اللهجات العربية كانت بلا إعراب قبل الإسلام:
وإذا كان من المستحيل أن تكون العربية الإعرابية، التي نعرفها، لغةَ التداول والتخاطب لدى كل أو بعض أو إحدى قبائل الجاهلية، لكون طبيعتها الإعرابية تتنافى من الاكتساب السليقي للغة، فماذا كان يتكلّم العرب إذن قبل الإسلام؟
لقد كانوا، بكل بساطة، يتكلّمون لهجاتهم العربية، التي كانت تُكتسب حقا، عكس العربية الإعرابية، بالسليقة وبدون تعلّم، كلغة أمّ. والفرق بين هذه العربية السليقية والعربية الإعرابية هو أن الأولى كانت مبنية بالضرورة ـ أقول بالضرورة لأنه، كما رأينا، يستحيل اكتساب اللغة المعربة، مثل العربية التي تعلّمناها ودرسناها ونكتب بها، بالسليقة وبدون تعلّم ـ، أي لغة غير إعرابية، وهو ما يعني أن حركات أواخر أسمائها وأفعالها المضارعة لم تكن تتغيّر حسب وظائفها النحوية في القول والكلام، والتي كانت في الغالب ساكنة، كما هو الحال في اللهجات العربية الحالية. وإذا كانت اللهجات العربية غير إعرابية في الجاهلية، فهذا لا يعني، كما يعتقد البعض جهلا، أنها كانت بلا قواعد نحوية وصرفية وتركيبية لأنها كانت مجرد لهجات. فلغة بلا قواعد، ولو أنها لهجة عاميّة لم يسبق لها أن عرفت الكتابة والتقعيد، تساوي لا لغة. فما يجعل التواصل ممكنا بلغة ما كيفما كانت، سواء عالِمة أو عامّية، هو قواعدها، التي قد لا يعرفها مستعمل هذه اللغة، مثل الطفل والأمي اللذين يتكلمان لغتهما الشفوية بشكل سليم طبقا لقواعدها النحوية والصرفية والتركيبية دون أن يكون لهما إلمام ولا وعي بهذه القواعد. ولا ننسى أن الفرق بين اللغة واللهجة هو أن الأولى لهجة تُدرّس وتُكتب في حين أن الثانية محرومة من المدرسة والكتابة.
والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن، هو: كيف يمكن استعمال لهجة عربية، بشكل سليم ومفهوم، رغم أنها مبنية تبقى حركات خواتم ألفاظها على حال واحدة كيفما كانت ووظيفتها النحوية في الكلام؟ في الحقيقة، بطرحنا لهذا السؤال، نكون لا زلنا ننظر إلى هذه اللهجة المبنية انطلاقا هي العربية الإعرابية؟ ولهذا فنحن لا نكاد نصدّق أن تكون هناك عربية مفهومة دون أن تتغيّر حركات أواخر كلماتها حسب وظيفتها النحوية في الجملة أو القول، كما تقضي بذلك قواعد العربية الإعرابية التي نعرفها. مع أنه يكفي أن نتأمل اللهجات العربية الحالية لبلدان الخليج بشبه الجزيرة العربية، لنلاحظ أنها تُستعمل بلا إعراب، أي دون أن تتغيّر الحركات الأخيرة لألفاظها حسب وظيفتها النحوية في الكلام، ومع ذلك فالحديث بها يكون مفهوما وواضحا. ويبدو أن هذا ما كانت عليه لهجات اللغة العربية قبل الإسلام، تُستعمل بلا إعراب، مما جعل منها لغات أمّ تنتقل من جيل إلى آخر بالاكتساب التلقائي السليقي.
وإذا كانت هذه اللهجات السابقة عن الإسلام تشترك مع العربية الإعرابية في معجمها، وخصوصا لهجة قريش، إلا أنه من الراجح أنها كانت تختلف عنها في تراكيبها وتصريف أفعالها، بالقدر الذي كان يسمح بالاستغناء عن الإعراب وباستعمالها مبنيةً دون أن يخلّ ذلك بالفهم والمعنى، أو ينتج عنه التباس في التواصل بها. فيكفي أن يكون تركيب الكلام بشكل يجعل الوظيفة النحوية للاسم تتحدّد، كما يلاحَظ ذلك في غالبية اللهجات العربية الحالية، بموضعه الثابت في القول المفيد (الجملة)، كأن يأتي الفاعل لزوما قبل الفعل والمفعول في كل التعابير المماثلة، ليُستغنى عن حركات أواخر الأسماء ويستعاض عنها بالسكون دون أن يكون هناك مشكل في الفهم والتواصل. فمثل هذا المشكل ناتج في العربية الإعرابية عن كون الوظيفة النحوية للاسم لا تتحدّد بموضع هذا الاسم في الجملة، كأن يكون الأول أو الثاني أو الثالث…، وإنما بالمعنى الذي يقصده المتكلّم، مما لا بدّ منه من إدراك هذا المتكلّم للوظائف النحوية (مثل الفاعل والمفعول به…) لما يستعمله من كلمات حتى يكون كلامه سليما، معنًى ونحوا. وهكذا تقبل العربيةُ الإعرابية، للتعبير عن نفس المعنى، تراكيب مثل: “ضرب زيدٌ محمّدا”، “ضرب محمّدا زيدٌ”، “زيدٌ ضرب محمّدا”…
لكن لو كان ترتيب كلمات هذه الجمل، كما في العديد من اللهجات، بهذا الشكل: “زيد ضرب محمد”، فحتى لو نطقنا أواخر أسماء هذه الجملة سكونا، كما في هذه اللهجات، فسيكون المعنى واضحا ومفهوما، وهو أن زيدا هو الذي قام بفعل الضرب، وأن محمدا هو الذي وقع عليه هذا الفعل. وهذا ما أكّده الدكتور ابراهيم أنيس عندما كتب يقول: «نكتفي هنا ببيان قصير عن موضع الفاعل من الجملة، وموضع المفعول منها، کي نبرهن على أن الفاعل لا يعرف بضم آخره، ولا المفعول بنصب آخره بل يعرف كل منهما في غالب الأحيان بمكانه من الجملة الذي حددته أساليب اللغة» (“من أسرار اللغة”، صفحة 228). ويضيف: «على كل حال نستطيع ونحن مطمئنون أن نقرر هنا أن الأساليب العربية القديمة قد عينت مكان الفاعل ومكان المفعول، بما لا يدع مجالا للبس، وبما لا يحوج إلى رفع في الفاعل حتى تظهر فاعليته؛ أو نصب للمفعول حتى تتضح مفعولیته» (صفحة 231). وفي نفس الاتجاه يوضّح أن تحريك أواخر الكلمات لم يكن يُلجأ إليه في الأصل إلا لتجنّب التقاء ساكنين (صفحة 236).
وإذا أضفنا إلى كل هذا أن تصريف الفعل في اللهجات مخفّف، لكون عدد الضمائر أقلّ، ونون التوكيد غائبا، والمثنّى غير موجود في الغالب الأعم، والأدوات العاملة المعروفة في العربية الإعرابية غير مستعملة…، سنفهم أنه ليس من الضروري استعمال عربية إعرابية ليكون الكلام مفيدا وسليما، واضحا ومفهوما.
الإعجاز القرآني ونشأة العربية الإعرابية:
إذا كانت اللغة العربية لم يسبق لها، في شكلها الإعرابي، وقبل تقعيدها وبداية استعمالها الكتابي في الفترة الإسلامية، أن تناقلتها الأجيال عبر الاستعمال الشفوي كلغة أمّ ولغة تخاطب تُكتسب، منذ الصغر، بالسليقة والسماع والممارسة الشفوية، فكيف احتُفظ بها حتى وصلت إلى مرحلة التقعيد والكتابة بعد الإسلام؟
الجواب هو أن العربية، في شكلها الإعرابي دائما، لم يسبق لها أن وُجدت قبل الإسلام. ذلك أن نشأتها كانت متزامنة ومتلازمة مع نشأة النحو العربي. بل هي وليدة هذا النحو وابنته. فبوضع النحاة لقواعد النطق الصحيح لحركات أواخر الأسماء والأفعال المضارعة، حسب وظائفها النحوية في التعبير، نشأت العربية الإعرابية. وقد ظلت، منذ نشأتها هذه، لغة كتابية تُتعلّم في المدرسة أو ما يقوم مقامها، ولا تُكتسب بالسليقة كلغة أمّ. فكل ما انتقل إليها من الفترة الجاهلية هو معجم اللهجات العربية، أما النظام النحوي والتركيبي والصرفي لهذه العرية الإعرابية فهو نظام جديد أنشأه النحاة إنشاءً. لكن ذلك لم يكن خلقا من عدم، بل كان انطلاقا من القرآن الذي جاء، للمرة الأولى، بعربية جديدة في شكلها الإعرابي، والذي لم يكن معروفا في أية عربية من تلك التي كانت متداولة في الجاهلية. وهذا ما شكّل إعجازا حقيقيا تحدىّ به القرآنُ العربَ. وإذا كنا موضوعيين، فقد لا نجد في القرآن، كما فهم وشرح المفسّرون الإعجاز القرآني، ما يعجز العرب، أو غيرهم، عن الإتيان بمثله، سواء من حيث الشكل (التعبير والأسلوب…) أو من حيث المضمون (أحكام تشريعية، حقائق علمية، الإخبار بالغيب الذي كان معروفا في كتب دينية سابقة…).
