تاكلا-ءيض -ن- يناير أو الاحتفال برأس السنة الاأمازيغية

ذ. محمد بادرة

أصبحت الثقافة الشعبية في العقود الأخيرة حبيسة الدراسات الانتروبولوجية والاثنولوجية، وهذه الأخيرة هي مناهج ونظريات للبحث والحفر في الذاكرة الشعورية واللاشعورية للمجتمعات الأصيلة وثقافة الإنسان القديم، لكن هذه المناهج والنظريات تنظر إلى الثقافة الشعبية كصورة للمجتمعات اللاكتابية تفتقر في نظرهم إلى لغة مكتوبة وتنتمي إلى مؤسسات اجتماعية بسيطة التنظيم ومحدودة الانتشار ولا تعبر إلا عن أعداد قليلة من الناس، إضافة إلى إنها ثقافة منعزلة عن الثقافات الأخرى، وهذه كلها أحكام جاهزة بنتها انطلاقا من نزعة مركزية أوربية نشأت وتطورت مع الحملات الاستعمارية فصاغت به “علما” لعنصريتها وتفوقها الوهمي وتعمل على توظيفه في تدريس تاريخ وقوانين المجتمعات التي “لا” تاريخ لها أو التي لا تعبر عن نفسها كتابة في حين أن الثقافة الشعبية هي تلك الثقافة المنبثقة من الذاكرة الجماعية وليست حالة من الإبداع الخيالي فقط، بل هي قيمة إنسانية حقيقية واقعية انطلاقا من وظيفتها المميزة القائمة على حماية وصيانة المعتقدات والعادات والقيم والأعراف التي تجسدت في الماضي، وتضم في أحشائها أشكالا من التعبير الفني وغير الفني المروي منه والمجسد  المعاش والمستذكر ومن عناصره التي ما تزال تعيش بيننا وتتداول في السوق الرمزية الأشعار والحكايات والأساطير والأمثال والحكم والرقص والاحتفال…

والثقافة الشعبية الأمازيغية كباقي أشكال الثقافات الشعبية للشعوب المماثلة، هي ذات قيمة حضارية وهي أنساق تعبيرية ودلالية تعبر وتحاكي الواقع والطبيعة بوسائل لسنية وغير لسنية مثل الحركات والرقص والرسم والتشكيل والتمثيل والاحتفال… وهي تشكل بالنسبة للإنسان الأمازيغي حاجات روحية وطبيعية، لذا يتم المحافظة على هذه الأشكال التعبيرية بشكل عفوي ومنظم لأنها شبه قوانين رمزية وعرفية تساهم في تنظيم الأفراد والجماعات وتسايرهم مسايرة تامة ودائمة.

ومن الطقوس والتقاليد الأمازيغية التي ماتزال حاضرة وسائدة في مجتمعنا وقبائلنا وبوادينا ومدننا حفلة راس السنة الأمازيغية (تاكلا –ن- ءيض ن- يناير).

من زمن الفراعنة بدأ التقويم الأمازيغي

عرف الأمازيغ بحبهم وارتباطهم بالأرض، حتى إن الأساطير والحكايات التي تروى عن الأمازيغ القدامى كانت حافلة بأسماء الطبيعة من الأرض والهواء والسماء والرطوبة والماء كما أنها غنية بالاستعارات والكنايات والصور المجازية عن مشاعر الإنسان الأمازيغي تجاه أرضه وموطنه وأصله وبيئته (أسطورة حمو أونامير) أما الاحتفال برأس السنة الأمازيغية فما هو إلا نظام زمني من صنع البيئة والطبيعة يبتدأ من أول ليلة من السنة الفلاحية (12يناير بالتقويم الميلادي) وتقام فيه حفلة أو طقوس احتفالية بتهيئ أكلة من نتاج ما جادت به الأرض للإنسان شعيرا كان أو ذرة (تاكلا – ءيض –ن- يناير).

