على سبيل التمهيد
تعتبر الهجرة من بين العوامل التي تساهم في انتشار الامراض والأوبئة في تاريخ المغرب وكذلك في كل مناطق العالم. ومن هذا المنطلق أقرت الدول والحكومات تدابير كثيرة بغية الحد من انتشار الأوبئة والامراض في صفوف مواطنيها. وبالنسبة للمغرب فقد نجح إلى حد كبير في تقليص اعداد المصابين بالحمى الصفراء والتي انتشرت سنة 1810 بفضل الحصار الذي ضربه على جبل طارق ،مكن المغرب في محاصرة الوباء في موطنه وحال هذا الاجراء دون تسربه إلى داخل البلاد.
من الشرق إلى الغرب او في مسارات الموت
يذكرنا الطبيب الفرنسي رينو ان البلاد كذلك نجت من الطاعون سنة 1804 بفضل طرد مركب قادم من الشرق وعلى متنه شخص موبوء. وفي الربع الأول من القرن التاسع ضرب وباء الطاعون العديد من الدول المتوسطية ومنها مصر سنة 1806 وعاود اجتياحها سنة 1813 وفي سنة 1814 اكتسح مالطة تم عاود اجتياح مصر 1816 واستمر في الفتك بها زهاء أربع سنوات. وانتقلت العدوى في نفس العام لتعم كل البلدان المتوسطية المتبقية مما شكل تهديدا حقيقيا للمغرب، الذي ما لبت الخطر المحدق يقترب رويدا رويدا منه عندما تاخم حدوده الشرقية.
وبحلول سنة 1817 ظهرت أولى حالات الإصابة بالوباء في الجزائر لينطلق عداد الموت في احتساب الهالكين في هذا وهكذا فقد سجل في اليوم الأول من انتشاره ما بين 40 و60 ضحية، ومن الجزائر تسرب الوباء الي مدينة بونة ومنها انتقل إلى وهران تم انتشر في كل نواحيها وذلك بفعل قوافل الفارين من جحيم العدوى.
إذا كان المغرب قد نجى من غارات هذا الوباء بفعل سن العديد من التدابير والإجراءات القانونية والصحية وذلك بتوجيه من المجلس الصحي الدولي بطنجة فقد وثقت سجلات هذا الأخير ان “خونطة القناصل” عقدت اجتماعا طارئا عند تواتر الاخبار بظهور الطاعون في الجزائر كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وفي هذا الاجتماع تم إقرار العديد من التدابير سنوردها كما جاءت في الدراسة القيمة التي قام بها محمد الامين البزاز القيمة ومنها على سبيل المثال:
– فرض حجر صحي لمدة أربعة أيام على جميع المراكب القادمة من المشرق الإسلامي ومن دول المغرب الكبير، ولمدة يومين على المراكب القادمة من الموانئ الأوروبية فيما وراء جبل طارق.
– توجيه هذا القرار لعامل طنجة وامين جماركها وكذلك لنواب القناصل بمراسي تطوان والعرائش والرباط والصويرة؛
– توجيه رسالة إلى السلطان لالتماس موافقته على القرار والعمل على تنفيذه، مع تذكيرهبأن والده سيدي محمد بن عبد الله سبق له، في ظروف مماثلة، ان أقام حزاما عسكريابين مملكته والولاية الجزائرية.
– تعيين طبيب فرنسي مفتشا صحيا بمرسى مدينة طنجة لتعزيز المراقبة الصحية بها.
المخزن والطاعون في القرن التاسع عشر
لا يشك محمد الأمين البزاز في استجابة المولى سليمان لهذه القرارات والسبب في ذلك حسبه ما عودنا عليه السلطان في مناسبات مختلفة، كما يستشف من ارشيفات المجلس الصحي الدولي بطنجة. بل أكثر من ذلك فقد اقر بجهل المغاربة -كما صرح بذلك- في العديد من المرات واعترف بجهل المغرب بشؤون الحجر الصحي معترفا في هذا الإطار للقناصل بخبرتهم في هذا المجال. وهذا من نستشفه في احدى رسائله حين خاطبهم قائلا: «أنتم تعرفون كيف تتعاملون مع اهل الوباء في بياعتكم )كذا( ومشترياتكم وتجعلون الدراهم في الخل وتتحفظون كل التحفظ، والمسلمون لا يعرفون ذلك، ولا يتحفظون مثل تحفظكم منه وذلك فيه ضرر على المسلمين وعلى قنصوات النصارى بطنجة.”
