معلم وفاعل جمعوي من مدينة الحسيمة. إنسان بسيط. من هواة القراءة، واللعب بالحروف لتشكيل لوحات أدبية ألوانها مستقاة من دائرة وجوده في بعده الإنساني والهوياتي..
موضفا لأحداث تاريخية تنسجم مع سياق الأحداث، وعلى بياض 187 صفحة من الحجم المتوسط. روض الروائي خالد الملاحظ أبجديات اللغة العربية وطوعها، لتزدان رفوف المكتبات بميلاد باكورة أعماله الروائية “متاهات فريد زمانه”.
في هذا الجزء الأول من الحوار، يحدثنا خالد الملاحظ عن تورطه الأول في الأدب قراءة وإبداعا، وعن مخاض ولادة هذا العمل الروائي، فضلا عن التحديات التي واجهته أثناء الكتابة، مؤكدا على “أن التحدي الأهم هو كيف السبيل للمساهمة في تقاسم أفكار كأرضية للنقاش من أجل بناء تشاركي جماعي للمعرفة، من خلال تشجيع الشباب والشابات بالخصوص في الاطلاع على جزء من تاريخ المنطقة بين الأمس واليوم من خلال مادة أدبية مقبولة تحمل على عاتقها ترويج ثقافة القيم”.
ملف الهجرة من الريف وتحديدا زمن «المجاعة» يطرح أسئلة حرجة تستوجب إجابات علمية موضوعية
مرحبا بكم أستاذ على صفحات جريدة “العالم الأمازيغي”، بداية من هو خالد الملاحظ؟
بداية أتقدم بجزيل الشكر لكم على فرصة التواصل وإضاءة بعض دروب العمل الروائي الذي أصدرته تحت عنوان: «متاهات فريد زمانه». بل الأكثر من ذلك سمح لي بالعودة إلى صفحات جريدة «العالم الأمازيغي»، هذه المدرسة الصحفية الأمازيغية الصامدة والرائدة. والتي لا تفوتني الفرصة دون الاعتراف بدعم الساهرين والساهرات عليها لكل الاقلام الأمازيغية الجادة، وقد كنت واحدا من الذين فتحت لهم ذراعيها لأنشر على صفحاتها بكل حرية بعض المواضيع بداية الألفية، حتى أنني كنت مراسلا لها إبان الكارثة الطبيعية لزلزال الحسيمة 2004.
خالد الملاحظ، معلم وفاعل جمعوي من مدينة الحسيمة. إنسان بسيط. من هواة القراءة، واللعب بالحروف لتشكيل لوحات أدبية ألوانها مستقاة من دائرة وجودي في بعده الإنساني والهوياتي..
هلا حدثتمونا عن تورطكم الأول في الأدب قراءة وإبداعا؟
الإنسان لا يختار هوايته طالما أن ميوله نحوها يكون محظ استجابة لرغبة داخلية طبيعية دفينة. كنت من جيل الثمانينات والتسعينات الذي عشق الأدب بكل تلاوينه. يومها كان للكتاب مكانة راقية في محيطنا، فمثلا من يتوفر على مكتبة هو الثري بيننا، واسمه يتداول بين الناس «فلان له مكتبة عظيمة». كان قطار أي نسخة كتاب لا تتوقف عند محطة رف أحد منا، بل تتنقل بلهفة من صديق لآخر دون توقف.
بدايتي الأولى كانت طبعا في نشر بعض المواضيع بالمجلة الحائطية المدرسية التي كانت عبارة عن لوح يثبت بركن من أركان ساحة المؤسسة التربوية وتعلق عليه الابداعات، «فايسبوك الزمن الماضي»، مع مطلع التسعينيات وظهور بعض الجرائد الورقية المحلية الجهوية والوطنية، حاولت آنذاك نشر بعض المقالات بجرائد مثل: الخزامى/تاويزا/كواليس الريف/تمازيغت/العالم الأمازيغي، كما انخرطت في مشروع جريدة بادس التي كانت تصدر من الحسيمة حيث كنت عضوا في هيئة تحريرها.
