الإخلاص والوفاء والثقة والتبات على المبادئ في المعاملات والروابط الإنسانية من أنبل القيم الكونية التي تميز سمو طبيعة الأخلاق البشرية. إلا أن الملاحظ أن هذه القيم إنهارت لدرجة الحضيض لمرتبة أصبح المرأ لا يثق في ظله.
الدافع لهذه السطور هو ما نعيشه اليوم من تدهور في الروابط الأسرية، وأخوية الصداقة، وما نقرأه حول تشنج علاقات السياسيين المنتمين لنفس التيار أو الفاعلين الجمعويين الذين توحدهم الأهداف وتجمعهم البقعة الجغرافية ومجال العمل المدني. كل عنصر فاعل يدعي الصدق في الممارسات يسقط قناعه عند أول إختبار، وتتغير مبادئه لأقصى درجة عند رائحة الإغراءات المادية.
إستحضرت هذه الخواطر لسببين: السبب الأول، وأنا أتصفح كتابين أهداهما لي مشكورا المناضل السياسي والفاعل الحقوقي مولاي مبارك بودرقة، المعروف بالإسم الحركي (عباس)، “كذلك كان” و”بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة”. تصفحهما يحملك، بعيدا عن السياسية والنضال، وقريبا من الصبر الذي لايلين وأخلاق ومبادئ أصبحت اليوم حبيسة الكتب السماوية والقصص الأدبية وروايات الزمن الماضي.
هنا أتساءل، هناك سياسيون عالميون إعتزلوا الممارسة السياسية وإختلوا لكتابة مذكراتهم دونوا فيها تجاربهم في كتب مليئة بمحطات مشرقة في العمل الميداني ليستفيد منها القراء. السؤال، كم من مسؤول رفيع المستوى عندنا تقاعد أو فرض عليه تغير مياه البركة الإنزواء، ليختلي لممارسة المعاملات العقارية، توسيع مجال إشتغال شركات أنشأها أثناء المسؤولية مستغلا عناوين علاقات راكمها في مكتبه. أنظروا حولكم كم من مسؤول سياسي أو حزبي أو فاعل مدني أو أستاذ جامعي تحمل مسؤولية كبرى يساري كان أو يميني غاب عن ساحة الأحداث وتفرغ للكتابة؟ يعدون على أصابع اليد، ليس لضعف نسبة القراءة عندنا، ولكن اصلا لأنهم لم يعودوا يتذكرون من ماضيهم سوى الغنائم، ولم ينفعهم علمهم سوى لبلوغ مرتبة الإمتيازات كسب الريع. ولم تحمل تجاربهم سوى السلوكيات اللأخلاقية.
خذوا العبرة من رؤساء الولايات التمحدة، وسياسيوا أوروبا.
السبب الثاني هو ما أستشفه كممارس للعمل الجمعوي بسوس، حول العلاقات بين الفاعلين الميدانيين التي من المفروض أن يغلب عليها طابع الصالح العام اولا، والتكتل وتوحيد الصف، وتجاوز الحسابات الضيقة، والترفع على الممارسات الدنيئة، وتغليب الحس التضامني والتعاوني. فيصدمك الممارس بتضخم الأنا، والطعنات تحت الحزام، والتنافس والتهافت حول السبق الجمعوي والإستقواء الميداني، بل ومحاولات قطع الطريق وإفشال مبادرات جمعوية لأطراف الأخرى. الخاسر الأكبر من هذه الضغينة هي الفئة المستهدفة والساكتة المستضعفة المستفيدة.
العمل الجمعوي بسوس يمتص جهوده ضعف التواصل، وغلبة التوجسات والتخوفات الفارغة والخلط بين العمل الجمعوي والأطماع الإنتخابوية. كل فاعل جمعوي ينزل الميدان من أجل الكسب السياسي ويستهويه المقعد الإنتخابي يجب أن يراجع إختياراته ويعيد حسابة أوراقه.
حين يختلط الحابل بالنابل، تطفو على السطح السلوكيات الحربائية ونقتل فينا إنسانيتنا وتموت النوايا الحسنة، سنراكم الخيبات والخيانات.
الإنسان يحيى بالمواقف، والصمود ضد الإغراءات، وسمو الحس التعاوني والتضامني، والواجب الأخلاقي، وجبر الخواطر، والشعور بالإعتزاز للإنتماء لمربع الصفوة التي التي تقضى على أيديهم حوائج الناس.
صدق القائل أن سر تزايد إهتمام المغاربة بتربية القطط والكلاب وإطعامهم في كل ركن وزاوية، بغض النظر عن الجانب الحنين وعتق الحيوانات، هو ضعف الصدق في العلاقات البشرية، وتدني نسبة الوفاء والإخلاص في الروابط العائلية والأخوية وحسن الجوار.
Et tu Brute “حتى أنت يا بروتوس”
“فليمت القيصر”، كانت هذه آخر الكلمات التي نطق بها يوليوس القيصر الروماني في مسرحية وييام شكسبير الشهيرة يوليوس القيصر “Juluis César”، حين إثفق القادة ومستشاريه والمقربين بإغتياله فأسدى له كل واحد منهم طعنة بالسكين، ومشى نحو أقرب صديق له منهم، ماركوس بروتوس ووضع يده على كتفه طالبا النجدة ظنا منه أنه سينقده، فطعنه هو الآخر، وكانت هي الغادرة القاتلة. لأنه طعن فيه الصدق، الشرف وخان ثقته في آخر لحظاته.
لكل من لم يستطع أن يحافظ على المبادئ، ولكل من إتسعت لديه مساحة القول والفعل، ولكل خائن الأمانة، ولكل من سقط قناعه، نهدي جملة القيصر الشهيرة.