سيدي وساي: تأويلات ممكنة لتاريخ مشهد ساحلي مشهور (الجزء الثالث)

الحسين بوالزيت- صحفي وباحث في التاريخ

– سيدي وساي: موقعه، وشهرته كرباط ساحلي وعلاقته بسيدي بهلول

الموقع الذي شيد فيه سيدي وساي كما تقدم في الجزء الأول، يستوفي جميع الشروط التي يعتمدها المغاربة والشمال افريقيين في انتقاء مواقع المراقبة والتي جرت العادة على تسميتها بالمحارس او الثغور التي تؤسس فيها الرباطات، وفي شمال افريقيا نالت العديد من الربط شهرة كبيرة ومنها على سبيل المثال رباط المنستير بتونس، ورباط شاكر بالمغرب، وهو شاكر ابن عبد الله الازدي أحد اتباع عقبة ابن نافع الفهري الذي غزى شمال افريقيا والمغرب، وقد تحدث المصادر التاريخية عن غزواته وما رافقها من سبي وغيره من تجاوزات، ومن المعروف ان الازدي بصفته من الشخصيات المشهورة ان ذاك في المغرب قد كلف بتعليم المصامدة القراَن والتفقه في أمور الدين الإسلامي الجديد في المنطقة، في رباطه المشهور والموجود ناحية مدينة مراكش ويبعد عنها بحوالي 85 كلم في اتجاه مدينة الصويرة، ويعتبر من اقدم رباط في تاريخ المغرب، وعرف عن المنتسبين اليه كرههم الشديد لبرغواطة، لذلك انخرط رجاله بكثافة في مواجهة البرغواطيين عندما ظهروا في تامسنا، وكان ذلك في أوائل القرن الثاني الهجري، ومن بين هؤلاء نجد يعلى بن مصلين الركَراكَي- ينتمي الى نفس نسب سيدي وساي- الذي تزعم الكثير من الحروب ضد البرغواطيين، كما قام بتجديد رباط شاكر، تخليدا لذكراه وتمسكا كذلك بمذهبه، وضل هذا ال رباط على هذه الحال كملتقى للعلم والعلماء والمتصوفين الى حدود القرن الثالث عشر الميلادي، وهذا ابن الزيات (1229)يذكر ان كثيرا من العلماء وأوليائه وصلحائه يحجون في كل رمضان الى رباط شاكر من اجل ختم القراَن، وذكر ان منابر الوعظ وحلقات الدرس كانت تعقد من اجل نشر الإسلام وتثبيت تعاليمه في نفوس المصامدة وغيرهم من اقوام تلك النواحي، ويصدق نفس الامر على رباط ماسة، الذي نال شهرة كبيرة في سوس، ومن غير المستبعد ان يكون هذا هو سبب انتقال سيدي وساي الى ساحل ماسة، وقد تحدث ابن قنفد (عاش في القرن الثامن الهجري) عن ذلك وقال ان العديد من المتصوفة من كل انحاء المغارب كانوا يحجون الى ساحل ماسة وقد تحدث عن الكثير من العلماء والصلحاء المشهورين الذين قاموا بذلك في كتابه المشهور “أنس الفقير وعز الفقير”.