نلاحظ من خلال هذا الرسالة ان المسلمون ويقصد بهم بطبيعة المغاربة لا يعيرون اهتماما كبيرا للتدابير وإجراءات الوقاية من الأوبئة عكس النصارى والمقصود بهم الأوروبيون بصفة عامة بل هنالك إقرار شبه تام بجهل المغرب حكما ورعايا بأساليب وتقنيات التعقيم التي كانت معروفة لذى الدولة الأوروبية ومنها استعمال بعض المحاليل مثل الخل وغيره من المعقمات التي اكتشفت في أوروبا قبل وقت طويل من تاريخ اصدار رسالة المولى سليمان.
سبقت الإشارة الى ان مصر قد اجتاحها الطاعون سنة 1806 وعاود الظهور فيها سنة 1813 كما سجل وصوله إلى مالطة سنة 1814 ليعاود الظهور في مصر سنة 1816، في هذه الاثناء تسجل الوقائع التاريخية وقوف قارب انجليزي يسمى الطاج” بمضيق جبل طارق قادما من الإسكندرية سنة 1818، قارب الموت هذا ارتبطت به فيما بعد العديد من الوقائع الخاصة بانتشار وباء الطاعون في المغرب، هذه الوقائع يمكن الاطلاع عليها بتفصيل كبير في الصفحة 191 من كتاب الزياني الروضة السليمانية إضافة إلى ما أورده الناصري في الجزء الثامن من كتابه المشهور الاستقصاء وخاصة في الصفحة 133 منه.
من الشمال إلى الجنوب قصة تسلل المفترس
تتحدث المصادر والمراجع التاريخية بانتقال وباء الطاعون إلى الجنوب المغربي وخاصة سوس بعد ان ضرب مناطق ايحاحان وعاصمتها الصويرة سنة 1819 ومنها سينقل في شتاء نفس السنة لاجتياح كل ربوع القطر السوسي، رغم ان المصادر والمراجع التاريخية التي تتحدث كثيرا عن وقائع ومخلفات وصول الطاعون المفترس الى الجنوب وخاصة مناطق واد نول، فقد أورد محمد الأمين البزاز نصا في غاية الأهمية وتحدث فيه صاحبه عن ضربات الطاعون في هذه المناطق، هذا النص كتبه كوشولي ) cochelet )الذي يعتبر بطل غرق سفينة “لاصوفيا” الفرنسية وذلك اثناء مروره بقبائل ايت باعمران بحيث ان كان شاهد عيانعلى حجم الدمار الذي احدته الطاعون في مداشر وقرى هذه الربوع ووصف ذلك بقوله:” مالبتنا ان شاهدنا يمنة ويسرة قرى متشابهة لقرى واد نول ولو انها اقل أهمية من، بيد أن كثيرامنها كانت مهجورة من طرف سكانها… وقد اخبرت بأن الطاعون فتك بها في وقت قريب ،وان العدد القليل ممن نجى من العدوى نزح عنها إلى جهات أخرى.”
هذا فيما يخص المناطق الساحلية التي تحدث قنصل الولايات المتحدة الامريكية عن ضربات الطاعون فيها وفتكه بأجساد السكان في غياب اية وسيلة للتطبيب والاستشفاء من الوباء الفتاك وخاصة في سنة 1820 التي تحدث عنها بقليل من التفصيل القنصل الأمريكي J simpton وبخمسين وستون ضحية في مراكش.
هذا في الوقت الذي كانت تتمتع فيه مدينة طنجة ونواحيها بصحة جيدة، اما مدينة مراكش، فان عدد الموتى فيها قد ارتفع ليبلغ 900 ضحية في اليوم، وسجلا تراجعا في 08 يناير 1820 إلى 300، بيمنا سجلت في الصويرة في نفس الفترة ما بين 15 و20 في اليوم الواحد كما ان نسجل ان الطاعون عات في الشياظمة وايحاحان وسجل فيها أفدح الخسائر، واستمر في الانتشار حثى ظهر في اكَادير التي كانت معروفة ب سان كروا آن ذاك. هذه المعلومات أوردها قنصل الولايات المتحدة الامريكية ضمن مراسلة له من جبل طارق في نفس السنة .
