صرخة العدد 297 أكتوبر 2025/2975

أنا ابنة الجبل والهامش، ابنة تلك المسافات الطويلة التي كانت تفصل بين المدرسة والطفلة التي كنتها، انا “تابودرات” ضحية السياسات التي كانت سدا منيعا بين حلم التعلّم وواقعٍ كان يفرض على كثير من بنات جيلي أن ينتظرن فرصة تأتي متأخرة، أو لا تأتي أبدًا.

التحقتُ بالمدرسة العمومية في سنٍّ متأخر، بعد أن قطعتُ مئات الكيلومترات، بعيدًا عن حضن الأم ودفء العائلة. كان ذلك أشبه بالاختطاف، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، من بيئةٍ ثقافية وهويةٍ لغوية إلى عالمٍ آخر، كلُّ شيءٍ فيه مغاير وغريب.

حتى إن ذهني الطفولي البسيط كان يظن أن الجبال التي كنتُ أتسلّقها بسهولة في قريتي لن أستطيع تسلّقها بعد اليوم في عالمي الجديد، لأنها صارت من الزليج والموزاييك. وربما النقطة المضيئة في رحلتي هذه هي اني وعِوَضَ ان أتسلّق، سأتزحلق دون أن أُمزّق ملابسي، كما كان يحدث لنا على صخور قريتنا، حين كنا نتزحلق عليها صغارًا، ثم نتعرّض بعدها للتوبيخ لأننا مزّقنا ملابسنا.

كانت تجربة قاسية وواقعًا عنيفًا على طفلة صغيرة، لكنها لم تكن حالي وحدي، بل مرآةً لمعاناة جيلٍ كامل من أبناء وبنات القرى والجبال والواحات الذين كبروا على الهامش، في انتظار أن تلتفت إليهم الدولة.

تلك التجربة تركت في نفسي أثرًا عميقًا، وجعلتني اليوم أقرأ الخطاب الملكي الأخير بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية بعينٍ مختلفة — بعين ابنة الهامش التي تعرف وجع البعد والتهميش، لكنها تؤمن أن المغرب القوي هو الذي ينصف أبناءه جميعًا، أينما وُجدوا.

جاء الخطاب الملكي واضحًا في دعوته إلى جعل الإصلاح فعلًا جماعيًا تشترك فيه الحكومة والبرلمان والمجالس المنتخبة والمجتمع المدني. غير أن الإصلاح الحقيقي، في نظري، يبدأ من حيث ينتهي اهتمام السياسات العمومية: من الهامش، من المدرسة البعيدة، من الطريق غير المعبّدة، ومن الفتاة التي تحلم بالعلم وسط جبال لا تصلها المدرسة ولا تصلها الحافلات.

لقد آن الأوان لأن نحسم في قضية التمييز الإيجابي لفائدة العالم القروي والمناطق الجبلية والواحات، ليس كمنّة، بل كحقٍّ في الإنصاف والعدالة المجالية. فهذه المناطق ليست عبئًا على الدولة، بل هي قلبها النابض وذاكرتها العميقة، ولا يمكن لأي نموذجٍ تنموي أن ينجح إن لم ينصفها

ولإنصاف هذا المجال الجغرافي الواسع، لا بد من تسريع وتيرة، وتجويد إدراج اللغة الأمازيغية في كل المجالات الحيوية، من التعليم إلى الصحة والإدارة والعدل والإعلام. فهي ضرورة لا تقلّ أهمية عن باقي الإصلاحات، لأن الأمازيغية ليست مجرد لغة تواصل، بل جسرٌ يربط المواطن بهويته، ووسيلةٌ لإعادة الثقة في الدولة. وهذا ما أكده الدستور المغربي حين جعل الأمازيغية شأنًا وطنيًا ومسؤولية جماعية، وما شدّد عليه جلالة الملك في خطبه المتتالية، حين دعا إلى بناء مغربٍ موحّدٍ في تنوعه، عادلٍ في مجاله، ومنصفٍ في لغاته وثقافاته.

إنني، وأنا أستحضر طفولتي البعيدة، أقول بثقة: لا أريد لأي طفلٍ أو طفلة من أبناء الجبل أو الواحة أن يعيش التجربة نفسها. أريد أن يجد الطفل والطفلة المدرسة قريبة، وهما في حضن الوالدين، والمعلمة ناطقة بلغتهما، والطريق معبّدةً لهما نحو السوق والإدارة والمستشفى، ونحو المستقبل.

ذلك هو الإصلاح الحقيقي الذي ننتظره، وتلك هي العدالة التي تستحقها هذه البلاد.

وقديمًا قال الحكيم الأمازيغي:

ⴰⴼⵓⵙ ⴳ ⵓⴼⵓⵙ, ⴰⵢⵏⵏⴰ ⵉⵥⵥⴰⵢⵏ ⴰⴷ ⵢⵉⴼⵙⵓⵙ
Afus g ufus, aynna iZZayn ad yifsus

ما معناه: باليد في اليد يخف ما ثقل.

صرخة العدد 297 أكتوبر 2025/2975– جريدة العالم الأمازيغي

اقرأ أيضا

أمينة ابن الشيخ

صرخة العدد 296 شتنبر 2025/2975

اختتم المغرب صيفًا استثنائيًا على إيقاع المهرجانات الفنية والثقافية التي جابت مختلف جهاته، فكان الوطن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *