إميضر: حميد أيت علي “أفرزيز”
بعد سنتين من العمل المستمر، تمكّنّ مناضلوا ومناضلات حركة إميضر الاحتجاجية، من تقديم فيلمهم الوثائقي الجديد “اموسّو” لأوّل مرّة، من خلال العرض الذي نظمته “حركة على درب 96” مساء يوم السبت 09 فبراير 2019 فوق جبل ألبّان المعتصم.
المعتصمون عملوا بالمثل الأمازيغيّ القديم الذي يقول “ⵜⴰⵔ ⵉⵣⵍⵉ ⵓⵔ ⵜⴰⵎⵓ Tar izli ur tamu”، أي أن للشّعر والفنّ دورا أساسيا في التّأريخ للأحداث والمواضيع المختلفة التي تزخر بها ذاكرتنا الجماعية. ومع تطوّر تقنيات التّواصل بشكل كبير، استوجب التكيف مع هذا التحول واستغلاله لهذا الغرض، وهذا بالتأكيد ما فطن له مناضلي “ألبان” في فيلمهم “أموسو”، حيث عمدوا على ذمج الأشعار التقليدية القديمة بالسّينما، لتنضاف قوّة على قوّة الارث الثّقافي، وإرث المقاومة.
وبالحديث عن المقاومة، يوضح “تاوجا موحا” مناضل “حركة على درب 96” لجريدة “العالم الأمازيغي”، أن إنتاج “أموسّو” في حدّ ذاته بالنسبة لمناضلي معتصمي ألبان، شكل من أشكال المقاومة السّلمية، بالإضافة لكون الفيلم بنفسه “يحكي عن مقاومتنا المستمرّة، نحن سكّان إميضر الواقعة جنوب شرق المغرب، أمام بطش شركة معادن إميضر، فرع مجموعة مناجم التابعة للهولدينغ الملكي، الّتي تستغلّ أكبر منجم للفضّة في شمال أفريقيا، دفاعا عن حقّنا في الماء والأرض والعيش الكريم”.
مضيفا “تمكّنّا-نحن مناضلوا ومناضلات حركة إميضر الاحتجاجية- أخيرا من تقديم فيلمنا الوثائقي الجديد “اموسّو”، وكان عرضا رائعا حقا، لقد تمكّنا من تقديم مولود حركتنا السينمائي الجديد أمام الحضور الرائع من ساكنة إميضر والمتضامنين الذين لبّوا نداء حركتنا، وقدموا من مناطق مختلفة للمشاركة في هذا الحدث المتميز بشجاعتهم، وحماسهم وارتساماتهم الجميلة الايجابية تجاه ما رأته أعينهم وسمعته آذانهم، خلال تواجدهم معنا في المعتصم وانفرادهم بفرصة مشاهدة الفيلم في عرضه الأول مع شخصياته ومع مخرجه، ومعنا كمنتجين لهذا العمل الفريد من نوعه”.
مردفا “موحى” أن العرض الأول في المعتصم ما هو إلا خطوة أولى في مسيرة “أموسّو” الذي نأمل أن يحقق نجاحا كبيرا، ويحاكي عالم السينما عبر حضوره في أبرز المواعيد السينمائية العالمية حاملا معه رسالتنا وفكرتنا التي ضحينا بالكثير من أجلها. مجددا شكره وامتنانه لكل الوجوه النيرة التي شاركت مع المعتصمين ليلة العرض الأول رغم برودة الجوّ، “فقد منحت لنا دفئا بحضورها وتفاعلها الجميل مع فعاليات تلك الأمسية الفنية، وسنعلن في المستقبل القريب عن مواعيد عروض أخرى للفيلم”.
في بيان حركة “على درب 96” المؤطرة لأطول إعتصام في التاريخ، يحكي عن خروج المعتصمين للاحتجاج منذ صيف 2011 ضد الأنشطة المنجمية المستنزفة للثروات الطبيعية والمدمّرة للبيئة وكذا السّياسات المخزنية الإقصائية والمجحفة حسب تعبير البيان.
ذات البيان يضيف “نظّمنا الاحتجاج في حركة اجتماعية سمّيناها “على درب 96” نسبة للاحتجاج السّلمي لأهالينا سنة 1996 الذي تم فضّه بالقوة وبوحشية، وبعد مرور خمس سنوات من الاحتجاج السلمي المستمرّ، قرّرنا الخوض في إنتاج هذا الفيلم الوثائقي الطّويل، لم لا وقد شاءت الأقدار أن نتعرّف، من بين آلاف المتضامنين مع قضيتنا، على “نادر بوحموش”، المخرج المغربي الشّاب والطّموح، الذي اشتغلنا معه قبل على فيلمين قصيرين، وساعدنا بشكل كبير في إنجاح هذا العمل الفني المهمّ”.