“متاهات فريد زمانه” باكورة أعمالكم الروائية، كيف ولدت فكرة القصة؟ وهل يمكن اعتبارها نقطة انطلاق مسيرتكم الأدبية؟
أستسمح في استهلال الإجابة عن السؤال في تقديم لمحة موجزة عن المُؤَلَّف «متاهات فريد زمانه»، باعتبارها الباكورة الأدبية الأولى من توقيعي في جنس الرواية باللغة العربية. واللوحات التشكيلية للغلاف من إبداع الفنان التشكيلي كريم أمسيرو.
صدرت الطبعة الأولى نهاية شهر مارس 2023، عن مطبعة السليكي أخوين بطنجة. وهي من الحجم المتوسط «14/21 cm»، عبر 187 صفحة توزعت 17 حكاية عن رحلة معاناة لأسرة من الريف المغربي زمن «المجاعة» دجنبر 1944، حيث ستحكم ظروف العوز على الأب برهن أرضه الفلاحية ببلدة «طاحونة الروابي» نواحي مدينة الحسيمة. غير أن رفض الاستغلال والحكرة دفعت بالأب إلى اقتراف جريمة قتل الراهن. أمام الواقعة لم يكن من خيار له سوى الفرار هو وأسرته الصغيرة نحو الجزائر هروبا من القصاص. ولتمويه الجميع قام بسلك مسار طرقي بين جبال كزناية وسهول كبدانة وصولا إلى نهر ملوية، حيث العبور نحو الضفة الشرقية والاستقرار ببلدة «كاريان أعويوة» نواحي مدينة وهران، والانضمام إلى جيش الطبقة العاملة في حقول المستعمر الفرنسي، مع ما يفرضه العمل من استغلال طبقي وعبودية فظيعة. جراء حمى التفويد سيرحل الأخ الأصغر بإحدى مستشفيات وهران، ثم سيلحقه الأب الذي قضى في ظروف غامضة. هنا ستوكل مهمة قيادة الأسرة للبطل الذي لم يكن مؤهلا لتحمل الغربة واليتم وتحمل مسؤولية الأسرة.
سنة 1952 سيسجن البطل «فريد» بتهمة الانتماء لخلية تابعة لجبهة تحرير الجزائر، وتشاء الصدف أن يمضي عشر سنوات بالمعتقل، وحين خروجه منه غداة استقلال الجزائر سيجد أن أمورا شتى قد تغيرت ولم يستطع التأقلم معها وعلى رأسها زواج الأم بالعدو الرمزي لوالده، وكذا زواج الأخت بصديق له كان ينعته بسارق الدجاج.
سيشتغل حمالا بميناء وهران، ونتيجة التعب ستأخذه غفوة استراحة على ظهر باخرة كانت متجهة نحو مارسيليا إلى رحلة تغيير هوية بالصدفة ليصبح اسمه «محمد الوهراني». وبهذه الهوية سيبصم على ولادة شخصية جديدة، تعلم النضال في مدرسة المناجم بمدينة لانس الفرنسية. النهاية كانت تراجيدية في استعصاء العودة نحو الوطن، وتفضيل العيش بدار العجزة بمدينة ليل تحت لقب آخر «الأفريقي» حيث وافته المنية في 17 أكتوبر 2006، تاركا وصية وهب جثته لكلية الطب، وطبع مذكراته التي أوصى بتحويل مدخولها لجمعية تعنى بمرضى السرطان.
أما عن مخاض ولادة هذا العمل، فيمكن تأريخه من فترة الحجر الصحي التي كانت مناسبة لتقاسم بعض خربشاتي الأدبية على جدران مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث تفاعل العديد من القراء والقارئات بشكل إيجابي مع ما أنشره، فكانت الارتسامات والآراء حبلى بالتشجيع بل ومحفزة على المضي قدما في مجال الكتابة، وقد ذهب البعض إلى أبعد من ذلك متسائلا عن المانع في الطبع الورقي لبعض مما تقاسمته. وقد أقول ربما بهذا التشجيع المعنوي تشكلت فكرة «المغامرة» في امتطاء موجة طبع هذا العمل المتواضع.