لكن إذا عرفنا، كما سبق بيان ذلك، أن العرب قبل الإسلام كانوا يتحدّثون لهجاتهم العربية بشكل لا إعراب فيه، أي كلغة مبنية لا دور فيها للعلامات الإعرابية لفهم مقاصد القول، فسيكون القرآن حقا شيئا معجزا لا يستطيع أن يأتي بمثله لا العرب ولا غيرهم. ويتمثّل هذا الإعجاز في استعماله لغة إعرابية ـ وليست مبنية كاللهجات العربية في الجاهلية ـ تتوقف قراءته السليمة على ضبط الحركات الإعرابية للكلمات حسب وظيفتها النحوية. وهذا شيء لم يكن يعرفه ولا يتقنه ولا يمارسه عرب الجاهلية، عكس من تؤكّده خرافة “السليقة”. فالإعجاز الأكبر للقرآن هو لغته الإعرابية التي صيغ بها. فعندما تحدّى العرب أن يأتوا بمثله، فلأنه كان يعرف أنهم لا يملكون إلى ذلك سبيلا، لأن كل ما كانوا يعرفون التعبير به هو لغتهم المبينة، وليست الإعرابية كما في لغة القرآن.
ولهذا كانت هناك، في البداية، مشكلة في قراءة القرآن قراءة سليمة، يتوقّف عليها الفهم السليم لمعاني القرآن، التي تحكمها علامات الإعراب، والتي لا يعرفها العرب. فكان ذلك هو الدافع الأول إلى إنشاء القواعد النحوية لضبط هذه العلامات الإعرابية لحفظ القرآن من اللحن الذي كان يُخلّ بالمعنى عند قراءته. وهناك رواية متواترة، ولو أن ابراهيم أنيس يعتبرها مختلَقة، تورد أن أب الأسود الدؤلي، الذي تُنسب إليه نشأة النحو العربي، سمع من يقرأ: «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهُ» (سورة التوبة، الآية 3) بكسر اللامِ في رسوله، فقال: “ما ظننتُ أمرَ الناس يصل إلى هذا”، فبدأ، بأمر من عمر الخطاب أو علي بن أي طالب حسب الروايات، في وضع قواعد النحو. لكن بما أن لغة القرآن، نظرا لمصدرها الإلهي حسب العقيدة الإسلامية الجديدة، أصبحت، بشكلها الإعرابي الجديد، نموذجا للغة المعيارية المثلى، الكاملة المكتملة، الراقية والفصيحة، عكس اللهجات العربية في الجاهلية، فقد استٌبعد كل تعبير عربي لا يوافق النموذج الإعرابي للغة القرآن باعتباره تعبيرا خاطئا، غير سليم وغير مقبول. وهو ما نتج عنه أن التعبير السليم، وبعربية سليمة، أضحى مشروطا بالالتزام بقواعد اللغة الإعرابية التي جاء بها القرآن.
هذه القواعد هي التي سيضعها النحاة ويفرضون بواسطتها، كشرط للتعبير السليم المقبول، لغة إعرابية جديدة لم تكن معروفة في الجاهلية، إلى أن جاء بها القرآن. ومع هذه اللغة الإعرابية، دخل ما عداها من التعابير العربية غير الإعرابية، كالتي كانت متداولة ومعروفة في الجاهلية، في حكم اللهجات الأقل درجة وقيمة من اللغة الإعرابية التي تحاكي في إعرابها لغة القرآن. وهو ما حرم هذه اللهجات من التطور نحو التقعيد والكتابة، اللذيْن أصبحا مقصوريْن على لغة القرآن ومثيلتها من اللغة الإعرابية التي صنعها النحاة.
كيف صنع النحاة العربية الإعرابية:
والمتتبّع لنشأة وتطوّر النحو العربي ما بين القرن الأول والرابع الهجرييْن، سيستوقفه، كما أبرز ذلك محمد عباد الجابري، النموّ السريع والازدهار المدهش لهذا العلم الجديد، حتى كثرت مدارسه واشتهر علماؤه ورجالاته في ظرف وجيز نسبيا، وهو ما يشكّل ظاهرة فريدة لا نجد مثيلا لها في اللغات والثقافات الأخرى. فاللغة اليونانية، مثلا، والتي كانت، ومنذ قرون قبل الفترة المسيحية، لغة كتابة وإنتاج كتابي غني، حيث أُلّفت بها المئات من الكتب في العلم والفلسفة والسياسة والمسرح والشعر والأدب والتاريخ…، لم تعرف اهتماما بنحوها يُشبه، ولو بنسبة واحد على عشرة، ذلك الاهتمام الذي عرفته العربية في بداية تقعيدها، رغم أنها كانت بلا تراث كتابي كما عند اللغة اليونانية، إذ كانت في بداية انتقالها إلى مستوى الاستعمال الكتابي.
لماذا إذن كل هذا الاهتمام غير العادي بالنحو العربي بعد ظهور القرآن؟ لأن وظيفة هذا النحو لم تكن فقط هي القراءة السليمة للقرآن وفهم لغته الإعرابية، بل كانت أيضا هي إنشاء لغة عربية جديدة إعرابية على غرار عربية القرآن الإعرابية، تحلّ محل اللهجات العربية غير الإعرابية، والتي كانت متداولة قبل الإسلام. فكان هناك اهتمام زائد بالنحو لأن ذلك عمل يدخل في صنع وبناء لغة عربية جديدة. وإذا كان القرآن هو النموذج الأصلي للعربية الإعرابية الجديدة، إلا أن النحاة سيتوسّعون في هذا النموذج ليصنعوا قوالب تصاغ على مَقاسها العربية الإعرابية الجديدة، حتى لو كانت هذه القوالب تمثّل حالات افتراضية بعيدة كل البعد عما هو متداول في الاستعمال التواصلي والكتابي للعربية، مثل: “أكلت السمكة حتى رأسها، بالفتح أم الرفع أم الكسر”؟، أو ما الأصحّ: “فإذا هو هي أم فإذا هو إياها”؛ “خرجت فإذا عبد الله القائمَ، أو القائمُ”؟ كما جاء، حسب ما تحكيه كتب التراث، في مناظرة سيبويه والكسائي. وهكذا نشأ النحو أولا، لتنشأ بعده وبه العربية الإعرابية الجديدة. وهذا وضع غريب وشاذ: النحو يسبق اللغة المتداولة وينشئها. مع أن المسار الطبيعي للغات الطبيعية هو أن تبدأ شفويةً يكتسبها أصحابها ويستعملونها بالسليقة كلغة أمّ، ثم بعد ذلك يُستخلص من هذا الاستعمال نظامُها النحوي من طرف الدارسين لطبيعة هذه اللغة من لسانيين ونحويين. فالنحو يأتي دائما بعد أن توجد اللغة وتستعمل في التداول الشفوي. فهو بمثابة حمضها النووي AD N:
وكما أن الحمض النووي الخاص بأي كائن حيّ organisme يُستخلص منه بعد أن يكون هذا الكائن موجودا، فكذلك النظام النحوي الخاص بأية لغة يُستخلص منها بعد أن تكون هذا اللغة متداولة في التواصل والتخاطب. والحال أن العربية الإعرابية، حتى وإن كانت موجودة كنص قرآني يُقرأ ويُتلى، إلا أنها لم تكن موجودة كلغة تخاطب في الحياة عندما وضع النحاة قواعد لنظامها النحوي. فلم يعد، مع هذه العربية الإعرابية، أن النحو مستخرج من اللغة المتداولة، كما هي العلاقة الطبيعية بين النحو واللغة، بل أن هذه الأخيرة، في شكلها الإعرابي، هي المستخرجة من النحو. فأصبحت هذه اللغة لا توجد إلا إذا تكلّمها أو كتبها مستعملوها بشكل مطابق، للقواعد الإعرابية التي وضعها النحاة، وليس لشكلها الطبيعي الذي كانت متداولة به قبل الإسلام. هكذا نشأت إذن العربية المعيارية الفصحى، عربية النحو والإعراب والكتابة، كنسخة موازية للغة القرآن في روحها الإعرابية. ومع نشأتها أصبح كل ما عداها من كلام عربي لا يُلتزم فيه بقواعد هذه العربية المعيارية مجرد لهجة. فهي إذن لغة غير طبيعية، بل لغة صنعها النحاة. والنتيجة أنها لغة غير قابلة للاكتساب شفويا، تلقائيا ولاشعوريا، أي بالسليقة كما هو مفترض كحقيقة مؤكّدة بخصوص عربية الجاهلية، وإنما لا بدّ لهذا الاكتساب من تعلّم وكتابة. فهي بالتعريف لغة مدرسية وكتابية، أي لغة يتوقّف إتقانها واستعمالها على تعلّمها الكتابي، طبقا للقواعد التي قرّرها النحاة.
لماذا اختفت اللغة العربية من التداول الشفوي؟
لماذا اختفت اللغة العربية من التداول الشفوي مع انتشار الإسلام، وأصبح استعمالها، منذ ذلك الاختفاء، مقصورا على الاستعمال الكتابي أو قراءة ما هو مكتوب؟ التفسير الشائع هو أن اختلاطها بلهجات أعجمية، بعد دخول أقوام غير عربية كثيرة في الإسلام، أقبلت على تعلّم العربية واستعمالها باعتبارها لغة دين وثقافة ونفوذ سياسي، أدّى إلى انتشار واسع للحن في استعمالها حتى طغا هذا اللحن في الكلام والتخاطب وأصبح شبه قاعدة. وهذا ما كان وراء وضع قواعد نحوية لضبط القراءة الصحيحة للقرآن والنطق السليم للعربية، وصونها من اللحن، وخصوصا ما يتعلق بحركات خواتم الكلمات. وهكذا حفظ النحوُ العربيةَ الإعرابية من اللحن والخطأ. لكن ذلك لم يمنع العربية اللحنية، التي لا يُلتزم فيها بقواعد الإعراب، من التداول الشفوي حتى شكّلت لهجات خاصة بكل منطقة، وغدت هي التي تُستعمل في التخاطب والتواصل اليومي. أما العربية الإعرابية المعيارية فاستمرت لغة للتعلّم والكتابة والإنتاج الثقافي والأدبي.
هذا التفسير لاختفاء العربية الإعرابية المعيارية، أي الفصحى، من التخاطب اليومي، ولنشأة اللهجات، لا يختلف كثيرا عن خرافة “السليقة” في تفسير إتقان عرب الجاهلية للعربية الإعرابية بالسليقة و”بدون معلّم”.
ـ فإذا كان انتشار اللحن، نتيجة استعمال العربية من طرف الأعاجم، هو الذي أدى إلى ظهور اللهجات العامّية واختفاء العربية الإعرابية من الاستعمال في التخاطب اليومي، فبماذا نفسّر اختفاء هذه العربية الإعرابية نفسها من الموطن التاريخي الأصلي لظهورها وانتشارها بشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، مثل بلاد الحجاز، حيث لم يعد أحد يستعملها كلغة أمّ بهذه المنطقة، رغم أنها لم تعرف اختلاطا بالأعاجم كما في الشام ومصر وشمال إفريقيا…؟
ـ ثم لماذا وحدها العربية ينال منها اللحن الناتج عن استعمالها من طرف الأعاجم حتى تختفي نهائيا من الاستعمال اليومي؟ لماذا لم يحصل ذلك للإنجليزية ولا الإسبانية ولا البرتغالية، وهي لغات أوروبية وصلت إلى القارة الأمريكية منذ أزيد من خمسة قرون، وكان وراءها، مثل العربية، نفوذ ديني وسياسي وعسكري وثقافي، وانتشرت بهذه القارة وسط العشرات من اللهجات المحلية للسكان الأصليين، الذين سيستعملون هذه اللغات الأوربية بجانب لهجاتهم الأمريكية دون أن يؤدّي ذلك إلى اختفاء النسخة الأوروبية الأصلية لهذه اللغات من التداول الشفوي، لتتحوّل إلى عاميّة إنجليزية وإسبانية وبرتغالية مختلفة تماما عن تلك المستعملة في الكتابة، كما يُفترض أن ذلك هو ما حصل للهجات العربية التي أصبحت “لغات” مختلفة ومستقلة عن العربية الكتابية، لا تشترك معها إلا في جزء من معجمها؟
الحقيقة هي أن العربية الإعرابية، التي قيل لنا إنها كانت تُكتسب بالسليقة في الجاهلية، لم تختف من التداول الشفوي بفعل تأثير اللهجات الأجنبية للأعاجم الذين اعتنقوا الإسلام، وإنما اختفت لأنها كانت أصلا مختفية لم يسبق لها أن وجدت كلغة أمّ تُكتسب في مرحلة الطفولة، وتنتقل من جيل إلى جيل عبر تداولها الشفوي. وإذا كانت تلك اللغات الأوروبية قد احتفظت، عند انتقالها إلى أمريكا، على وضعها كلغات تداول شفوي في الحياة اليومية، فذلك لأنها أصلا كانت تُستعمل بموطنها الأوروبي بهذا الوضع نفسه، أي كلغات تُستعمل في التخاطب الشفوي، وهو ما نقلته معها إلى أمريكا لأنه يدخل في تكوينها كلغات طبيعية.
أما العربية الإعرابية، فلأنها لم يسبق أن كانت لغة شفوية، فلم تنقل معها وظيفتَها الشفوية ـ لأنها لا تملكها ـ إلى البلدان التي انتشر فيها الإسلام، بل نقلت إليها وظيفتَها الكتابية فقط. ولأن العربية لغة الإسلام ـ بل حتى لغة الجنة عند بعض الفقهاء ـ، فقد أراد المسلمون الجدد من العجم أن يتعلّموها ويستعملوها في حياتهم اليومية، ويتخلوا حتى عن لغاتهم الوطنية، كما فعل الأمازيغيون والمصريون والشاميون… لكنهم لم يجدوها متداولة في التخاطب حتى يكتسبوها ويتكلّموها. فكل ما وجدوه هو إمّا لهجات عربية غير إعرابية محدودة الانتشار لقلة عدد من يسمّوْن بالعرب “الفاتحين”، أو فقط العربية المكتوبة التي أقبلوا على تعلّمها. لكن لما أرادوا التحدّث بها، استعملوا معجمها المتوفر في هذه العربية المكتوبة، بالنسبة للمتعلّمين منهم، مع صياغتها في قوالب لغتهم المحلية. ولأن معجم هذه اللغة الجديدة عربي في الجزء الأكبر منه، فقد اعتقدوا أنهم يتكلّمون العربية الحقيقية، في حين أن ما يتكلّمونه هو لهجة صيغت بتراكيب لغتهم المحلية وبمعجم عربي. وهكذا نشأت الدارجة بشمال إفريقيا. لكن لو أن العربية كانت تملك وظيفتها الشفوية، كتلك اللغات الأوروبية التي غزت أمريكا، لما كانت هناك دارجة أصلا: لماذا سيصنع الأمازيغ دارجة أدنى رتبة ومقاما من لغة القرآن الإعرابية، التي كانت رغبتهم في التحدّث بها وراء هذه الدارجة، لو كانت العربية قد وصلتهم وهي مستعملة في التواصل الشفوي؟
الانتقادات والاعتراضات:
أتفهّم أن هذا التحليل سيثير ردودا رافضة، وانتقادات لاذعة، واعتراضات شديدة. وأول هذه الاعتراضات هو السؤال الاستنكاري: كيف غابت هذه “الحقائق” عن كل الذين تناولوا موضوع نشأة اللغة العربية وتطوّرها وخصائصها، من قدماء ومحدثين، وأشبعوه بحثا ودرسا وتأليفا؟ كيف لم ينتبهوا إلى أنها لم تكن تُكتسب وتُستعمل بالسليقة قبل الإسلام؟ إنها أسئلة مشروعة ومُحِقة.
إذا عرفنا أن كل الإنتاجات المعرفية هي عبارة عن أجوبة لأسئلة مثارة، وحلول مقترحة لمشاكل مطروحة، فسيكون غياب أسئلة حول بديهية “السليقة”، بخصوص اكتساب العربية في الجاهلية، شيئا عاديا، لأن هذا السؤال لم يُطرح إطلاقا. ولا تهمّ الأسباب، مثل الإجماع، تواتر الروايات التي تؤكد حقيقة هذه “السليقة”، وجود أشعار نظمها شعراء لم يكونوا يعرفون الكتابة والقراءة… وإنما الذي يهمّ هو أنه لا يمكن الإجابة عن سؤال غير مطروح أصلا. فالذين درسوا الشعر الجاهلي، مثلا، انطلقوا من أسئلة، من قبيل: ما هي مميزات هذا الشعر؟ ما هي اللهجات التي نُظم بها؟ ما هي طبيعة المجتمع الجاهلي كما نستشفّها من هذا الشعر؟… وقد أُلّفت العديد من الكتب في الإجابة عن هذه الأسئلة، دون أن تتطرّق لمسألة حقيقة ظاهرة السليقة لأن هذا السؤال لم يطرحه أصحاب هذه الكتب. وحتى طه حسين، عندما شكّك في هذا الشعر الجاهلي واعتبره منحولا كُتب في الفترة الإسلامية، لم ينطلق في ذلك من سؤال حول مسألة “السليقة”، بل كان سؤاله هو: لماذا نجد لغة هذه الأشعار موحّدة في شكل لهجة واحدة، هي لهجة الحجاز، ولا تختلف كثيرا عن لغة القرآن الموحّدة، ولا نجد فيها أثرا للهجات عربية أخرى، مثل اللهجات الجنوبية؟ فكان جوابه هو أن هذا “الشعر الجاهلي” ينتمي إلى العصر الإسلامي، ولا علاقة له بالعصر الجاهلي. فطه حسين أجاب عن الأسئلة التي طرحها، والتي لم يكن ضمنها سؤال يخص حقيقة “السليقة”، ولو أن النتيجة كانت ستكون، لو طرح هذا السؤال، واحدة، وهي أن تلك الأشعار لا تنتمي إلى العصر الجاهلي. وكذلك أولئك المستشرقون، الذين أرادوا تفسير ظاهرة الإعراب بإيجاد جذور لها في اللغات السامية القديمة بحكم أن العربية لغة سامية (تفاصيل ذلك في كتاب: “من أسرار اللغة”، صفحة 199 وما بعدها)، انطلقوا من هذا السؤال: ما هو الأصل السامي للإعراب؟ أما لو طرحوا هذا السؤال: هل تتوافق آليات اكتساب الطفل للغة الأمّ مع خاصية الإعراب الملازم للعربية؟ لخلصوا إلى جواب يؤكّد أن الإعراب، كما هو مطبّق في العربية، لا يمكن أن يوجد في أية لغة شفوية، سواء كانت سامية أو هند ـ أوروبية أو غيرهما، تنتقل من جيل إلى آخر بواسطة الأطفال باعتبارها لغة أمّ، وهو ما ينفي، نفيا مطلقا، اكتساب العربية الإعرابية بالسليقة.
وهذا السؤال المتعلق بعلاقة الإعراب بقدرة الأطفال على اكتساب العربية، لتنتقل عبرهم إلى الراشدين وإلى الأجيال القادمة، هو الذي كان منطلَقا لما كتبتُ.
ونلاحظ أنه في الحقيقة، وقبل أن يكون سؤالا حول العربية واستعمالها قبل الإسلام…، فهو سؤال بيداغوجي لِسني في جوهره، يخصّ عملية processus اكتساب الأطفال للغة الأمّ، وعلاقة هذه العملية بالإعراب الذي هو جزء من اللغة العربية. فقد استفزتني، من هذه الناحية البيداغوجية، مسألة الاكتساب السليقي المزعوم للعربية في الجاهلية، لأنني لم أجد مسوّغا بيداغوجيا ولسنيا يُقنعنا بإمكان اكتساب الطفل للغة إعرابية كلغة أمّ. ويتعلّق الأمر هنا بالطفل فعلا، لأن عرب الجاهلية، إذا كان المفترض أنهم كانوا يتحدّثون العربية بالسليقة، فذلك يفترِض أيضا أنهم كانوا يكتسبونها كلغة أمّ وهم أطفال. فالمسألة تتعلق إذن بآليات اكتساب الطفل للغة الأمّ، وما يثيره ذلك من سؤال حول مدى تلاؤم أو تنافي لغة ذات خصائص إعرابية مع هذه الآليات. وهذا هو بيت القصيد في كل هذه المناقشة، وهو ما كان وراء كتابة هذا الموضوع. ولهذا فإن كل ردّ على هذه الخلاصات من دون إثبات أن الطفل يستطيع، يبداغوجيا ولسنيا، اكتساب العربية الإعرابية كلغة أمّ، هو ردّ خارج الموضوع.