دوار الزاويت ن تزكارت قديما: منارة قرآنية في قلب إفران الأطلس الصغير

بقلم: الحسين محامد باحث في الطوبونيميا والتراث الأمازيغي

في عمق جبال الأطلس الصغير، وبين تضاريس سوس الصخرية ونخيله العتيق، يقع دوار يحمل من اسمه هويةً متجذّرة في الروح والعلم والطبيعة، إنه دوار الزاويت السدرة، التابع لجماعة إفران الأطلس الصغير بإقليم كلميم. ليس هذا الدوار مجرد نقطة على خريطة الجنوب المغربي، بل هو منارة مضيئة لحَفَظة كتاب الله، وذاكرة حية لتقاليد دينية وتعليمية عريقة.

طوبونيم الاسم: بين الزاوية والشجرة

يحمل اسم “الزاويت السدرة ” دلالات طوبونيمية عميقة. فكلمة “الزاويت” (ⵣⴰⵡⵉⵜ) في الثقافة الأمازيغية تعني المكان المخصص للعلم والعبادة، وغالبًا ما تكون زاوية يتعلم فيها الطلبة القرآن الكريم والعلوم الشرعية. أما “السدرة” (تزكارت,ⵜⴰⵣⴳⴳⵯⴰⵔⵜ)، فهي شجرة السدر المباركة، التي ترتبط بالرمزية الروحية والصلابة، والتي يُعتقد أنها كانت بارزة في المكان أو شاهدة على نشأته الأولى.
بهذا، يمكن قراءة اسم الدوار على أنه: “زاوية العلم عند شجرة السدر”، أو “مكان التقديس والحفظ تحت ظل الطبيعة المباركة”، وهو ما يترجم فعلاً واقع المكان وتاريخه.

قرية الحفاظ: حيث يسكن القرآن في القلوب

قديما ما يميز دوار الزاويت ن تزكارت عن كثير من الدواوير المجاورة، هو أن أغلب رجاله حفظة لكتاب الله، وهو أمر ليس بالهيّن في زمن تتراجع فيه أنماط الحفظ التقليدية. هنا، لا يُنظر إلى حفظ القرآن كإنجاز فردي فقط، بل هو وظيفة مجتمعية وهوية جماعية.
كان أطفال الزاويت السدرة منذ الصغر، ينخرطون في حلقات التحفيظ، تحت إشراف فقهاء محليين متمكنين، في مسجد الدوار وفي فضاءات بسيطة ولكنها عامرة بالإيمان والهمة. ومن اللافت أن الحفظ لا يقتصر على الذكور فقط، بل هناك اهتمام أيضًا بحفظ الفتيات للقرآن، ما يعكس وعيًا دينيًا شاملاً.

إرث تعليمي وروحي متجذر:

ترتبط شهرة ساكنة الدوار تاريخيًا الى كونهم حفدة سيدي ابو الأعلام (إكرامن ن سيدي بولعلام )، وهو فاتح وادي افران وهو من ذرية سيدي وسمين بن علي الذي هو رئيس الشرفاء الرجراجيين، دفين جبل الحديد بالشياضمة، وله عشرة أبناء كلهم حفظة القرآن الكريم ولا تزال ذريته تحافظ على حفظه حتى اليوم انتشر أبناءه العشرة في سوس و بعمرانة ووادي نون.
ابو الأعلام نزل في حياته بزاوية السدرة (الزاويت ن تزكارت ⵣⴰⵡⵉⵜ ⵏ ⵜⵣⴳⴳⵯⴰⵔⵜ) بإفران الاطلس الصغير ، خلف بعده يعقوب بن محمد بن يوسف واخوه عبد الكبير وعبد المالك و عبدالكريم، وخلف ولده يوسف وعبد الكريم وولده ابي القاسم وعبد الكريم ولده عبد الرحمان ابن الحاج. وهذا ما ذكر في كتاب المعسول للعلامة المختار السوسي وفي شجرته رحمه الله.
ويتميز الدوار كذلك بوجود زاوية تقليدية بجانب المسجد، كانت ولا تزال قبلة لأفقيرن من مختلف مناطق إفران، يُقام فيها الذكر والعبادة كل يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.