بخصوص المناطق الجبلية فلم تستثنى بدورها من ضربا الطاعون فقد أورد صاحب كتاب )الأوبئة والمجاعات…( نقلا عن كودا Godard ان الطاعون تفشى في اقاصي جبال الاطلس ،وأجهز على الكثير من الأرواح تصل في بعض الأحيان إلى القضاء على جميع افراد العائلة الواحدة وفي هذا الصدد سجل ان عائلة جبلية واحدة هي نجت من الوباء وورت جميع أراضيها بعد ان افنى الطاعون كل من كان بها من بشر. ولكن رغم ذلك يمكن ان نسجل ان درجة الفتك في الجبال كانت اقل من نظيرتها في السهول نظرا لتضافر العديد من العوامل ومنها على الخصوص تقلص اعداد المهاجرين وصعوبة الانتقال بين الجبال والمسالك الوعرة ة وقد تحدثت عنها بقليل من التفصيل حين أورد ان الطاعون كان يفتك بخمس ضحايا وتسجل بعض المنوغرافية الكولونيالية تفشي الوباء في سفوح جبال الاطلس الكبير وخاصة في قبائل اينولتان. وعلى العموم فطاعون هذه الحقبة لم يكن شرسا كسابقيه ولو انه بطش بحوالي ربع سكان المغرب.
من القرن 19 إلى منتصف القرن 20 عود على بدء
رصد انتشار الأوبئة في تاريخ المغرب باتت اليوم مسالة متيسرة ومتطورة نوعا ما بالنظر إلى العديد من المتغيرات ومنها بطبيعة الحال ما يتصل بالأرشيف والوثائق التي بات معظمها متوفرا ومتاحا لجموع الباحثين والمشتغلين في مختلف حقول المعرفة الإنسانية ومنها بطبيعة الحال حقل التاريخ الذي سيعرف لا محالة انتعاشه جديدة بفعل رفع طابع السرية عن العديد من الوثائق والمستندات والاشرطة الصوتية وتسجيلات الفيديو وألبومات الصور وغيرها منالوثائق التي كانت تدخل في نطاق الوثائق السرية والتي لا يمكن ان يطلع عليها الا النزرالقليل.
من بين هذه الوثائق نجد وثائق الأرشيف الفرنسي وخاصة منه الارشيف الدبلوماسي لمركز نانت ومركز فانسان وايكس أون بروفونس قبله بقليل .هذا الأرشيف يمكننا عند استغلاله من تفكيك شفرات العديد من الالغاز المرتبط بالعديد من الظواهر التاريخية التي كان يلفها الغموض وعدم اليقين في ضل غياب الوثائق التي يمكن ان يعتمد عليها الباحث لطرح اسئلته وتعزيز نتائجه وخلاصاته.
ماست: استعمار فهجرة سرية فوباء….
من بين تلك الظواهر نجد بطبيعة الحال الهجرة وعلاقتها بانتشار بعض الامراض المعدية مثل داء السل الذي انتقل إلى المغرب بواسطة العمالة المغربية التي كان تنشط في مصانع الصناعات الثقيلة الفرنسية وخاصة في الضاحية الباريسية مثل gennevilliers و argenteuil و saint etienne فمصانع هذه الضواحي عرفت وفود الكثير من العمال المغاربة في الاربعينات من القرن العشرين، ومن بين المناطق التي وفدت منها عناصر هذه العمالة نجد قبيلة ماست في الجنوب المغربي التي انتقلت منها اعداد كبير من العمال الذين عهد اليهم تحريك الآلات الصناعة الفرنسية الثقيلة أثناء الحرب العالمية الثانية وساهمت في تنشيط معامل فرنسا المدمرة جراء تلك الحرب.
