحاري العالم ومن عنصر بشري يجسد درع حماية لمصالح الجزائر أمام اي خطر قد يأتيها من ناحية جنوب القارة حاضرا ومستقبلا.
كلها عناصر مهمة يجدر بالنظام الجزائري التعاطي معها بكل إيجابية بعيدا عن محاولات التغيير القسري للعناصر الطبيعية التي أودعها الخالق هذه المنطقة.
كانت بداية هذا النهج في ستينيات القرن الماضي بمحاولة تغيير هوية الأرض والإنسان الذي يقطنها ابتداءا بالتجارب النووية التي بدأتها فرنسا في صحراء رقان سنة 1960م وتواصلت حتى 1966م وبلغ إجمالي عددها 177 تفجيرا نوويا عانت المنطقة على إثرها من تلوث الجو بالإشعاعات النووية، وتلوث المياه، وتشوهات خلقية للمواليد الجدد، وتفشي للأمراض السرطانية وإعاقات وغيرها من الكوارث الطبيعية التي أنهت الثروة الحيوانية والزراعية في عموم الصحراء الكبرى وأورثت المنطقة تشوهات طالت مختلف مناحي الحياة فيها.
ومرورا بسيطرة التيار القومي العروبي المتطرف من العسكر على مقاليد السلطة في الدولة الجزائرية الوليدة وهو من كان وصي المستعمر الفرنسي بعد رحيله وعمل هو الآخر على تغيير هوية المنطقة وسكانها فلم تسلم منه حتى أسماء المدن والقرى والوديان وعلى سبيل المثال لا الحصر عمد إلى تغيير اسماء تامنغست إلى تامراست وإن صالح إلى عين صالح وإن قزام إلى عين قزام وإن أمناس إلى عين أمناس وإن أدق إلى برج باجي مختار وغير ذلك ناهيك عن تغيير ألقاب وأسماء عائلات وقبائل بأكملها إلى مثل ذلك وتقزيم دور اللغة والثقافة المحلية بمختلف تجلياتها واستبدالها بثقافات وافدة لهدف إيجاد قطيعة بين إنسان المنطقة وتاريخه وحضارته وثقافته العريقة.
ثم بعد ذلك اقتضت آليات ذات النهج سن قوانين وتكريس سياسات تقوم على التمييز العنصري وتكبل أيدي إنسان هذه المنطقة وتضعه في المرتبة الثانية إن لم تكن الثالثة من المواطنة تضع عليه قيودا للحصول على الوظيفة لا يكاد يجتازها قبل سن التقاعد وتمنعه العمل الحر لصالح نفسه، وتفتح أمامه بابا واحدا للرزق وهو العمل مخبرا لصالح الأجهزة الأمنية التابعة لنظام العسكر وعلى هذا المنوال يتم تنشئة أجيال متتابعة بعقلية البوليس الذي لا يعي سوى أن يكون حارسا لمصالح النظام الموهومة وهكذا أصبح الشعب برمته يراقب بعضه بعضا على الدوام، فيما ظلت ولايات الجنوب الجزائري أشبه ماتكون بمحميات عسكرية لا يتحرك فيها المواطن بحرية دخولا وخروجا منها وتجوالا فيما بينها إلا من خلال المرور بعشرات من النقاط والاستقافات العسكرية التي تكون فيها عناصر الجيش من مناطق شمال البلاد وتجدهم على الدوام في حالة استنفار قصوى وفي تهيؤ مستمر توجسا من مواطني هذه المنطقة الذين زرع في مخيلة أبناء وطنهم من أفراد الجيش أنهم يشكلون خطرا أمنيا يجب أخذ الحيطة منهم!.
