أثناء اطلاعي على خبر تبليغ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، جلالة الملك محمد السادس بقرار الدولة الإسرائيلية القاضي “باعترافها بسيادة المغرب على أراضيه الجنوبية ودراسة فتح قنصلية بمدينة الداخلة“، وما صاحب ذلك من ردود أفعال، خصوصا تلك الصادرة عمن يعتبرون أنفسهم حماة الحقوق وحماة العروبة في وطن عربي مفقود. ومن هؤلاء من يعتبر نفسه حام للدين الإسلامي، ومنهم المدافع عن الفلسطينيين، متناسيا حق المغاربة في وطنهم، في زحمة هذه الأحداث تذكرت يوم الخامس من فبراير لسنة 2005، لأنه يوم ارتبط بحدث بقي عالقا في ذاكرتي ولأن المناسبة كانت الذكرى الثانية والأربعين لوفاة محمد بن عبد الكريم الخطابي.
نظمنا، حينها لقاء، نحن فريق من الفاعلين المدنيين الأمازيغ باسم “مجموعة بحث محمد بن عبد الكريم الخطابي“، بتنسيق مع مؤسسة محمد عزيز لحبابي التي ترأسها زوجته فاطمة الجامعي، حول موضوع “راهنية الفكر الإصلاحي لمحمد بن عبد الكريم الخطابي وتفاعله مع قضايا مغرب اليوم“.
في النقاش الذي تلا المداخلات الرئيسية، أدلى الحضور بأفكار وآراء متنوعة ويختلف بعضها البعض. هناك من نسب محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى العروبة ومنها من مزغه، وبين هذا وذاك تدخل أحدهم واصفا، ليس بن عبد الكريم الخطابي فقط بالعربي، بل كذلك الدولة المغربية بالعربية، أرضا وشعبا. وكعادتي لم أستسغ الأمر، لأنه مناف للواقع وللحقيقة أيضا، فالتمست تعقيبا على ما قيل. وفي كلمتي انتقدت من اعتبر المغرب بلدا عربيا لأن المغرب ليس كذلك، والتاريخ والطوبونوميا والواقع يشهدون على ذلك.
وأنا بصدد بسط حججي، إذا بواصف منصور، وهو الديبلوماسي الفلسطيني الذي استقر في المغرب لمدد طويلة، يقاطعني صارخا “اللهم إن هذا منكر، اللهم إن هذا لمنكر، إن المغرب بلد عربي، اخرسي“، فأجبته بكل لباقة على أنه كديبلوماسي، فليس له الحق في أن يعاملني بتلك المعاملة الجافة وقليلة الإحترام، فزاد صراخا وعويلا، مخاطبا السيدة فاطمة الجامعي، آمرا إياها بأن تضع حدا لكلامي، وما كان لي إلا أن واجهته بحقيقة مفادها، أننا في المغرب لنا كامل الحرية في التعبير أولا، والدفاع عن هويتنا الأمازيغية ثانيا، وليس له الحق في منعي، وقلت له إن كنت تدافع عن قضيتك، فأقل ما يمكن أن تفعله، هو أن تتضامن مع قضايا الآخرين، والحركة الأمازيغية إذ تناضل فمن أجل إيجاد حل للقضية الأمازيغية، عكس المنظمات الفلسطينية والعربية التي تتبنى القضية الفلسطينية دون البحث عن حل لها، لسبب بسيط هو أنها تعتبرها وصل تجاري، تقتات منها المنظمات التي تدعي الدفاع عنها”.
تدخل آنذاك السيد ممثل سفارة دولة إريتريا ومصطفى الكتيري المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير يطلبان مني تقديم الإعتذار، ورفضت ورفضت للألف على أساس أنه البادئ، وهو من عليه أن يعتذر أولا، وإن كانت تمنعه عزته العربية، فأنا تمنعني عزتي ونخوتي وأنافتي الأمازيغية لأعتذر لمثل هؤلاء الحاملين والمتشبعين بالأفكار الإقصائية والقريبة إلى العنصرية، فقامت السيدة فاطمة الجامعي سامحها الله بطردنا آنذاك من بيتها الذي كان يستضيف الندوة.
التذكير بهذه القصة في هذه اللحظة بالذات دليل على استمرار وجود ردود أفعال من بعض المغاربة الذين يعتبرون أنفسهم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، من ضمنهم من يدعي حماية الحقوق والحريات، هذه الحماية التي تتلون وجوهها بكل الألوان من عروبة وبعث، وبالمقابل لم نر لها أبدا وجها بلون أمازيغي صاف، بل تعاملت مع القضية الأمازيغية بمنطق تجزيئي، وهذا ما عشناه في الحركة الأمازيغية حين تعنتت أغلب المنظمات، التي تسمي نفسها حقوقية عن التضامن والدفاع عن الطلبة المعتقلين في صفوف الحركة الأمازيغية المحكوم عليهم بأكثر من عشر سنوات، نفس الشيء حدث مع الحقوق اللغوية والثقافية وتم التعامل معها بحذر شديد.
لقد كنت شاهدة على نقاشات تمنع عنا نحن المناضلين والمناضلات حتى إدراج القضية الأمازيغية في جداول أعمال الجمعيات والمنتديات واللقاءات والمؤتمرات التي تنظمها هذه الحركة (الحقوقية)، بل أكثر من ذلك في إحدى المرات، حاولت إحدى المناضلات الحقوقيات بفندق “إيبيس” منعي من التدخل لطرح السؤال حول الأمازيغية بحجة أنه سيفتح المجال لمن هب ودب ليترافع عن اللغة الصينية واليابانية وهكذا دواليك.
نفس الأمر بالنسبة لمن يعتبرون أنفسهم حماة الإسلام ومحتكريه في المغرب فهم الذين استكثروا واستنكروا على الأمازيغ، الإعتراف بأمازيغية مغربنا، ووقفوا سدا منيعا ضد المساواة الصريحة بين اللغة العربية واللغة الأمازيغية في دستور المملكة لولا تدخل العقلاء والحكماء في وطننا الذين وقفوا ضدهم لما كانت العاقبة أشد، وفيديوهات وتصريحات شيوخهم شاهدة على تهكمهم على اللغة الأمازيغية وحروفها تيفيناغ، بل أكثر من ذلك، فإن “كبيرهم الذي علمهم السحر” حتى حين تسلم المسؤولية لم يفكر إلا في الطريقة التي يحول هذه المسؤولية إلى سلطة للتهكم والشعبوية، وعمل ما في وسعه كي يعرقل إخراج القوانين التنظيمية لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية والقوانين التنظيمية للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية.
واستحضر بهذه المناسبة ما جرى بيني وبين عضوة من الحزب المعلوم أثناء مقابلة صحفية، بالإذاعة الوطنية، وكان النقاش حول هذه القوانين، وكنت أمثل آنذاك اللجنة الملكية المكلفة بإخراج مشروع قانون المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وفي نهاية اللقاء قالت بالحرف “راه تعياو ما تقادو فهاد المشروع ملي يجي لعندنا للبرلمان غادي نديرو فيه ما بغينا حيت حنا للي عندنا الأغلبية“. وبالفعل أحيلت تلك المشاريع على الحكومة فغيرت منها الكثير، وأحيلت بعدها على البرلمان، ورفضت تعديلات كثيرة، ولولا انخراط وتفاعل بعض البرلمانيين مع التعديلات التي اقترحناها عليهم، لما خرجت تلك القوانين في حلتها هذه، على علاتها.
إن الوطنية مبدأ ثابت لا يحتمل المزايدات، ولا يمكن مساومتها بمصالح ذاتية ضيقة أو أيديولوجية فضفاضة لا معنى لها. فالإعتراف الإسرائيلي بمغربية الصحراء طبيعي جدا، بل تأخر كثيرا، ونأمل أن يفتح هذا القرار أبواب العقل والمنطق لعدد من الدول منها السلطة الفلسطينية التي لا تتوانى في مغازلة البوليساريو في كل مناسبة، وغيرها من الدول التي لا تزال تُعاكس وحدتنا الترابية، وتحاول تعطيل الحل الجدي والنهائي لهذا الجزء الحبيب من ترابنا، وفي مقدمتها طبعا الجارة الجزائر، هذا البلد الذي نتشارك وإياه في التاريخ والحضارة والثقافة والهوية واللغات… نتمنى صادقين أن تعود إلى رشدها، وتضع حدا لسياستها العدائية تجاه وطننا، وتعلن هي الأخرى الإقرار بمغربية الصحراء سيرا على خطى الدول العظمى.
إن هذا الإعتراف الإسرائيلي الصريح والواضح بمغربية الصحراء، لم يأت عبثا ولا اعتباطا، إنما جاء نتيجة الحنكة السياسية والدبلوماسية التي اتبعها جلالة الملك منذ توليه العرش بخصوص قضية وحدتنا الترابية وفتح النقاش حولها، وأصبح لكل مغربي الحق في إبداء رأيه بخصوص قضيته الأولى، وهو ما دفع المغاربة عبر العالم للتفاعل والإنخراط في الدفاع عنها بدون قيد ولا شرط.
إن الخطاب الملكي الذي وجهه إلى الأمة بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، كان رسالة واضحة للجميع، لا يحتمل أي تأويل، ليس بالنسبة للمنتظم الدولي فقط، بل للمغاربة في الداخل وفي الخارج، حيث قال جلالته “أوجه رسالة واضحة للجميع: إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات“. وعليه فمصلحة الوطن ووحدته أكبر بكثير من أي مصلحة أخرى.
وقديما قال الحكيم الأمازيغي:
ⴳ ⵓⵎⴰⵍⵓ ⵏ ⵜⵉⵔⵔⵓⴳⵣⴰ, ⴰⵖ ⵜⴳⵎⵎⴰ ⵜⵉⵔⵔⵉⵢⵣⴰ
G umalu n tirrugza, agh tgmma tirriyza
في ظل الرجولة تنمو النذالة
صرخة العدد 270-271 يوليوز-غشت 2023/2973– جريدة العالم الأمازيغي