تبدو بعض الروايات وكأنها تُكتب كاستجابة للحظة، لفكرة عابرة، أو لقصة سُردت ذات مساء. لكن هناك روايات أخرى تُكتب كأنها قدر. روايات لا تُخطط، بل تُنتظر. لا تُصاغ، بل تُنحت ببطء داخل العقل، حتى تتجلى. روايتي “ما بعد الهرمجدون” تنتمي إلى هذه الفئة الثانية.
بدأت كتابتها منذ أكثر من عشرين عامًا، في طرابلس، مدينة تتنفس بالشعر لكنها تختنق بالحراس. كتبت منها قرابة 170 صفحة، ثم خبأتها في مكان آمن، لا خوفًا من النسيان، بل صونًا لبذرة ستنبت حين يحين الوقت. ما لم أخبئه كان الرواية ذاتها — حملتها في رأسي، في ذاكرتي، في غربتي.
كل تفصيلة كانت تنمو كجذر صامت في باطن الحياة.
لم أكن أفكر في نشرها آنذاك، لا لأنني كنت أفتقر للثقة، بل لأنني كنت أعرف أن النشر في جماهيرية العقيد لم يكن فعلًا أدبيًا، بل صفقة مشروطة بمباركة الدولة وموافقة البوليس الفكري. كانت الكلمة هناك تمر عبر مصفاة الرقيب، تُسحق وتُغربل، لا لتُقرأ، بل لتُراقب. ولم تكن الرواية التي أكتبها تصلح لمثل ذلك الزمن، لأنها لم تكن تسبّح باسم الزعيم، بل كانت تحاول أن تخلع الأرباب كلها، أن تسأل، أن تُشكك، أن تفتح نافذة في جدارٍ مغلق منذ عقود.
ثم اندلع ما لم يكن يُتخيل: سقط النظام، وتكسّرت بوابات الخوف، لكن ما أعقب السقوط لم يكن خلاصًا بل فوضى عارمة.
كنت أرى هذا المشهد منذ طفولتي، حين كنت أتخيل ـ ببراءة مشوبة بالحدس ـ موت الديكتاتور الليبي فجأة، إثر حمى طارئة أو حادث عارض، وأسأل نفسي: ماذا سيحدث لشعب لم يتعلم كيف يكون شعبًا؟ لم يفهم معنى الدولة، ولا تذوق طعم التعايش السلمي المشترك؟ كنتُ أراه، من دون أن أدري، يسير نحو الفراغ، حيث تُنتزع السلطة من قبضة الظلم لتُلقى في حضن الفوضى، وتتحول الحرية إلى لعنة جديدة، لا إلى خلاص.
رأيت بلدي يتداعى، لا إلى دولة جديدة، بل إلى ما يشبه حقل ألغام يُولد فيه الموت من رحم كل شارع، وكل قرار، وكل صمت. بدأتُ أرى بعيني، لا بخيال الكاتب فقط، ما يشبه فصول الرواية: زحف الطغيان الجديد، تفتت المعنى، ونشوء سلطات بلا وجوه – ميليشيات مهووسة بالمال وبالدم في آنٍ معًا.
في تلك اللحظة، خرجتُ من النص إلى واقعه. أصبحت الرواية مرآة لزمني، وأصبح زمني طارئًا في روايتي. لاحقتني ميليشيات الإسلام السياسي لا لأنني ارتكبت جرمًا، بل لأنني حلمت. بكوني طالبتُ بقيام دولة ليبرالية، تؤمن بالعلمانية كضامن للتعدد، وتحرّر الفرد من وصاية الجماعة، وتمنح الإنسان الحق في أن يكون ذاته لا ظلًّا لشعار. كنتُ أنادي بأن يكون الإيمان خيارًا لا إجبارًا، وأن تُفكك السلطة الموروثة عن الآلهة المزيفة. لكنهم لم يروا في ذلك سوى كفرًا ينبغي إسكاته، أو خروجًا من القطيع يستحق الإعدام الرمزي. وجدت نفسي ملاحقًا بكلمة، أو بسطر لم يعجبهم، أو برؤية لم يحتملوها.
حينها قررت أن أرحل. هجرتُ ليبيا، لا كمن يفرّ، بل كمن يحمل صوته ويبحث له عن فضاء. وصلت ألمانيا، وبين يديّ ذاكرة مشتعلة وأحلام متكسرة. لكن “ما بعد الهرمجدون” ظلت معي، تكبر كما كبرتُ، تتغير كما تغيرتُ، وتتجلّى كلما اختبرت الحياة وجهًا آخر من وجوه الحقيقة.
ظلت الشخصيات تصاحبني، والأحداث تتكامل في ذهني كخرائط سرية. رأيتُ نهاية البطل “ماس” قبل أن أكتب بدايته. تخيلت كيف سينهار العالم، وكيف سيبحث الناس عن إله لا يخجلون منه، وعن معنى لا يُباع ويُشترى. كأنّ الرواية كانت نبوءة… أو كأنني كنت أرسم قدري بخطٍّ موازٍ لقدرهم.
كنت، مثل “ماس”، أعبر بين عالمين: العالم الذي لفظني، والعالم الذي احتواني بشروطه. كنت أتنقل بين لغتين، بين جغرافيا تهدم الذاكرة وأخرى تطلب إعادة كتابتها. وفي كل محطة، كانت الرواية تنمو داخلي، مُشبعة بتجارب النزوح والانكسار والنجاة.
“ما بعد الهرمجدون” ليست رواية خيال علمي فحسب، بل حكايةُ من عاشوا في ظلال اليقين وانشقوا عنه. عن أولئك الذين عُوقبوا لأنهم آمنوا بشيء غير مسموح. عن من قاوموا التلاشي في عالم تمحو فيه الرقمنة حتى أثر الدمعة من على خدّ الذاكرة.
وفي النهاية، حين اكتملت الرواية، لم تكن نصًا فقط، بل كانت شهادة. كانت صلاتي الأخيرة لبلد لم يعد يعرف نفسه،
ووصفًا لعالم يمارس النفاق، وتحكمه خرافات اللاهوت، وتنهشه الحروب على الموارد، ويُعاد فيه تشكيل الإنسان لا وفقًا لإنسانيته، بل لما يملكه أو يمكن استغلاله منه. عالم يعود بنا إلى بدائية أكثر تطورًا، لكنها أكثر قسوة، حيث تُمحى الذاكرة الجماعية، وتُستبدل القيم القديمة بمنطق السوق، وتُختزل الحياة إلى معادلات للبقاء لا تعرف الرحمة، ولا تعترف بالحق، ولا تُبقي من الإنسان إلا ظله.