وبإعتبار “حركة على درب 96” تجمع بين أهالي قبيلة إميضر، رجالا ونساء، أطفالا وكبارا، طلبة وفلاّحين، عبر “أكراو AGRAW” (الجمع العام للساكنة) الذي ورثوع عن أجدادهم إبّان قيام كونفدرالية قبائل “أيت عطّا” وباقي تنظيمات القبائل الأمازيغية قبل إرساء ما يسمّى بالدّولة المركزية الحديثة. “أگراو” اليوم هو بمثابة مؤسّسة “المعتصمين” الدّيموقراطية التي يتخذون بواسطتها قراراتهم الجماعية على أساس تشاركي، بما في ذلك قرار إنتاج فيلم “اموسو” الذي انطلق منذ سنة 2016 بفضل توجيهات “أگراو” للكتابة والمونطاج وعبر لجنة إميضر المحلّية للفيلم، التي تترجم توصيات “أگراو” على المستوى العملي وتنسق مع كافة طواقم الفيلم من الشباب المتحمس من فرق عمل التصوير، التسجيل الصوتي، المونطاج والميكساج، الكرافيست والمترجمون وغيرهم من الأشخاص الذين شاركوا ببصمتهم في نسج هذا العمل الفني، بعيدا عن النّمط السّائد والمعمول به في إنتاج الأفلام اليوم.
لكل متتبِّعي قضية إميضر تصورات، أفكار ومعلومات مختلفة حول نضالات إميضر من قبيل طبيعة الأشكال النضالية، الملفّ الحقوقي والمطالب، قضية الماء والاعتصام فوق الجبل … لكن هذه المرّة، فيلم “أموسّو” سيغوص في العالم الذي كان خفيّا على الكثير من المهتمّين، حول تفاصيل الحياة اليومية للمحتجّين، حول مكاسب الاعتصام، تضحيات ومعاناة المعتصمين. سيكشف هذا العمل الفني قصصا إنسانية قلّ ما يراها الكثيرون عبر هذا المزيج بين الفن السّابع والأشعار الأمازيغيّة بمختلف أنواعها، ستتضح أيضا أشكال متنوّعة من السّلوكيات التي تترجم علاقة السّكان الأصليين بالأرض، بالنّظام البيئي والايكولوجي، انطلاقا من معارف محليّة وقوانين عرفية متجذّرة في التّاريخ تشهد على أنساق ونظم اجتماعية وسياسية قوية لدى قبائل الأمازيغ عكس ما يراه الكثير اليوم من قوانين استغلالية واستعمارية مجحفة ومستنزفة للثروات الطبيعية (مثال القوانين المتعلقة بتدبير الأراضي، المياه والمناجم).
تجربة إنتاج فيلم “أموسو” حسب المخرج والمنظمين هي تجربة غنية وفريدة، لكنها لم تخلُ من مجموعة من الصّعاب، حيث يحكون عن صعوبة انتاج فيلم بشكل جماعي ومستقل عن أي جهة أخرى غير “أگراو” السكان المحليين لإميضر. وكان عليهم كساكنة قروية تأمين عملية التّصوير والتّسجيل عبر اختيار الأوقات والأمكنة المناسبة والآمنة للعمل، مع تأمين الأجهزة واللوازم، إلى جانب تدبير الاختلافات على مستوى الأفكار المتنوعة سواء بين أفراد جماعة إميضر أو مع المخرج وفرق العمل، عبر مناقشتها في “أگراو” بشكل ديموقراطي تشاركي وبناء قرار جماعي مناسب للجميع. نفس الشيء بالنسبة لمرحلة ما بعد الإنتاج خصوصا خلال عملية تجميع الفيلم وبنائه.
من جانب آخر تم تنظيم ورشات تكوينية خارج أوقات العمل، لفائدة شباب المعتصم والأطفال في التصوير والسينما تحت إشراف الطّاقم التّقني للفيلم، وباستعمال اللّوازم التّقنية المخصّصة لتصوير “أموسّو”. حتّى أن بعض المشاهد الواردة في الفيلم قد تمّ تصويرها من طرف شباب المعتصم. وتوظيف السينما في مقاومة “معتصمي ألبان” السلمية نابع من إيمانهم الثّابت بحقّهم في ممارسة الثّقافة والفنّ بدون قيود، فهي ليست حكرا على فئة معينة دون أخرى.
الغريب أنه لا أحد من أهالي إميضر كان يتصوّر كم سيصمد هذا الاحتجاج، أو أنّه في يوم ما سينتجون فيلما طويلا حول نضالهم… كان أملهم دائما أن يأتي يوم تتم فيه تسوية مشاكلهم ليتابعوا حياتهم العادية بكرامة. وفي نفس الوقت، علمتهم مقاومتهم التأقلم مع أسوأ الاحتمالات التي قد تقف أمامهم يوما ما، من بينها تجاهل احتجاجاتهم من طرف الدّولة عمدا لاكثر من سبع سنوات من استمرار الاعتصام، واعتقال 33 شاباتعسّفا. وبالتّالي كان لابدّ أن يصنع “المعتصمون” من هذه المقاومة نمط عيش ومن النضال حياة، مع وعيهم التّام بحتمية التغيير القادم آجلا أم عاجلا. ولهذا ارتأو اعتماد أشكال مقاومة مستديمة وطويلة الأمد.
تجربة “أموسّو” بتعبير المعتصمين “أتت ضمن أشكال المقاومة، ليس فقط بالنّسبة لمناضلي “حركة على درب 96″، بل حتى بالنسبة لقضيتهم والفكرة التي يدافعون عنها. ضمانا للتّواصل مع أجيالهم القادمة، وتحدّيا لمحاولات محو تاريخهم وتدليس الوقائع كما حدث سابقا بالنسبة لمقاومة أهالي-قبائل أيت عطّا-ضدّ الاستعمار سنة 1933، وخلال انتفاضات إميضر ضدّ شركة مافيا مناجم سنوات 1986، 1996 و2004. فيلم “أموسّو” بمثابة حفظ لجزء مهم من الذّاكرة الجماعية لقبيلة إميضر، هو أرشيف أجيالنا في المقاومة”.
قيل عن “أموسّو” أنه تجربة فريدة من نوعها ونادرة، كونه من انتاج حركة احتجاجية اجتماعية، وهذا لم يحدث قَطّ في أفريقيا وقلَّ مثيله حتى على مستوى العالم، ولعل تجارب الشعوب الأصلية لأمريكا اللاتينية وبأستراليا أبرز التجارب المماثلة. وهذا ما يسعد معتصمي “ألبان” الذين علقوا عن هذه التجربة الفريدة قائلين: “مسرورون بذلك ونتمنى أن تكرَّرَ مثلها كثيرا وفي كل بقاع العالم. وفخورون أيضا بكون “أموسّو” مولودا فنّيا جديدا ينضاف إلى قائمة مكتبة “أسامّْر” (جنوب شرق المغرب) السينمائية، ومرجعا إضافيا في فهم معركة إميضر المحاصرة. نحن نعتبره صوت كل ضحايا مناجم المغرب (تافراوت، أسكاون تالوين، بوعازر، أقّا طاطا، تيغانيمين، تيويت إكنيون، أمجران، جرادة…)، صوت كل ضحايا الأنشطة الاستخراجية (في الأحواض المنجمية بالجنوب التونسي والجزائري…). وتشجيعا لهؤلاء على الاهتمام بفنّ المقاومة، بالفنّ في الدّفاع عن هذه القضايا التي تهمّنا جميعا، خصوصا الشّعوب الأصلية نظرا لعلاقتها الوطيدة بالأرض والماء. ولما راكمته من تجارب ومعارف محليّة مهمّة في الحفاظ على هذه المكوّنات. “أموسّو”، ليس كفيلم فقط بل كتجربة عمل مقاومة سلمية، نضعه رهن إشارة كلّ نشطاء الحركات والحراكات البيئيّة والاجتماعيّة”.
واليوم، نستقبل سنة 2019، بعد 90 شهرا من الاعتصام المفتوح لأهل إميضر فوق جبل “ألبان”، وبعد عامين من انطلاق العمل على فيلم “أموسو” الذي رأى النّور، وبتعبير المعتصمين: “سنستمر في احتجاجنا السلمي، مع ترحّماتنا على روح المرحوم المناضل “الحاج مليوي”، أحد شخصيات الفيلم الذي وافته المنية مؤخرا بعد صراعه مع المرض. آملين أن تولد حيوات جديدة مفعمة بالحبّ والأمل مع ميلاد “أموسو”، الذي شهد الحاضرون عرضه الأول فوق جل ألبان الحاضن لأطول إعتصام في التاريخ”.