هذا جزء مما حصل ويحصل بالجنوب داخل الحدود الجزائرية أما بعد الخط الحدودي الجنوبي فقد وجد نظام العسكر أعدل قضية سياسية وإنسانية لأضعف شعب وأكثر أمة أنهكها الإستعمار الفرنسي في المنطقة فجعل منها هدفا ثابتا لعملياته البطولية في وجعل ينفذ عليها تمثيلياته في مدى القدرة على معالجة الأزمات السياسية الإقليمية وتقديم الصنيع الجميل لسكان الغابات بإخضاع الشعب الأزوادي المتمرد لهم حسب وصفه تارة تحت دعوى إحترام الوحدة الترابية لدول الجوار وتارة بدعوى حماية الأمن القومي للجزائر فعجل من الإقليم ساحة للعرض المسرحي أحيانا يتم إخراج أفلام به في تكوين ومحاربة الجماعات المتطرفة الإرهابية تجرى معها معارك صورية واعتقالات وهمية وتوبة علنية لبعض عناصرها وأحيانا عمليات عسكرية بمشاركة مختلف الأجهزة الأمنية في إحباط أنشطة إجرامية لتهريب السلع التموينية الجزائرية كل هذه العمليات الدرامية الصورية تضع على كاهل الخزينة العامة للدولة الجزائرية تكاليف باهظة لو تم استخدام جزء منها في التنمية البشرية والمكانية لأصبحت المنطقة جنة الشمال الإفريقي وأضحت أكثر اخضرارا من جبال الشريعة في ولاية البليدة.
وفي تعاط جديد مع ملفات المنطقة ما يمكن اعتباره خطوات خجولة نحو إقامة صلح مع الذات.
نلاحظ إطلاق مجموعة من الرسائل التطمينية على المستوى الداخلي بدءا بإعلان مجموعة من الوظائف الشاغرة في أهم الشركات الوطنية الجزائرية على رأسها شركة سونطراك وغيرها وفتح الحدود مع الجارة ليبيا، وعلى مستوى الخارج أجريت تواصلات مع بعض الشخصيات الازوادية حول التأكيد على وجود نية حسنة للاستمرار في إدارة المفاوضات بين الازواديين والحكومة المالية بعد اشتعال الازمة المستجدة، إدارة اتفقت الأطراف المعنية على أنها تتعمد دوما إضاعة الحقوق الأزوادية وتنتهج العمل على إعلاء الكفة المالية والترويج لخطورة الأطماع الإنفصالية الازوادية وربطها علنا بالمؤامرات الصهيونية والجهود التخريبية وتشديد الوعيد على اتخاذ الإجراءات الفورية في معاقبة من تسول له نفسه الخروج عن وحدة التراب المالية والتسويق للأفكار التحررية،
إزاء كل هذه التصرفات النمطية تجاه الشعب والقضية الأزوادية هل يتوقع حكم العسكر في الدولة الجزائرية أن القيادة والشعب الأزوادي بهذا القدر من السذاجة وانعدام الدراية والحنكة السياسية حتى يظل يقدم كل مرة جحافل من الشهداء ليضع نتائج كل هذه الجهود في أيدي الإدارة العسكرية الجزائرية؟! كما حدث أثناء رعاية نظام العسكر لكل الاتفاقيات بين الحركات الأزوادية وحكومة الإحتلال المالي ابتداءا بما يعرف باتفاقية تامراست سنة 1992م وانتهاءا باتفقية مسار الجزائر المبرمة سنة 2015م والتي لم يطبق منها بند واحد طيلة ثماني سنوات كاملة وظلت تراويح بين التأجيل والتسويف حتى اخترقتها الحكومة الإنقلابية في مالي بهجوم على المعسكرات الأزوادية دون أن ينطق نظام العسكر في الجزائر راعي الاتفاقية ببنت شفه ضد مالي بل أعقب ذلك ببيانات وتصريحات من الرئيس نفسه يحذر فيها من مجرد التفكير في تقسيم الأراضي المالية !!.
وانطلاقا من إدراكنا لبعد الشعب الجزائري الأصيل والأخ الشقيق عن فهم القضية الأزواديةوملابساتها بسبب التعتيم المفروض على الشعب الأزوادي وقضيته العادلة بفعل العوامل الطبيعية والسياسية وبجهود الآلة الإعلامية لنظام العسكر في الجزائر ورأس الإحتلال المالي في باماكو،
فإننا نجد من نافلة القول التوجه بدعوة صادقة إلى نظام العسكر في الجزائر أن اعملوا على إطلاق برنامج وطني وإقليمي للمصالحة مع الذات ومع الجيران الأقربين، والجيران الأقربون أولى بالمعروف، وكفى هدرا للطاقات فيما لا يجدي نفعا، نصيحة أزوادية أخوية قبل فوات الاوان ومجيء الطوفان.