شغلت أساطير التحول التي يتحول فيها الإنسان إلى حيوان أو طائر أو شجر بال الإنسان في الجنوب الشرقي المغربي كما في العديد من المناطق والحضارات والشعوب الأخرى عبر التاريخ، حتى إن هذه الأساطير تتشابه أحيانا حد التطابق وتختلف تارة أخرى اختلافا بينا.
وقد يظن البعض أن هذا الشغف بأساطير مسخ الإنسان مجرد ترف أو طريقة لتجزية الوقت في زمن لم يكن فيه للناس ما يشغلون به أنفسهم غير نسج الخرافات وإبداع الحكايات، لكن الواقع غير ذلك، إذ إن لهذه الأساطير أهدافا تربوية وتهذيبية بالدرجة الأولى، فبالإضافة طبعا إلى التسلية والترفيه، فهي إما للتشجيع على الأخلاق الحسنة والحث عليها كالصدق والوفاء… أو لنبذ الأخلاق السيئة كالكذب والسرقة والجشع…
ومن هذه الأساطير المتوارثة في جنوب شرق المغرب جيلا عن جيل أسطورة “حردا سارق سلهام الرسول(ص)”، فما فحواها؟.
1- حردا سارق سلهام الرسول(ص)، مبرد الحداد وعصا الراعي !
يطلق على الضب في الجنوب الشرقي”حردا” أو “غلو”، ولكن الأول هو الأكثر استعمالا، ونعتقد أن أصله هو “أحرورد”الذي يعني الزحف أو الأصح الحبو، غير أننا لا نستبعد أن يكون عربيا ما دام الضب من فصيلة “الحرذونيات”، و ما دامت كلمة “حرداء” تعني في اللغة العربية الدابة التي بها تشوه خلقي فصارت تخبط إذا مشت، إلا أن هذا الاحتمال يبقى ضعيفا، باعتبار أن أصل التسمية لو كان عربيا، لكان الاسم الأكثر تداولا عند العرب قريبا من “حردا” عوض الضب، الذي يطلق محليا على أنثاه “تلخدا”.
حيكت حول هذا الحيوان الزاحف مجموعة من الحكايات والأساطير، لعل أشهرها تلك التي تقول إنه كان في الأصل رجلا قبل أن يمسخ عقابا له على جريمة السرقة التي اقترفها وليست أي سرقة، بل إن هذا اللص تجرأ على سلهام الرسول “ص” (تراصت ن رسول الله) فدعا الله أن يحوله إلى غذاء للرعاة قائلا: “اذهب يا ملعون جعلك الله طعاما للراعي” وهو ما لم يتأخر الله في الاستجابة له، ومنذ ذلك اليوم والضب تائه في الصحاري معرض للقنص في أي لحظة من طرف الرعاة والأطفال الذين يفضلون اللعب والتسلية به قبل أكله.
ودليل سكان المنطقة على صحة ما يدعون، أن الغشاء الأسود الذي يحيط ببطن الضب من الداخل ليس سوى سلهام الرسول(ص) !
مما تتضمنه هذه الأسطورة أيضا، أن ذيل الضب المكون من حلقات شوكية خشنة ما هو إلا مبرد الحداد الذي سطا عليه عندما كان في صورته البشرية !
يبدو أن التهمة الموجهة للرجل، عفوا للضب ثقيلة، وهي السرقة الموصوفة مع سبق الإصرار والترصد، فإلى جانب سلهام الرسول (ص) ومبرد الحداد، فقد وجدت بحوزته ضمن المسروقات عصا أحد الرعاة يضعها وراء عنقه محيطا بها مرفقيه، لذلك ليس غريبا أن يتناول الأطفال عند القبض عليه عودا يضعونه خلف رقبته حيث يصير مظهره مثيرا للسخرية والضحك، شبيها براع يرعى أغنامه.
2- الضب لا يفك عضته حتى ينهق الحمار تحت الأرض!
الحكايات العجيبة في الجنوب الشرقي حول صديقنا الضب لا تكاد تنتهي، ومنها تلك التي تقول بأنه لا يفك أنيابه عمن عضه حتى يسمع نهيق حمار في عالم سفلي، وأن المرأة يمنع عليها أكل رأسه لأن من شأن ذلك أن يجعلها تتعذب أثناء الولادة التي تكون قيصرية، إذ يصبح خروج الجنين قاسيا ومميتا، تماما كما يصعب إخراج الضب من جحره عندما يلصق رأسه بصخرة، فالضب معروف بالتحدي وعدم الاستسلام إلى درجة أنه يمكن سحبه بدون رأس أو سحب ذيله دون بقية جسده، وعليه يضرب به المثل في العناد، فيقال للشخص العنيد أو للذي يخاطر بحياته دون التفكير في العواقب “إزعم زعامت ن حردا”، أي “عنيد عناد الضب”.
ومن القصص التي تروى عن عدم استسلامه أنه قال مطمئنا أمه: “لا تبكيني يا أمي قبل أن يدهسوا عمودي الفقري”، ما يعني أنه يظل حيا، متحديا، عنيدا يأبى الاستسلام حتى بعد ذبحه إذا لم يهشم عموده الفقري، بل إن الأساطير تقول بأن ضبا ذبح وفصل عن رأسه فظل الآخر يمشي في الصحراء حتى التقى بضباب أخرى فأخبرها بمصير بقية جسده التي انتهى بها الأمر شواء لأحد الرحل !
3- الضب مسكون والعقرب عمته !
من الطرائف الغريبة التي تروى عن الضب في هذه المناطق أنه مسكون بالجن وما مرد ذلك إلا لأنه يظل متحركا عندما يتعرض للنار ولو بعد أيام من ذبحه وقطع رأسه، لذلك يتم دهس عموده الفقري مباشرة بعد الذبح لمنعه من الحركة وإلا وقع ما تتداوله بعض الروايات عن أحدهم حل عنده ضيوف فأراد إكرامهم بضب سمين إلا أنه تفاجأ بفراره عندما فتح القدر الذي كان يطبخ فيه !!
هذه الروايات تتشابه مع مثيلاتها في عدة دول كالكويت التي يعتقد أهلها أيضا أن الضب مسكون بالجن وتفسيرهم لذلك هو نفس تفسير سكان جنوب شرق المغرب، فقد جاء في الموقع الإليكتروني لمجلة بيئتنا الكويتية عدد 46 الصادر 30 أبريل 2011 في مقال بعنوان “الضب.. أسطورة البادية” اطلع عليه يوم 4 ماي الجاري، أن “الضب يتحرك عندما تلسعه النار يمينا ويسارا رغم موته مما يجعلهم يردون أن الضب غالبا يكون مسكونا بالجن”.
إذا كان “الأسامريون” (أي سكان البلاد المشمسة أو الجنوب الشرقي) يؤمنون بأن العقرب عمة الضب لا تفارقه أينما حل وارتحل ويخصصون لها الحلقات الآخرة من ذيله التي يحرمون أكلها لأنها نصيبها من الإرث، فإن نفس المجلة الكويتية اعتبرت “أن بين الضبان والعقارب مودة، لذلك يأويها في جحره لتلسع المتحرش به إذا أدخل يده لصيده”، بل إن تجاربا أجريت على الضب بحقنه بسم العقرب فتبين بأن “ابن أخيها” لم يتأثر بسم “عمته” إلا قليلا جدا بعد تزويده بجرعة تكفي لقتل أربعة أرانب كما صرح عبد الله الحداد الباحث في شؤون الصحراء لوكالة الأنباء الكويتية (كونا) حسب ذات المجلة.
ونظرا للعلاقة الحميمة بين الضب وعمته، فقد خصصت لها مقالات وتحقيقات عدة، منها تحقيق بعنوان “وللناس فيما يعشقون.. متعة أكل الضبان” منشور في الموقع الإلكتروني لجريدة الرأي الكويتية ليوم 4 مارس 2008 واطلع عليه يوم 7 ماي 2020، حيث يقول صاحبه “… ولكن العلاقة الأقوى هي التي بين العقرب والضب وهي توضح المصالح بينهما، حيث توفر له الحماية من الأعداء وهو يوفر لها المأوى والفرائس وتمتلك مقدمة الجحر… وصاحب العقرب وعقد معه عقدا كي يتبادلا المصالح”، وتذهب الرياض السعودية في عددها 16472 ل30 يوليوز 2013 في نفس المنحى حيث أوردت في مقال لها بعنوان “طبائع الضب وعلاقة التعايش بينه وبين العقرب السوداء” أن “هناك علاقة تعايش بين الضب وبعض الحشرات ومنها العقارب السوداء التي تشاركه السكن… يتكفل بإيوائها بينما تقوم هي بتوفير الحماية والحراسة الدائمة”.
العلاقة بين الضب الذي توفيت أمه فأصبحت عمته العقرب هي المتكفلة به مختبئة تحت ذنبه للدفاع عنه ضد الأعداء حسب روايات الأهالي في “أسامر”ـ لم يغفلها الجاحظ الذي أورد في كتابه الحيوان ج6 ص38 تحقيق عبد السلام محمد هارون (نسخة إلكترونية منشورة على موقع waqefya.com بتاريخ 14/10/2008 و اطلع عليها يوم 2 ماي 2020) بيتا شعريا عن استنجاد الضب بالعقرب ضد المتحرشين بهـ يقول:
وأفطن من الضب إذا خاف حارشا أعد له عند التلمس عقربا
4- الأصابع الخمسة أكبر دليل على أن “حردا” كان رجلا !
مما يحتج به بعض سكان الجنوب الشرقي لإثبات الأصل البشري للضب، أصابعه الخمسة التي تنتهي بها أرجله الأربعة، هذا المعتقد هو نفسه السائد في شبه الجزيرة العربية، فقد جاء في موقع جريدة الرياض السعودية نقلا عن مستشرق يدعى دواتي “أن العرب يقولون بأن الضب زلمة (أي إنسان) ويدللون على ذلك بأصابعه الخمسة، لذلك فهم لا يأكلون الحلقات الخمس من ذنبه لأنهم يقولون أنها لحم إنسان.
أما مستشرق آخر تقدمه الرياض باسم ديكسون فيقول ما معناه أن قبيلة في شبة الجزيرة العربية عندما يريد البعض السخرية منها يقولون إن نبيا دعا ربه أن يحول جدها إلى ضب مما جعلهم يقدسونه، ولم يأت ذكر سبب سخط ذلك النبي على جد تلك القبيلة ودعوته عليه بالمسخ، إلا أننا نلاحظ الشبه الكبير بينها وبين ما هو سائد في الجنوب الشرقي حول الضب.
نفس الشيء ورد في حيوان الجاحظ، الذي رأى في باب “القول فيمن استطاب الضب ومن عافه” بأن العرب يؤكدون الأصل البشري للضب لتشابه أكفه مع أكف الإنسان.
5- أحاديث عن الرسول (ص) والضب
إن الغرابة ليست في هذه الأساطير التي لا يصدقها عقل، ولكن الغرابة كل الغرابة في الأحاديث التي رويت عن الرسول (ص) والتي يقول بعضها بأنه هو نفسه كان يظن أن الضب قد يكون إنسانا ممسوخا، مع العلم أن الأسطورة المنتشرة في الجنوب الشرقي تجعل سرقة سلهامه سبب المسخ !
ومن هذه الأحاديث ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنهما، قال “أتي النبي صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه وقال: لا أدري لعله من القرون التي مسخت”، والقرون هنا بضم القاف تعني الأمم السابقة أما بفتحها فتعني الأنفس.