ويحمل زمن إحياء هذه العادة دلالات رئيسية منها:

  • الدلالة الأولى: تظهر من خلال ارتباط مكونات هذه العادة بالأرض، حيث يرتبط التقويم الأمازيغي ببداية السنة الفلاحية لهذا فالأكلة التي تقدم للأبناء والضيوف في ليلة رأس السنة الأمازيغية تتركب كلها من المنتوجات الفلاحية والزراعية التي تجود بها الأرض والأشجار وكلها لها مغزى (الشعير-الذرة-زيت أركان-الثمر..) وهي مؤشر على أمل تحسن الموسم الفلاحي الآتي.
  • الدلالة الثانية لها ارتباط بتاريخ الأمازيغ الذي يبتدئ مؤقتا حسب المصادر القديمة وخصوصا ما جاء في الكتابات الإغريقية عن اعتلاء “أكليد” شيشونغ العرش في مصر بعد تنحيته لآخر ملوك الاسرة الحادية والعشرين، إلا أنه حافظ على الولاء للفراعنة سياسيا لكنه مع ذلك شكل امتدادا للحكم الفرعوني الأمازيغي.

من الناحية الثقافية أعلن الملك شيشونغ الولاء للإرث الأمازيغي فبدأ معه التقويم الرسمي للأمازيغ سنة 950 ق.م وبهذا أحيى شيشونغ تنصيب نفسه ملكا على عرش مصر في أرض النيل بإحياء تلك الليلة على شرف زعماء القبائل الأمازيغية في ذلك الزمان وقدم أكلة (تاكلا) علامة على استمرار الحضارة الأمازيغية من خلال عاداتها وطقوس احتفالها برأس السنة الأمازيغية، ومنذ ذلك التاريخ يتم الاحتفال برأس السنة الأمازيغية تزامنا مع خصوبة الأرض والطبيعة في شهر يناير الفلاحي.

إن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية لا يحظى بكثير من العناية من طرف المؤسسات الإعلامية والثقافية ولا يجد اهتماما من قبل المسؤولين والمدبرين للشأن العام، اللهم ما تقوم به المنظمات والجمعيات الأمازيغية في ليلة رأس السنة الأمازيغية من حفلات وسهرات ولقاءات تستدعي لها رموزا من رواد الفن والموسيقى والغناء والثقافة والأدب ينشطون تلك الليلة بروائع من الغناء والرقص الأمازيغي لكن الاحتفال في أصله له ارتباط بحياة الفلاح ومعيشة السكان الأصليين يحتفلون برأس السنة حسب طقوس القبيلة وتقاليدها ويجسدون الاحتفال في كل ما له دلالة في حياتهم اليومية أو علاقتهم بالأرض ماء وخضرة وبذورا ويسمون بالأرض إلى حد الالتحام والالتحاف بتربتها ولأي شيء مقدم عليها وفي أسطورة (حمو أونامير) نجد كيف أن حمو رغم ولهه وعشقه وصعوده للسماء لملاقاة ملاكه إلا أنه عاد إلى الأرض أو سقطت نقطة دمه إلى الأرض لتحيا من جديد في تربة الأرض وطبيعتها.

ومن الأمثال التي تروى وتحكى في مثل هذه المناسبة من قبل الفلاحين والسكان الأصليين والتي لها ارتباط بالزمن الفلاحي حرثا وزرعا وسقيا وحصادا (شتنبر ءيفوغ اكتوبر اسيد ءاوولونك) – شهر شتنبر انقضى وشهر أكتوبر خذ محراثك -.

وفي ليلة رأس السنة الأمازيغية – الفلاحية- يتم تحضير قصعة العصيدة (تاكلا) من الذرة (اسنكار) أو الشعير (تمزين) وإن كانت الأولى هي المشهورة. وصفها المرحوم المختار السوسي الشاعر خير وصف حين قال:

لمن جفنة أقبلت تتألق
تلوح بلال العصيدة يبرق
هذا أريج مسك أم نفحة روضة
أزاهيرها تحت الصبا تتدفق

ومن الطقوس التي تلازم هذا اليوم في بعض المناطق التي يقطنها الأمازيغ أن يقوم كل فرد من الأسرة بتحضير كويرة (تعبوت) من العصيدة فيضعها في مكان عال لا تصل إليه أيدي الأطفال للعبث بها فإذا كانت تحمل في الصباح الموالي شعرة من البقر فصاحبها سيكون من حظه أن يملك بقرة أو أبقارا وإذا كانت تحمل شعرة صوف فصاحبها سيكون من حظه أن يملك حظيرة من الأغنام وهذه الطقوس وغيرها تكتسي صبغة التعلق بما ستجود به تلك السنة من الخيرات.

ماذا عن طقوس الاحتفال بالأطلس الصغير والجنوب

الاحتفال برأس السنة الأمازيغية متجذرة عند كل السكان الأصليين الأمازيغ في ربوع بلدان الشمال الإفريقي، إنهم يحتفلون برأس هذه السنة تحت أسماء ومسميات عديدة (شوميخا) (اوركيمن) (تاحكوزت) (ءيض ن- يناير) (بركوكس) إلا أنه في سوس يسمون الاحتفال برأس السنة الأمازيغية (ءيض – ن- يناير) والاحتفال يكون من خلال تحضير وجبة خاصة بهذا اليوم الجديد من السنة الجديدة عبارة عن تهيئ وصنع عصيدة من دقيق (الذرة) – ابراي- يتم تحريك (تاكلا) أو العصيدة بعصا خشبية (اوفان) أو (تاغنجا) ويحتفظ بهذه العصا في السطح دون غسلها إلى حين سقوط المطر. وفي وسط (ازلاف) هذه العصيدة تحفر حفرة تملا بزيت أركان أو زيت الزيتون وبداخلها توضع نواة الثمر (اغرمان) ويتنافس الكل على إيجاد أكبر قدر ممكن من النواة لأن ذلك حسب المعتقدات يجلب الحظ الأوفر في الحياة (ءوركيمن). وفي مناطق أخرى يسمونها (تاحكوزت) الذي هو عبارة عن سبعة أنواع من القطاني تطهى فوق الحطب لمدة 24 ساعة تقريبا ويشارك أفراد الأسرة في هذا اليوم بجلب الماء وتحضير (تاكلا) أو العصيدة أو (بركوكس) وهو عبارة عن طحين يخل ويفتل بالماء ويمزج بعد ذلك بزيت أركان والعسل.

في اليوم الأول من السنة الجديدة ترى النساء يحملن قليلا من (بركوكس) غير مملح إلى مكان خارج القرية أو خارج الدوار ثم ينصرفن دون أن يتكلمن بينهن أو يتبادلن الحديث مع الغير وهن يضعن هذا (البركوكس) في مكان معلوم ومعروف لدى الجميع لكن لا يخترقه أي واحد من أبناء الدوار ذلك، وتسمى هذه العملية (اصيفضن) أي إعطاء الجن نصيبه من الطعام قبل أن يضاف له الملح.

وفي الصباح الموالي تقوم نساء وفتيات القبيلة بما يسمى (ازكزيون ؤوسكاس) أي تحضير السنة الجديدة، وقد تجتمع النساء لوحدهن والفتيات لوحدهن ويذهبن إلى الحقول المجاورة للدوار حيث الحقول مخضرة بالربيع ويحملن على ظهورهن سبلات (ازكيون) ويجمعن مختلف الأعشاب من (اكلاس) الذي هو من ربيع الشعير أو (تيفراضين) عسف النخيل والمراد بهذه العملية افتتاح العام الجديد بلون أخضر لون الخصوبة والميلاد.

وفي نهاية الاحتفال يقوم الناس الذين حضروا (ءوركيمن) بتوزيع هذه الأكلة على الذين لم يتمكنوا من تحضيرها وهكذا يتم الاحتفال برأس السنة احتفالا تقليديا.

هذه الطقوس الاحتفالية برأس السنة الأمازيغية عند السكان الأمازيغ الأصليين هي حقيقة ووجود وليس خرافة وشعوذة بل إن هذه الطقوس الاحتفالية هي تسجيل أمين للبيئة التي أنتجته، فيها محاكاة للبيئة الأمازيغية الأصلية، كما أنها مرآة صادقة للوجدان الجمعي جاء تعبيرا تلقائيا عن الذات الفردية والجماعية وفرحة واعية بالحياة من السكان الأمازيغ الذين يمارسون الحياة بطقوس اجتماعية. إن هذا الاحتفال هو تعبير عن فكر ووجدان المجتمع يؤكد بها وعبرها وجوده بفعالية نشيطة وبسيطة في نفس الآن، لذا فليس لأحد الحق أن يسقط أي شيء منه لأنه بذلك يسقط سمة من سمات الشعب أو الجماعة أو سجل حياته وتاريخه الانساني.

اقرأ أيضا

الإحصاء العام: استمرار التلاعب بالمعطيات حول الأمازيغية

أكد التجمع العالمي الأمازيغي، أن أرقام المندوبية تفتقر إلى الأسس العلمية، ولا تعكس الخريطة اللغوية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *