إن ما يعرفه المسار المدني والوعي الشعبي من انعطافات و عودة إلى الجذور الثقافية للمغاربة ، جدير بالإشادة و الانتباه، فهو مدخل لقراءة التحولات التي بات يعيشها الخطاب الثقافي المغربي والمتمثلة أساسا في التحرر من شرنقة التطابق و الانتقال من ضيقه إلى أوساع التعدد، و ما يعنيه ذلك من انتقال من البناء بخطاب الانفعال إلى البناء استنادا إلى المعرفة و العلوم الإنسانية، وهو ما أشرت عليه جملة من المشيرات من بينها ، الدعوة إلى الاعتراف بالهوية الثقافية الأمازيغية للشعب المغربي ، و الدعوة إلى إقرار رأس السنة الأمازيغية لحظة احتفاء و إقراره كيوم عطلة مدفوع الأجر، الذي ينبغي أن يظفر بصدى مؤسسي، لكن في غمرة ذلك وجب الانتباه أيضا إلى الدلالات الأنثربولوجية والرمزيات الخاصة وبنيات المتخيل الرمزي التي تحف بهذه الممارسة الثقافية، وتعتبر ذات وظيفة كبرى في تحقيق التوازن الاجتماعي والثقافي، والانتباه في الوقت نفسه إلى صيغة ” اخف أوسكاس ” المتداولة في الخطاب السالف ذكره. والتي غالطت المعاش و التاريخ؛ ذلك أن لدال ” إيض إناير ” أو” ليلة اناير ” متخيل رمزي لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال اشتغاله ولا يمكن بأي حال أن تسعه التسمية المجترحة.
ومن المفيد في هذا المقام استحضار ما قاله جيليبير دوران في كتابه ” البنيات الأنثروبولوجية للمتخيل” من كون ظلمة الليل تشكل الرمز الأول للوقت ، عند مجموعة من الشعوب التي تحسب الوقت بالليالي و ليس بالأيام . وهو ما تعبر عنه بعض الأعياد الليلية كالميلاد و الفصح بما هي أدلة حية على روزمانات ليلية بدائية ، وإلى هذا المدار المؤمإ إليه من قبل جيلبير دوران ينتسب احتفاء الأمازيغ ب” إيض إناير” كتمظهر و دال رمزي من دوال هوية ثقافية حاضنة لرؤيتها إلى العالم.
إذ تذكرنا الأنثروبولوجية الرمزية بكون النظام الليلي هو نظام يمجد الفرح والحياة ويقف في الحد النقيض للنظام النهاري و أنساقه و بنياته و صوره، إن الاحتفال والافتتان الليلي بليلة بعينها نجد تجلياته في مجموعة من الثقافات الإنسانية التي تجعل من ليلة مخصوصة ليلة استثنائية وتهيل عليها القداسة وتخصها ببناء سردي خاص يمجدها، إن النظام الليلي هو نظام يقوم على الأمان والحميمية ويعلي من مكانة الجسد؛ فالنظام الليلي حد تعبير جيلبير دوران أقل عدوانية، وأكثر سعيا لرغد العيش وهو ما ينعكس في جملة من الممارسات الأنثربولوجية والرمزية الأمازيغية.
إن ارتباط ايض إناير بالأرض، علاقة تنطوي على ذلك التصور الشائع في مجموعة من المعتقدات والتصورات الميثية حول أمومية الأرض، لذلك يقول الأرمين ” أن الأرض هي بطن الأم الذي خرج منه البشر” وهذا التصور الأمومي يتبدى بشكل جلي لدى الثقافات التي تعتمد المدافن والتي تجعل دفن الجسد حركة عودة إلى الحضن الأمومي إذ يشير النص المنقبي لسيدي حماد أموسى الذي دونه لاوست ونشر في مجلة هسبريس تامودا إلى كونه أدرك في رحلته بلادا يحتفي أهلها ويقيمون عرسا لسبعة أيام عند موت أحدهم، تاركين حرث الأرض وما انهمكوا فيه من ممارسات زراعية وهو ما يفصح عن تصور يمجد العبور والتقوقع في حجر الأرض ويجعل لحظة العودة لحظة للاحتفال ، ما يجعل من الحضن الأمومي الجوهر النفسي الشائع في الثقافة الأمازيغية والذي يتجلى في التسميات الأنثوية لمجموعة من المدن الأرضية القديمة على وجه الخصوص بالبلاد الأمازيغية من قبيل ” طنجيس، أزيلا، تطاوين، تيزنيت، تامدولت، تازاكورت، تومبكتو، تازا، تامسنا، تاوريرت…” .
كما يتجلى هذا الجوهر النفسي فيما تسجله بعض الميثات الكبرى في الثقافة الأمازيغية من عودة إلى هذا الحضن، ويعبر عن ذلك ما نجده في حكاية حموو أونامير، كما يتبدى نسق التأنيث في تسميات الطقوس الاحتفالية والرمزية من قبيل تلغنجا وتامغرا و تاوالا وتيويزي وتامكرا وتاييرزا ..كما تحفل الميثولوجيا الأمازيغية بتسميات آلهات تعكس نسق التأنيث كتاكات وتانيت، وفي كل الممارسات والطقوس التي تمت الإحالة إليها، يتشاكل الأنثوي والأمومي بالأرضي إذ يرى برزيلوسكي أن الآلهة الكبرى تانيت، يمكن العودة بها إلى مصدر يتمثل في تاناييس أو ناناييس التي يعتقد هذا الأنثربولوجي أنها قد تكون اسما قديما للماء أو للنهر، وتحولت فيما بعد إلى نانا التي تحيل في الثقافة الأمازيغية إلى الأنثوي وإلى المرأة التي تقوم بقطع السرة وما يحفل به ذلك من أبعاد رمزية.
زيادة على ذلك فإن تأمل طقس إيض إيناير يشي أيضا بالاحتفاء بالسري والحميمي وهي من صور النظام الرمزي الليلي حد تعبير جيلبير دوران، فبحسبه ” فإن النظام الرمزي الليلي يتمحور حول الهبوط والتقوقع ويرتكز على صور السرية و الحميمية والبحث المستمر عن الكنز وعن الراحة وعن كل أنواع الغذاء ” وهي صورة مصغرة عن رغبات الذات الإنسانية في الوجود ، وهذا ما تحكيه بشكل رمزي رحلة بحث أفراد الأسرة في ليلية يناير عن قطعة غذاء موجودة في طبق الاحتفال، قطعة مبحوث عنها أودعتها الأم في مكان سري ليتم البحث عنها، والأم في هذا المتخيل الرمزي هي دال على الأرض بوصفها الأم الأولى وإدراكها يعني امتلاك مفتاح بيت المؤونة، وعليه ففي كل افتتاح روزمانة زمنية تنبثق هذه الحكاية، التي تحل محل الحكي اللغوي الليلي لتحكي عبر الطبخ حكاية موغلة في الرمزي تختصر حركية الإنسان وتجعل الأيام القادمة بعد ليلة الحكي الرمزي هاته والمخصوصة بمكانة ووضع اعتباري في المتخيل، امتدادا للبحث عن كنوز والبحث عن الراحة وكل أنواع الغذاء؛ المبتلع باللسان وبتجويفات الجسد الأخرى حيث يتشاكل الفعل الهضمي والفعل الجنسي، و الجذر اللغوي للفعل الجنسي في الثقافة الأمازيغية له إيحاءات إلى الانغلاق والتقوقع وإلى الابتلاع الذي سلفت الإشارة إلى مهاده الليلي، وذلك ما يحيل عليه الجذر اللغوي ” قن qen” والتعبيرات المنبثقة منها في الدارجة المغربية والتي تعتمد المتخيل ذاته و تجعل الفعل الجنسي فعل احتواء، والاحتواء صنو الابتلاع.
كما أن الأمازيغ ببلاد القبايل يطلقون على العضو الأنثوي ” بوخاتم ” في إحالة إلى شكله الدائري الشبيه بشكل الينابيع والكهوف والمغارات وعيون المياه، كما تحيل إليه بعض التعبيرات الرمزية التي تربط الفعل الجنسي بما هو أرضي، إذ نجد أن التواصل اليومي يطلق على حركة الفعل الجنسي تعبيرات تقدمه في صورة القطف والزرع، وتجعل الفعل الجنسي اختراق للأرض حين تطلق على العضو الجنسي تعبير الوتد ونجد أهل الأطلس يقولون في إيحاءهم إلى الرغبة الجنسية ” راداش بنوغ أنرار ” أي ” سأبني لك بيدرا “و إقامة البيدر في الثقافة الأمازيغية يتطلب غرس عمود في وسط أرضه و استمرارية الحركة وما يترتب عن عملية الدرس من غلات وسكينة تعقبها الاحتفلات والرقصات تشابه ما يترتب عن العملية الجنسية من مواليد وطمأنينة، كما نجد في الأشعار الشفهية بسوس مقطعا شعريا يقول ” إساوا تريت أنك أوزال إتضوحامت، أكيس نزاض إزيض إينو ولا وينك ” إذ يعتبر الفعل الجنسي في هذا السجل الشعري شبيها بوضع القضيب الحديدي في الرحى و القيام بحركة الطحن، إنه تقوقع وابتلاع و انغراس واحتواء؛ بهذا يتشاكل الفعل الجنسي مع الأرضي الأمومي وطقوس الخصب .
إذا علمنا أن النظام الليلي الذي أشرنا إلى انتساب الثقافة الأمازيغية إلى مداراته، هو نظام كما يقول جيليبير دوران يتسم بالرغبة في التسويات والحلم برغد العيش أكثر من التفكير في الانتصارات فهمنا أن سيرورة البحث عن الاعتراف و استعادة الثقافة الأمازيغية لوضعها الاعتباري واستمراريتها نابعة من هذا الجوهر العميق، يشير دوران في هذا المقام إلا أن النظام النهاري والشمسي يطبعه الإصرار على الفصل والتمييز، والثقافة الأمازيغية كثقافة منغرسة في نظام ليلي لا تواجه في سبيل انتزاع الاعتراف إلا هذا الإصرار، لن تعتبره انتصارا لأنها لا تبحث بالأساس في كل ذلك إلا عن الترابط والانصهار بما هي ملحقات نظامها الرمزي.