ما هي أكبر التحديات التي واجهتموها أثناء كتابة روايتكم الأولى؟ وكيف تعاملتم معها؟
كما لا يخفى عنكم فمدينة الحسيمة عرفت في السنوات الأخيرة نهضة ثقافية فكرية متميزة وذلك من خلال إصدار العديد من المؤلفات، وإن كانت السمة المشتركة بينها هي تناول المجال «التاريخي/المعرفي» وفقط، أي كثرة المنتوج التاريخي بمقابل ندرة المنتوج الأدبي. وربما كان هذا هو التحدي الأول بالنسبة لي وهو كيف السبيل للمساهمة في تقاسم أفكار كأرضية للنقاش من أجل بناء تشاركي جماعي للمعرفة، من خلال تشجيع الشباب والشابات بالخصوص في الإطلاع على جزء من تاريخ المنطقة بين الأمس واليوم من خلال مادة أدبية مقبولة تحمل على عاتقها ترويج ثقافة القيم، بمعنى آخر تجسير معرفي بين التاريخ والأدب. لربما من يطلع على الرواية سيبحث ويقرأ ويتساءل عن تاريخ المنطقة بحثا عن إجابات للاستفزازات المفترض حدوثها أثناء القراءة «عام المجاعة» «القرصنة البحرية» «العلاقات الاجتماعية» «الهجرة» الأحداث التاريخية بالريف».. الخ.
التحدي الثاني هو فتح ملف الهجرة من الريف بشكل عام، والهجرة نحو الجزائر بشكل خاص، وتحديدا زمن «المجاعة» بالريف مع ما يطرح من أسئلة حرجة تستوجب إجابات علمية موضوعية. وحيث أنني لست باحثا متخصصا ولا مفكرا ولا مؤرخا فقد حاولت طرح أسئلة مفتوحة تاركا الإجابة لذوي الاختصاص. في انتظار أن يحظى موضوع الهجرة نحو الجزائر بحقه في التوثيق التاريخي العلمي.
التحدي الثالث هو مغامرة طبع ونشر رواية، في زمن قل فيه فعل القراءة، واختفى القراء والقارئات وراء شاشات الهواتف المحمولة. بل تحمل مشاق طبع رواية على نفقتك الخاصة بعيدا عن دور النشر، والرهان على تسويقها بالحسيمة عبر مكتبة وحيدة، ومع ذلك كانت المبيعات أكثر من المنتظر، بل وكان البيع والتسويق النضالي حاضرين من خلال مساهمة بعض جنود الخفاء.
هل اعتمدتم على تجارب شخصية أو مراجع تاريخية في تطوير القصة وخلق عالم الرواية؟
فاجأني العديد من القراء والقارئات في تساؤل محوري حول مدى واقعية قصة الرواية. فكان جوابي بكل صدق وواقعية: كل أحداث الرواية مستوحاة من الخيال ولا علاقة لها بشخصية ما. شخصيات الرواية الأربع والخمسون أغلبها/كلها متخيلة ولا وجود لها في الواقع… وقد نقول أن كل تشابه في الأسماء ليس من قبيل الصدفة ولكنه من وحي التاريخ، لأن التاريخ يعيد قراءة نفسه.
وفي ذات السياق أكرر القول مرة أخرى بأنني لست باحثا ولا مؤرخا، وعليه كان من الطبيعي جدا اعتماد بعض المصادر التاريخية ـ على قلتها ـ كمنطلق أستمد منها شرعية الألوان الأساسية في التأسيس لأرضية الرواية، وبوصلة في رسم شخصياتها وخريطة لإحداثيات مواقعها، وسندا في إعادة إحياء أحداثها.
يتناول عنوان الرواية مفهوم “المتاهة” و”فريد زمانه”، عن ماذا تعبر هذه المصطلحات وكيف يتجلى أثرها في سرد القصة؟
المتاهة في تعريفها البسيط هي سلسلة من الممرات بعضها مغلق وبعضها مفتوح قد تستخدم لقياس قدرة الإنسان أو الحيوان في الاستفادة من الاختبار. أما في بعدها المجازي فقد تحيلنا إلى الارتباك العقلي المتعمد وقياس مدى جاهزية الانسان للتحرر من شباك الأسئلة عبر إيجاد المخارج الممكنة، ففي المتاهة هناك حل للحيرة فقط يجب الاستمرار في البحث والإصرار على ايجادها. وقد تكون ربما هذه هي المنهجية المعتمدة في الرواية وذلك برسم مسارات/متاهات مختلفة بحيث كل متاهة هي تجربة حبلى بالأسئلة وبالأفكار والقرائن المختلفة في ذات الوقت، وعوض أن تحيلك على مخرج جاهز وأجوبة شافية فهي تحيلك على متاهة أخرى بحمولة أحداث مختلفة قاسمها المشترك هو أسئلة مستفزة للذاكرة التي عليك تفكيكها واسترجاع صورها الأصلية بالرجوع إلى أرشيف المخيلة. خلاصة هي أحداث ورموز تمثل جزءا من مسارات حياتنا التي على عقلنا تحريك أساطينه لتحليلها وخلخلة التمثلات الهشة بحثا عن العبرة من خلال التحليل العلمي الموضوعي.
أما عن شخصية فريد المتميزة فهي فعلا فريدة، وتكمن الفرادة في مشاعر الإحباط المتتالية التي لم تمنعه من خلق جسر بين الألم والأمل، ورافقه الأمر حتى في رسم سيناريو وفاته. شخصية خرجت من جبة الإنتماء إلى الجماعة الضيقة «آيت ورياغل/الريف» إلى شخصية الانسان المتجرد من الانتماء «العالمية»، إذ بادر إلى «نشر تجربته الشخصية لتكون درسا للجميع، كما تبرع بجثته لكلية الطب، لإيمانه بأن العلم هو الكفيل بحل معضلات المجموعات البشرية».
أما في بعدها النوعي فهي شخصية مركبة تعيش تناقضا وجدانيا مثلا: يتعب من أجل أن يرتوي ماء وحين يصل العين يعود إلى نقطة الصفر دون أن يشرب. لقاء الأم مثلا، ظل يحلم به أكثر من عشر سنوات، وحين وصل إلى عتبة الباب عاد من حيث أتى.. البحث عن المنزل الذي أعتقل منه بوهران، الخ.
البعد الفلسفي لشخصية فريد: يوحي بأن تجربة فريد الحياتية بما تعنيه من إكراهات وتحديات متناسلة، مع محدودية قدراته العلمية جعلته يواجهها بطرح أسئلة تلو أخرى بشكل يوحي بأنه يستعيد ذلك الطفل الفيلسوف الذي بداخله بطرح الأسئلة قصد إشباع فضوله المعرفي، فالطفل يولد فيلسوفا كما يقول البعض.. والسؤال في الفلسفة أهم من الجواب كما قال أحد الفلاسفة، فالجواب إغلاق لموضوع والسؤال حوله يعني إعادة فتحه…
قد أقول نهاية بأن اختيار تسمية الشخصية الرئيسية بفريد لم تكن اعتباطيا، بل لفرادتها بين المعنى والمبنى في سياق الأحداث. إذ يجسد صراعا بين هويتين أو أنيين، صراع بين فريد الريفي ومحمد الوهراني وبعده الأفريقي، دون إغفال مجال تحرك الشخصيتين حيث هو كذلك صراع للأمكنة/الوطن بين الريف والجزائر وفرنسا، والنواة أو المرجع الأساس في قياس درجة ميلان الصراع هي الشخصية الأصلية الورياغلية، حيث العناد والإصرار، الألم والأمل..
ما هو المشهد أو الفصل الذي يمثل لكم أهمية خاصة في روايتكم؟ ولماذا؟
كفاعل حقوقي يناهض التمييز (ضاحكا)، أعتقد أنه لا يمكن لي أن أميز فصلا أو مشهدا عن الآخر، فكل يكمل الآخر، كالبنيان يشد بعضه بعضا.
حاوره: خيرالدين الجامعي