لقد كان لعائدات المهاجرين المالية اعتبرت فضلا كبيرا في اعتلاء ماست للمراتب الأولى من بين اغنى مناطق دائرة تيزنيت في الفترة الكولونيالة بفضل تحويلات مهاجريها من العملة الصعبة وذلك على شكل ارساليات مالية بالفرنك الفرنسي، وقد بلغ عدد المهاجرين الماسيين في 31 مارس 1940 ما يقارب من 258 مهاجر يتوزعون بين فرنسا ومستعمراتها في شمال افريقيا بما فيها الجزائر وتونس، بعد ان نجحوا في الوصول الى الديار الفرنسية ومستعمراتها الأخرى بطريقة سرية. مصدر هذه الأرقام التي اوردناها هو ملفات تسوية الوضعية القانونية للمهاجرين التي دشنتها فرنسا في تلك الفترة للحد من ظاهرة الهجرة السرية ومن هنا قامت بإحصاء المهاجرين السريين في الأراضي الفرنسية بما فيها مستعمراتها هذا الجدول يبين بلدان تواجدها وأعدادها بالأرقام:
عدد المهاجرين
البلد
188 فرنسا
102 الجزائر
12 تونس
53 أخرى
حسب (le capitaine de La Boissière) هذه الاحصائيات نلاحظ ان نسبة ا04,20ا منمجموع اليد العاملة الماسية في تلك الفترة التي كانت تقدر ب حوالي 2110 فردا كان تتواجدفي الخارج، هذه الاعداد المهمة من المهاجرين تفسر التدفق الكبير للأموال على القبيلة عنطريق الارساليات المالية التي كانت تفد عليها على شكل حوالات بريدية، التي بلغت في الثلث الأول من سنة 1940، 117 حوالة وبرقم معاملة مهم جدا بلغ حوالي 79,956 فرنك فرنسي ،في مقابل 97,668فرنك لايت تيزنيت.
هذا الجدول يوضح تدفق الأموال على ماست حسب البلدان:
Pays Origine des mandats Montants Total
France Gennevilliers
Argenteuil
Saint Etienne
Divers 10.994
16.085 2.890
27.150 57.119
Algérie Ouenza
Alger Oran 16.850
1.230 1.500 19.580
Tunisie 3.260 3.260
Total Général 79.959 Frs
Source : le capitaine de La Boissière, monographie tribus des Ahl Massa par– Document du centre CHEAM n° 437 du 17 avril 1941.
حسب دو لبواسيرle capitaine de La Boissière دائما والذي كان يشغل منصب نائب رئيس دائرة تيزنيت للشؤون الاهلية والذي انجز منوغرافية تحث عنوان قبيلة اهل ماسة tribus des Ahl Massa par سنة 1917 تصل مبالغ الحوالات المرسلة من طرف عمال ايت ماست إلى دويهم إلى 680 فرنك فرنسي في المتوسط وسجل وجود حوالات مالية تتجاوز مبلغ 10 الالاف فرنك .كما سجل كذلك رواج مبالغ مالية أخرى لم تحتسب عليها الضرائب وتتعلق بالأموال التي ينقلها العمال معهم اثناء قضائهم لعطلهم السنوية ،وبخصوص مساهمة ايت ماست في الوعاء الضريبي الفرنسي فق بلغت الرسوم الضرائبية المستخلصة على الأموال التي ارسلوها في سنة 1939 حوالي 75 ,275137. فرنك فرنسي.
تدفق هذه الأموال يبين أهمية الهجرة واترها الإيجابي على الاقتصاد المحلي، وذلك راجع إلى تفضيل العمالة الماسية الاشتغال في الصناعات الثقيلة وفي مناجم المعادن التي تؤدي اجورا مرتفعة جدا إضافة الى امتيازات مالية مهمة أخرى على شكل تعويضات عن العجز والاقدمية. ولكن ولوجهم ذلك لم يكن بمحض الصدفة بل كان نتيجة قوتهم الجسمانية المعروفة عنهم منذ القدم إضافة إلى اعتيادهم على انجاز الاشتغال الشاقة وذلكم موضوع آخر .
ولكن مع الأسف يورد )le capitaine de La Boissière( في منوغرافيته التي أشرنا اليها سابقا فعدد كبير من افراد هذه العمالة التي تشتغل في الصناعات الثقيلة الفرنسية كانت تنقل معها عدوى مرض السل الي قبيلتهم الاصلية اثناء انتقالهم اليها لقضاء عطلهم السنوية. انهادا “دوفيس (devais)” بطعم ونكهة العدوى والمرض.
المراجع المعتمدة
محمد الأمين البزاز، الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
الكولونيل دو لبواسير منوغرافية اهل ماسة، وثائق C.H.E.M تحث رقم 437 .
Elkbir atouf,L histoire de l’émigration marocaine, au bassin miner du Nord-Pas-de-Calais (1917-.)7891