ومنها حديث ورد عند مسلم في باب إباحة الضب (عدد 1951 مكرر) مفاده أن الرسول (ص) لا يأكل الضب لأنه يشك أن يكون سبطا من أمة بني إسرائيل الممسوخين غضبا ولعنة من عند الله,إلا أن أحاديث أخرى أرجعت سبب عدم أكله عليه السلام للضب بكونه كان يعافه وأنه لم يكن بأرضه.
لسنا هنا لشرح هذه الأحاديث ولا لتأويلها وإنما لنفيد بأن فكرة مسخ الضب أقدم من الرسول (ص) عليه وسلم نفسه، ففي نفس الحديث (1951 مكرر)، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما معناه أنه ذكر له أن أمة من بني إسرائيل مسخت، ما يعني أن قصة المسخ كانت تجري على الألسن منذ القديم.
أما تأويلات وتفسيرات هذه الأحاديث فهي كثيرة سنقتصر على تلك التي ترى بأن الرسول (ص) قد يكون قال هذا عن الضب قبل أن يوحى إليه بأن الممسوخ لا ينسل، فهو إذا حسب -القرطبي- لا يتعدى مجرد حدس منه صلى الله عليه وسلم، ثم إن الحديث الذي رواه مسلم يحمل صيغة الظن لا اليقين (ذكر لي، فلا أدري لعل هذا منها) (انظر مقالا بعنوان: إن هو إلا وحي يوحى لعماد الصامت منشور على موقع مجلة البيان albayan.co.uk بتاريخ 11/2/2010 عدد 275 واطلع عليه يوم 9 ماي 2020).
ومن أغرب الأحاديث عن الرسول (ص) والضب، ما أورده الطبري في المعجم الأوسط (5996) حول مجادلة أحد الأعراب له وشهادة الضب لرسول الله بالرسالة، حيث كان شرط الأعرابي كي يؤمن بالرسول أن يشهد له الضب الذي كان في كمه، فنطق الضب بلسان عربي مبين قائلا: “لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين”، بمجرد أن خاطبه الرسول ب”يا ضب”، ما دفع الأعرابي إلى الشهادة للرسول والإيمان به، غير أن عموم المحدثين اعتبروا هذا الحديث كذبا وآخرين موضوعا ومنكرا وباطلا لا يصح (انظر موقع islamqa.info: حديث الضب وشهادته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة منشور بتاريخ 25/6/2018 واطلع عليه يوم 4 ماي 2020 ).
ومما رواه الجاحظ في “الحيوان” في نفس السياق تقريبا، أنهم رووا عن بعض الفقهاء أنه رأى رجلا أكل لحم الضب فقال: اعلم أنك أكلت شيخا من مشيخة بني إسرائيل ! (انظر المرجع السابق ص 77).
6- كثير من الأولين وكثير من الآخرين !
إذا كان الأسلاف قد نسجوا الأساطير وأتقنوا حبك الخرافات محاولين تفسير مختلف الظواهر بها، فإنهم معذورون في ذلك لأنهم كانوا يعدمون الوسائل العلمية والتكنولوجية لفهم محيطهم وما يقع عليه من تغيرات، قلنا إذا كان الأسلاف كذلك، فإن لكل جيل أساطيره وخرافاته، فالكثير من الناس إلى يومنا هذا مازالت تصدق أن “حفيد الديناصور” أو “تمساح الصحراء”، يعالج السكري ودمه مقوي جنسي، أما بيضه فيقضي على العقم نهائيا، وتحنيطه وحشوه بالصوف والكافور ثم خياطته وتعليقه في بيت الضيوف ليس مجرد ديكور، بل طارد فعال للعين !.
لكن الحقيقة التي لا مجال للأسطرة فيها، أن القنص الجائر وغير المنظم لهذا الحيوان الجميل والمسالم يهدد باختفائه من الوجود.