طقس الجمعة: قراءة القرآن في ضريح سيدي أبو الأعلام

في كل يوم جمعة بعد صلاة الصبح، يتوافد فقهاء دوار الزاويت ن تزكارت ومعهم فقهاء من الدواوير المجاورة إلى ضريح سيدي أبو الأعلام، حيث يجتمعون على قراءة “التفريق”، وهو مجلس من الذكر الجماعي وتلاوة آيات من القرآن والدعاء، يُقام بنيّة طلب البركة ودفع البلاء.
هذا الطقس الصباحي، المتجذر في التقاليد الدينية المحلية، يعكس أهمية الزوايا والأضرحة كمراكز للتربية الروحية والتواصل بين علماء الدين. كما يُعدّ فرصة للتلاقي وتجديد روابط الأخوة والوفاء بين أهل العلم في المنطقة.
وكانت تُقام في الزاويت ن تزكارت مواسم دينية (المعروف افقيرن) وملتقيات محلية بمناسبة ختم الطلبة للقرآن، وهي لحظات احتفالية تمزج بين الدين والعرف، وتُجسد صلة الرحم بين الأرض والسماء.

الهوية الأمازيغية في خدمة القرآن:

رغم أن دوار الزاويت السدرة أمازيغي اللغة والثقافة، فإن أهله استطاعوا أن يدمجوا بين الهوية الأمازيغية والروح الإسلامية في انسجام قلّ نظيره. فتُسمع في جنبات الدوار تلاوات قرآنية بصوت أمازيغي خاشع، وتُتداول في المجالس حِكم نابعة من تراث سوس الإسلامي.

تحديات الاستمرارية: حين تهدد الحداثة رسالة الحفظ:
رغم التاريخ العريق لدوار الزاويت السدرة في تعليم القرآن، فإن الجيل الجديد لا يُبدي نفس الالتزام الذي ميّز الآباء والأجداد. فقد بدأ الحفظ يتراجع، وأصبح الاهتمام بكتاب الله مهددًا بضغط انشغالات العصر وأولويات التعليم النظامي.
هذا التراجع يُنبّه إلى حاجة ملحة لإعادة الروح إلى الرسالة القرآنية في الدوار، عبر دعم مبادرات التحفيظ، وإحياء دور المسجد والزاوية، وتفعيل جهود أبناء المنطقة في الداخل والمهجر.

نحو حفظ الذاكرة واستمرار الرسالة:

ما يجب اليوم ان يميز دوار الزاويت ن تزكارت ليس فقط ماضيه المجيد، بل على أبناء الدوار حفدة سيدي أبو الأعلام الإصرار على إحياء إرث أجدادهم ونقله للأجيال الجديدة، في وقت أصبح فيه حفظ القرآن تحديًا أمام الانشغالات الحديثة. ولما لا تفكر الساكنة اليوم، بتعاون مع أبنائها في المهجر، في إنشاء مركز قرآني حديث يُخلد هذا الدور، ويكون جسراً بين الأصالة والتجديد.

خاتمة:

دوار الزاويت السدرة قديماً هو شاهد على أن القرآن لا يُحفظ في الصدور فقط، بل يُغرس في الأرض، ويصبح جزءًا من هوية جماعية لا تزول. هو نموذج لدوار صغير جسدًا، عظيم روحًا، نجح في جعل الحفظ رسالةً مجتمعية، لا فردية، تستحق أن تُحتذى.

“في الزاويت ن تزكارت، لا يُقاس المجد بعدد السكان، بل بعدد الحروف التي تسكن القلوب.”

اقرأ أيضا

الفن كامتداد للهوية: قراءة في التجربة الذاتية للفنان الأمازيغي حساين أوعزو

مقدمة تمثل التجارب الفردية في المجتمعات التقليدية مرآةً صادقة تعكس عمق القيم الحضارية والثقافية التي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *