يتحدث الأستاذ سعيد بنيس عن فعل المقاطعة بوصفه ظاهرة اجتماعية وسياسية تتجاوز في تجلياتها البعد الاقتصادي المحض، لتتحول إلى ممارسة تخلخل النسق العام، سواء في مستوياته الرمزية أو في تأثيراته المباشرة على علاقات القوة داخل المجتمع. فإذا كان فعل المقاطعة قد ارتبط في السابق بمنطق الاحتجاج المحلي، فإنه اليوم، بفعل التشبيك الرقمي، يكتسب دينامية جديدة تمنحه طابعًا عابرًا للحدود، حيث تتداخل الممانعة الاقتصادية مع أشكال التعبئة السياسية والاجتماعية، ما يضفي عليه بعدًا مركبًا يتجاوز أنماط الفعل التقليدية.
يؤكد بنيس أن المتغير الأساسي في هذا التحول يكمن في الانتقال من النسق الواقعي إلى النسق الافتراضي، حيث لم تعد المقاطعة فعلًا محصورًا في رقعة جغرافية محددة، بل أصبحت ظاهرة دينامية تتحرك في فضاء رقمي مفتوح، مستفيدة من تقنيات الاتصال الحديثة التي تعيد إنتاج مفهوم الاحتجاج وفق منطق جديد. ففي ظل هذا التحول، أضحى الفعل الرقمي ليس فقط وسيلة لدعم المقاطعة الواقعية، بل صار هو الضامن لاستمراريتها، وأحيانًا المحرك الأساسي لها، إذ يتيح آليات تعبئة تتجاوز البنيات السياسية والمدنية التقليدية، ما يمنحه قدرة على التأثير وإعادة توجيه النقاش العمومي.
يشير بنيس إلى أن من أهم مظاهر هذا التحول هو تراجع مركزية الفاعل المحرك للمقاطعة، إذ لم يعد الأمر مرتبطًا بقيادة واضحة أو بهيئة محددة، بل أصبح جمهور الأفراد المنخرطين في الشبكة الرقمية هو المتحكم في إيقاعها. فالمقاطعة لم تعد تُدار وفق منطق هرمي، بل وفق دينامية شبكية مفتوحة، حيث تُنتج سلطة التأثير بشكل لامركزي، ما يعيد رسم حدود السلطة ويزعزع آليات الضبط التقليدية التي كانت تُمارَس على الفعل الاحتجاجي.
كما يبرز بنيس أن فعل المقاطعة يكتسب قوته التفاوضية ليس فقط من خلال تأثيره على السوق أو على العائدات الاقتصادية، بل أساسًا من خلال رمزيته كآلية تحدي للسلطة السياسية والاقتصادية. ومن هذا المنطلق، لا يمكن اختزال المقاطعة في معادلات الربح والخسارة، بل ينبغي النظر إليها باعتبارها ممارسة تسائل النسق العام، وتفتح المجال أمام إعادة تشكيل العلاقة بين المجتمع والدولة، وبين الفاعلين الاقتصاديين والمستهلكين.
ويؤكد بنيس في هذا السياق أن فعل المقاطعة الرقمية يتميز بكونه يتأسس على يقظة ديجيتالية، وليس على تضليل إعلامي أو ترويج للأخبار الزائفة، ما يجعل منه نمطًا جديدًا من التنشئة الافتراضية، يقوم على ترسيخ سلوك الممانعة والاستغناء، بعيدًا عن منطق المواجهة المباشرة مع الفاعلين التقليديين. فالمقاطعة في صيغتها الجديدة لا تسعى فقط إلى الضغط من أجل مطالب محددة، بل تعمل على إحداث تحولات في بنية التفكير السياسي والاقتصادي، من خلال توسيع دائرة الوعي الجماعي وتعزيز حس الفعل المشترك.
من هذا المنظور، يرى بنيس أن فعل المقاطعة ينبغي أن يُقارب باعتباره ممارسة جماعية تتجاوز البعد الاقتصادي إلى رهانات أعمق، ترتبط بإعادة صياغة العلاقات داخل المجتمع، وبمواجهة منطق الهيمنة الذي يسعى إلى ضبط الفعل الجماعي وتوجيهه وفق محددات السوق أو الحسابات السياسية الضيقة. وبهذا، تصبح المقاطعة ليس فقط أداة احتجاج، بل استراتيجية مقاومة رمزية، تفتح المجال أمام إمكانيات جديدة لإعادة التفكير في الفضاء العمومي في ظل التحولات الرقمية المعاصرة.