كما نجد كذلك رباط أكَوز، الذي اعتبره صاحب التشوف واحد من سلسلة رباطات راكَراكَة المحادية لمجال بورغواطة، ومنها رباط شاكر الذي ذكرناه أعلاه، كما نجد كذلك رباط عقبة، كما ورد ذلك عند في التشوف، وحسب الباحث محمد رابطة الدين، فموقع رباط أكَوز (أكَوز في اللغة الامازيغية هو الرباط) كان موقعه عند واد تانسيفت واختفى ولم يبق له أثارأ ويستفاد من التشوف ان قاعدة ركَراكَة في عهد التادلي كانت هي أكَوز، وكانت مرسى على البحر، وقد نعتها المؤلف بقرية أكَوز، وأشار الى أنها كانت مقر العامل وبها كان يجبي الخراج، وكان بها سجن ومسجد وجامع… كما نجد كذلك رباط صالح في مدينة اسفي غير بعيد عن موطن ركَراكَة التاريخي، ورباط الجويمع كمركز مشهور للحراسة في سبتة، ورباط مليلة، وغير بعيد عن سيدي وساي نجد رباط ماسة المشهور، ويعتبر هذا الموقع من اشهر مواقع سوس على ساحل البحر على الاطلاق، وقد سجلت النصوص التاريخية الكثير من الاحداث المرتبطة به كما احتفظت لنا الذاكرة المحلية والرواية الشفوية بالكثير من عناصر الخيال الجمعي من كرامات وغيرها من الأمور المرتبطة بهذا الرباط المشهور عبر التاريخ، الذي لم يكتفي بلعب أدوار دينية محضة بل تجاوز ذلك، الى ممارسة أدوار سياسية وايديولوجية كان لها وقع كبير على المشهد السياسي الوطني وانخرط هذا الرباط في احداث سياسية حاسمة كان لها وقع كبير على الاحداث والصراعات الدائرة على الحكم في المغرب، وذلك ما نكتشفه اثناء استنطاق النصوص التاريخية، فحسب رحال بوبريك، في معلمة المغرب (ج13 )، يربط ابن عذاري ماسة ببداية اسلمة المغرب، خصوصا تلك اللحظة التاريخية التي وصل فيها عقبة بن نافع الى المحيط، قال أبو علي[ أبو عالي صالح بن أبي صالح] ثم صار عقبة من إيجلي حثى وصل ماسة فأدخل فرسه في البحر حثى وصل الماء تلابيبه وقال: السلام عليكم يا أولياء الله، فقال له أصحابه، على من تسلم؟ قال على قوم يونس. عم! ثم قال، اللهم إنك تعلم إني لم أطلب الا ما طلب عبدك ووليك دو القرنين، ألا يعبد في الأرض غيرك (ابن عذاري، ص 27). لقد اوردنا هذا النص كما أورده باحثين اَخرين، مع العلم اننا لا نتبنى هذه الرواية التاريخية التي تزعم ان عقبة بن نافع الفهري، قد وصل الى ماست، أثناء غزوه لشمال أفريقيا، ونعثر على مراجع أخرى تشكك وتنفي تجاوز عقبة لجبال الأوراس، في المغرب الأوسط اي الجزائر الحالية، وهناك من الباحثين من يذهب الى ان ما تتحدث عنه النصوص التاريخية لا يعدو ان يكون بعض فرق الاستطلاع التي أرسلت الى المنطقة لأغراض الجاسوسية وتقصي الاخبار، والتمهيد للغزو، ومن بين هؤلاء عبد الله العروي في مجمل تاريخ المغرب.

كما يجب ان نشير الى ان هذه الرواية التاريخية ارتبطت كذلك بمدينة اسفي وهي أقدم إشارة إلى هذه المدينة -حسب الباحث أنس بوسالم الذي أورد أن أسفي[إرتبط] في الفترة الإسلامية بعقبة بن نافع الفهري قائد الجيوش الإسلامية التي فتحت المغرب الأقصى سنة 62هـ/ 681م، فقد وصل إلى ساحل المدينة وأدخل قوائم فرسه في ماء ، وقد تعددت النصوص بخصوصها ننتقي منها نص ابن عذاري المراكشي، 11 المحيط في قصة معروفة والذي جاء فيه: ”وسار عقبة بن نافع حتى بلغ البحر المحيط، فدخل فيه حتى بلغ الماء بطن فرسه، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: يا رب لو لا هذا البحر منعني لمضيت في البالد إلى مسلك ذي القرنين مدافعا عن دينك مقاتلا من كفر بك، ثم رجع عقبة فقفل إلى المغرب الأوسط بعد أن ترك صاحبه شاكر“ ، وشاكر هذا هو صاحب الرباط الذي تحدثنا عنه سلفا. ويشير اليعقوبي في كتابه البلدان وهو كتاب حول الجغرافية، الى ان ماسة قرية على البحر تحمل اليها التجارة، وفيها المسجد المعروف بمسجد بهلول وفيه الرباط على ساحل. وفي هذا الإطار نجد ارتباطا كبيرا بين سيدي وساي وبين سيدي بهلول، وهناك من الباحثين الاوروبين ونخص بالذكر هنا روبير مونطاني من قال ان سيدي بهلول الذي تحدث عنه اليعقوبي هو سيدي وساي مع العلم ان هنالك فرق زمني كبير بين فترة عيش الشخصين تزيد عن القرنين، هذا الخلط انتقده محمد المختار السوسي في كتابه خلال جزولة، الجزء الثاني ص 224 واستغرب من تسمية سيدي وساي بسيدي بهلول وقال لا ندري من أين أتى به الأوربيون لان الرجل نسبه وإسمه معروفان وهو عبد الرحمان الروندي، وقال انه عمري النسبة أي من ذرية عمر بن الخطاب العدوي القرشي من صميم العرب كما يوجد عند من ينتسبون اليه، ولعل ذلك اثبت مما قيل من كونه ركَراكَيا أو من آل يعزى وهدى. ونلاحظ هنا ان محمد المختار السوسي قد راجع نسب عبد الرحمان الروندي، ونسبه الى العمريين. وما يهمنا هنا ان سيدي ن وساي يناسب عصره القرن الخامس الهجري أي انه متأخر عن عصر البهلول المذكور لدى اليعقوبي في القرن الثالث.

وفي هذا الإطار يمكن ان نسجل الملاحظات التالية:

  • المدينة التاريخية أي ماسة القديمة كان موقعها في عالية الوادي، وكان خرابها بعد القرن الخامس ومن غير المستبعد ان تكون هي المدينة التي احتلها المسلمون يوم الغزو.
  • موقع سيدي وساي كان هو كذلك مدينة ساحلية وهي التي ذكرها البكري عام 460هـــ وهي التي تتحدث عنها المصادر التاريخية.
  • الراجح ان سيدي بهلول سابق في وجوده عن سيدي وساي، وينتمي الى مرحلة ما قبل دخول الإسلام الى المغرب، ومن هنا امكن القول ان الكتيبة العسكرية التابعة لعقبة والتي نجحت في التوغل الى سوس، ذهبت رأسا الى هذه المدينة التي تتحدث عنها المصادر الإخبارية الإسلامية، وان كل ما قيل حول وصول عقبة الى سواحل سوس لا يعدو ان يكون تلفيقات خيالية كم اجل إضفاء طابع القوة والجبروت والتمكن للقائد العربي، بما يخدم مصالحه ومصالح اتباعه لدى الحكام في الشرق، فمن عادة القادة العسكريين تضخيم أعمالهم وتحركاتهم العسكرية في ميادين الحرب بما يضمن لهم الاستمرار في مناصبهم.
  • ان الضريح الذي تتحدث عنه المصادر التاريخية والذي رفعت أساقفهه بعظام سمك البالين، هو ضريح سيدي بهلول، وليس ضريح سيدي عبد الرحمان الروندي، كما انه من غير المستبعد ان يكون سيدي بهلول هذا من طائفة البهاليل المعروفة في تاريخ المغرب وتحدثت عنها المصادر التاريخية، كما ذكرت في بعض المخطوطات الفاسية، وخصها أحد ضباط الشؤون الاهلية بدراسة تحث عنوان juifs c’est convertie en islam (وهي دراسة موجودة ضمن وثائق مركز نانت الدبلوماسي، وهي بحوزتنا وسنرجع اليها لاحقا).
  • موضع سيدي وساي الحالي كان عبارة عن مدينة سوسية ساحلية بنيت على المحيط الأطلسي، وكانت بها جميع المرافق، وكانت مدينة تجارية، مزدهرة، قبل مرحلة دخول المغرب في المجال الإسلامي، وكان سيدي بهلول هو وليها الصالح، وكان مشهده مشهدا مقدسا ومزارا معروفا، وتم تجديد المدينة بعد خرابها، وكانت تضم في السابق سوقا رائجة، ومقبرة، وآبار لرفع المياه، وسقي المزرعات في جنان المدينة، وكانت هذه المناطق معروفة في السابق بتجارة العنبر.
  • بعد الفترة الإسلامية احتفظ الموقع بنفس الشهرة والرواج التجاري، وأقيم فيه موسما دينيا وتجاريا، بعد ان دفن فيها عبد الرحمان الروندي في البداية تكريما له وتخليدا لاسمه، كوالي من أولياء الله، ممن أتوا أفعال الخير، كما دفن فيه كذلك محمد التسكاتي المعرف بسيدي محمد، وهذا الأخير عاش في عهد الولى سليمان كما سنرى، وهو من نظم الجيش السوسي وقاده ضد ثورة بوحلايس الذي قام في ايت باعمران، واستطاع التسكاتي وهو تلميذ من تلميذ من تلاميذ سيدي احمد الصوابي، صاحب زاوية اكَدال المعروفة، والغريب في الامر ان قبيلة ماست رفضت ان يدفن سيدي احمد الصوابي في مشهد سيدي وساي، بينما لم تعترض على دفن تلميذه جوار سيدي عبد الرحمان.

لقد اشتهر الكثير من البهاليل في تاريخ المغرب، ومن بين أشهرهم نجد القائد بهلول المضغري أحد كبار رجالات الامارة الادريسية في فاس، وقائد جيوش ادريس الثاني (177-213هـــ). وفي تاريخ المغرب الوسيط نجد الفقيه والعلامة محمد بن يحيى البهلولي، وكان مجاهدا كبيرا وكانت له العديد من المواقف من التسرب الاستعماري البرتغالي الى الثغور المغربية في الشمال والجنوب، أي من اول ثغر على البحر الأبيض المتوسط وهو سبتة الى اَخر ثغر في الجنوب وهو مدينة ماسة، وكان يجهر بمواقفه تلك بكل وضوح وعرف عنه قوته في التصدي الحازم للغزاة الإيبيريين. كما توجد مناطق بعينها تسمى بهذا الاسم وفي هذا الإطار نجد منطقة البهالة في سهل الشاوية ووليها المعروف بقبته سيدي محمد البهلول. كما ان ضريح سيدي ن وساي لم يكن الوحيد الذي ينير الساحل الماسي السوسي، وغير بعيد منه يوجد سيدي الرباط كما سلف ذكره، وسيدي بينزارن عند مجرى الواد، واسمه محند بن امبارك الأقاوي نسبة الى اقا الموجود في سفوح جبال باني التابع اليوم لعمالة طاطا، وقد عاش في القرن العاشر حسب بعض الباحثين، وفي اتجاه الجنوب للساحل الماسي نجد قبة أخرى من القباب الماسية الساحلية ويتعلق الامر بسيدي بولفضايل، وهو مشهد جليل وكبير وصلته مؤخرا ايادي العبث وعبثت به وفعلت بضريحه ما فعلت خين استباحت مكوناته المعروفة والغير المعروفة، وينتسب هذا الولي الى مدشر تيكيوت واسمه الحاج مومن بن موسى التيكيوني الماسي حسب الباحث الحسن الطاوسي. كما تضم قبيلة ماست العديد من المزارات، والفضاءات المقدسة والخلوات المعروفة في المنطقة ب «الخلوة” الخاصة بعباد النساء ومنها واحدة في دوار ايداولون، وهي عبارة عن تجويف تحت ارضي تتخذه النساء مقرا لخلواتهن قصد العبادة. ولا يكاد موقع ومقبرة داخل ماسة وجوار وادها وغايابتها، وساحلها يخلوا من ضريح لولي او ولية صالحة، وفي هذا الصدد وجبت الإشارة الى عنصر الولاية في ماست لا يقتصر على الذكور فقط، بل نجد ان الولاية بصيغة المؤنت لها وجود فعلي في الفبيلة وهنا نذكر على سبيل المثال لا الحصر لالة يامنة بدوار تاسيلا، وللآلة رقية بنت يوسف، وكذلك لالة تيغرمين، إضافة الى لالة رقية أوكَوكَ، وهي شخصية ماسية مشهور كان اهل ماسة يدبحون جوار ضريحا عجلا سمينا… تبركا بكراماتها واصلها الجليل، كما سيأتي ذكره لاحقا. هذا هو المشهد الولائي الماسي، مشهد يزينه ما يربو عن ثلاثين واليا وولية، من اهل الصلاح والمرابطين من أصحاب القبب العالية والزوايا، والمزارات القديمة، والذين شكلوا جدارا رمزيا قويا يسند ظهر القبيلة في سنوات الشدة من طواعين ومسغبات وغيرها من الآفات الطبيعية، ويتولى هؤلاء الاطعام والاستشفاء، والإرشاد الديني والروحي، وتكريما لهم جميعا كتب فيهم الشعر بكل الوانه واوزانه، وغالبا ما يذكرون برجالات ماسة.

اقرأ أيضا

“اللغة الأمازيغية بالمغرب: تحديات البقاء ومخاطر الانقراض بعد إحصاء 2024”

تقف اليوم اللغة الأمازيغية بالمغرب، باعتبارها ركيزة أساسية في تكوين الهوية الوطنية المغربية، أمام تحدٍ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *