رمضان والطقوس الاستهلاكية

بقلم: سعيد بنيس

لا يرتبط الأمر بذاكرة جماعية عن ندرة الحاجة أو بوعي اجتماعي ضعيف ومتذبذب عن الأمن الغذائي أو بجوع قديم، بل يتعلق الأمر بصيغ طقوسية ثقافية وغذائية ترتبط بشهر رمضان يشكل فيها سلوك “التفاخر التسوقي ” تعويضا عن الانقطاع الزمني عن أماكن التسوق لمدة نصف النهار أو أكثر فيصبح معها التواجد في أماكن الاستهلاك لا سيما في آخر النهار ذريعة أو دافعا للتزود والتبضع.

فينتقل فعل وسلوك التسوق إلى شكل “هجوم” أو “تسونامي” أو «سطو ” أو ” غزوة ” على المنتوجات المعروضة فيتملك الفرد شعور جارف بشراء وتجريب جميع البضائع التي لم يكن خلال السنة يتعاطى لها أو يفكر في استهلاكها محاكاة لجميع الزبناء والأشخاص المتواجدين في نفس الفضاء التسويقي كانت جُوطِيَّة أو سوق ممتاز أو مَارْشِي أو بضائع معروضة على أرصفة الطريق …

يمكن توصيف إقبال أصحاب الدخل المتوسط على الاستهلاك بوثيرة زائدة إبان شهر رمضان من خلال جانبين مغايرين جانب طبيعي يحيل على رغبة وتمثلات الفرد في إشباع جوعه وانتظاراته الحيوية بعد فترة من الإمساك عن الطعام وجانب اجتماعي واقتصادي يتيح فرص وأزمنة وأمكنة تسوق لا سيما إذا استحضرنا خاصية التوقيت الرمضاني ووفرة البضائع على اختلاف أنواعها داخل السوق المغربية.

فاختيار نفس الأطباق أو أطباق معينة أو أكلات ووصفات بذاتها في رمضان بوثيرة متكررة من قبيل السمك أو البيض أو “الشَّبَاكِيّة” أو التمر أو “السْفُوفْ” يوميا لا يتم بمنطق اختيار الأكل الصحي، لأن هذا الاختيار لا يحضر خارج شهر رمضان، بل يغيب لفترات ويختفي بعده. فهذه العادات والسلوكات على بساطتها الظاهرية تحيل على ملامح أنثروبولوجية يمكن توصيفها من خلال طبيعة التمثلات القيمية للمواطن المغربي التي تتأرجح بين ثنائية “الفردية” و”البنية”.

فالفردية تُمكن الفرد من التحكم في جسمه ووجوده والتقرير في فعله و ممارساته وفي اختياراته بمفرده. في المقابل يحيل مفهوم البنية على العوامل المؤثرة وعناصر الشحن المجتمعي والتنشئة المجتمعية مثل الجماعة والطبقة الاجتماعية والدين والإثنية والمهارات والتقاليد والسكن وشبكة الأصدقاء …، التي تحدد وتقنن وتضبط وتوجه وجود وقرارات وتفاعلات الفرد.

لهذا فالسبب الرئيس في الاستهلاك بوثيرة زائدة إبان شهر رمضان هو هيمنة البنية على الفردية، فالفرد الواحد لا يمتلك القدرة على الدفاع عن اختياراته وعن رغباته في استهلاك عادي كاستمرارية لنوعية الاستهلاك طيلة السنة، وعدم الرضوخ لسلطة البنية التي تبتدأ من عائلته الصغيرة، والتي غالبا تميل إلى الاستهلاك المفرط بالمفهوم المغربي أي “التْهَلْيَة” و “التَّبْرَاعْ ” و “التَّفْيَاكْ ” و “الشّبْعَة” و ” التَّمْتاَعْ” …

إذن فانطلاقا من ثنائية الفردية والبنية يمكن قراءة بعض العادات الجديدة للمغاربة من قبيل الإفطار في المقاهي أو الفنادق أو في الساحات الخضراء أو على الشواطئ لا كمؤشر على تغيرات اجتماعية واقتصادية، بل كاستشراف لمنطق جديد «للترحال القيمي” ، حيث أن نفس القيم السالفة الذكر “التفاخر التسويقي ” و “التهلية ” و “التبراع ” و “التفياك ” و “الشبعة” … سيتم تثبيتها خارج بيئتها بهذه المواقع الجديدة للاستهلاك، بعد أن كان الأكل داخل المنزل ” فِيهْ البَرَكَة” ومقابله أي الأكل خارج المنزل مرفوض وغير لائق واضطراري ويدخل في خانة الاستثناء.

هذا المنطق الجديد تحكمه جدلية مركبة مفادها أن العرض الاستهلاكي لا تحدده طبيعة المكان ورمزيته بل تتحكم فيه أساسا نوعية طقوس أكل الزبون، التي تتطلب تلبيتها مسايرة السلوك الاستهلاكي للزبون التي تطبعه وتهيمن عليه بعض الوصفات لا سيما لدى فئة اليافعين والشباب مثل ال”طَاكُوسْ” وال”بِيتْزاَ” وال”بَاسْتِيشْيُو” …

فتظل العادات الاستهلاكية خلال شهر رمضان هَِي هِيَ مع فارق الانتقال من حيز مغلق حميمي أسري له رمزيته وقدسيته وهو البيت العائلي (” مَاكْلَة دْيَالْ الدَّارْ فِيهَا البرَكَة”)، إلى فضاءات مفتوحة مشتركة يَعْبُرُ منها الجميع دون استثناء وتؤثث مساحات المجال العام كالمقهى والفندق والمطعم و شاطئ البحر و المنتزه ومحطة الاستراحة، …

اقرأ أيضا

الأمازيغية في أنشطة الأحزاب السياسية بين التهميش والبرغماتية

رغم مرور أكثر من عقد من الزمن على دسترة الأمازيغية كلغة رسمية في المغرب بموجب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *