التجربة التونسية نموذجا
زينات بوحاجب*
مقدمة:
لئن عنونّا دراستنا “بنوع من الاسقاط”، نعترف منذ البداية بعدم دقّته، لإيماننا بأنّ الحديث عن “فن الشارع” في بلاد المغرب، باعتباره تيارا فنيا له رواده ومنظروه وجمهوره مازال مبكّرا، وقد يحمل من المبالغة ما تحمله الظروف السانحة بالتحدّث عنه كموجود بالفعل، من غياب أو تغييب. من هنا، تجدر الإشارة إلى أنّنا سنراوح في مداخلتنا بين الحديث عن فنون الشارع بصفة عامّة -وهي ممارسة عريقة تجد امتداداتها في عروض الدمى والسيرك والفلكلور…- ومفهوم “فن الشارع” بما هو تيّار فني معاصر.
لعلّنا لن نضيف شيئا إذا قلنا أنّ “فنون الشارع” متعدّدة، تتفرع إلى أشكال تعبيرية مختلفة ومتباينة منها الغرافيتي والبوشوار والملصقات(Les srtickers ) والإسقاطات الضوئيّة (projection de lumière)، غير أنّ مفهوم “فن الشارع” لم يحافظ في جوهره على ذات المبادئ التي تبناها في بداياته، فوردت عليه تحويرات مسّت المحتوى، ممّا أوحى إلى عدد من النقّاد بتغيير اسمه ليتماشى المحتوى مع المحتوي. “فن الشارع” ليس فقط عبارة تترجم من الفرنسية مفهوم « L’art De La Rue » ، بل هي تسمية لتيار فنّي نشأ في أواخر الستينات وتطوّر وتحول إلى أن صار الفن الحضري (L’art Urbain). ورغم أنّ بعض النقّاد راوحوا في تسمياتهم بين مصطلحي “فن الشارع” و”الفن الحضري“، إلّا أنّ بعضا آخر ميّز بين حالتين لهذا التيار الفني المعاصر: حالة الخروج عن المواصفات التقليدية للممارسة الفنية والمدفوعة بهواجس نضالية والآخذة لأشكال التمرّد والاحتجاج من جهة، وحالة السقوط في فخ المأسسة والخضوع للمزادات ولعالم صناعة الفن من جهة أخرى.
أمّا فنون الشارع فهي أشمل وأكثر اتّساعا من مفهومي “فن الشارع” و “الفن الحضري” لأنّ لفنون الشارع من العراقة ما قد يعود بنا إلى عصور غابرة مرُورا بصالون المرفوضين (Salon Des Refusés 1863) وصولا إلى الأشكال المعاصرة للممارسات الفنّية خارج صالات العرض مثل البرفورمونسات والهابينينقات لاسيما وأنّ فنون الشارع المعاصرة بشتّى أشكالها منفتحة على المتلقّي والشارع بما يحمله هذا الأخير من نسق وبشر وحجر وحضر وطرق ومعمار…
- “فن الشارع” المفهوم المتحول:
تعود ولادة فن الشارع (Street Art) باعتباره تيّارا فنيا ومنهجا تعبيريا مستقلا إلى أواخر الستينات في نيويورك وقد ظهر كشكل من أشكال التمرّد الذي مارسه محتجون ضدّ العنصرية، وسرعان ما تلت هذه الاحتجاجات المعتمِدة أساسا على الكتابة والحروف، إلى رسومات وتصوير على الجدران وأشكال تعبيرية أخرى كثيرة. وعلى أنّ ظرفية ظهوره في أوروبا ليست هي هي التي تمخّض عنها هذا التيار في أمريكا، إلّا أنّ الدّوافع كانت احتجاجية محضة، فلم تمرّ سنة 1968 على فرنسا مثلا دون أن تخلق الأرضية المناسبة للتأسيس لممارسة فنّية تخرج من رحم المظاهرات والإضرابات والانتفاضات. ومسّت هذه التعبيرات الشأن الثقافي والسياسي والاجتماعي على حدّ السواء. ومن رواد فنّ الشارع نذكر جان مشال باسكيا وبانكسي ومارك جانكينس…
منذ أواخر الستينات إلى اليوم عاش فنّ الشارع في العالم الغربي تبدلات جمّة بأنساق متباينة، غير أنّ عددا من النقاد والمتابعين للشأن الثقافي من مؤرخين ونقاد واستطيقيّين يرى أنّ فنّ الشارع قد انحرف عن السياق الذي جاء في خضمّه والذي من دونه لم يكن ليولد ويستمدّ جوهره، ولا نقصد بهذه التوصيفات غير سياق الاحتجاج والخروج عن المعتاد والتقليدي وخرق الضوابط جميعها: يقول الباحث فانسون كوزسيلوفيتش في هذا الغرض: «إن إزالة أعمال باكسي وايندار من الفضاء العام لتعود هذه الاعمال لتظهر في كاتالوقات البيع في المزاد العلني أمر يجعل أخلاقية هذه الممارسة محل شك”[1] ويضيف: لقد مات فن الشارع وبعث من رماده “فن حضري معاصر”، يبلور نظاما جديدا مقترنا بالتحوّل المجتمعي” [2]
ويرجع انحراف فن الشارع في العالم الغربي إلى نفوذ رؤوس الأموال واستحواذهم على أعمال جاءت أساسا لمواجهتهم ولتقدّم فنا بديلا عن الممارسات السابقة والقواعد الملزمة ولتكون قوة اقتراح لحلول للآفات التي عانت منها المجتمعات الأوروبية، والتي تدور في مجملها حول مبدأ التهميش والتسويف والقمع والإقصاء لفائدة قوى لطالما سيطرت على الساحات الفنّية والثقافية. أمّا هذه الآفات فلن نخوض في عوامل ظهورها وتفاقمها في العالم الغربي لأنّنا في مبحثنا لا نروم الخوض في أسباب انحراف الفنون الغربية عن مساراتها ودخولها مجالات متشعبة من الأزمات والمنزلقات المنقلبة على مفاهيم الفنون لا سيما وأنّها متبدلة في جواهرها كما في مظاهرها. ولكننا سنكتفي في دراستنا بالإشارة إلى أنّ هذه الأسباب تكتسي نوعين من الطبائع، فمنها ماهو نتاج ثقافة إقصائيّة مغروسة أساسا في المجتمعات الغربيّة وانعكس بصفة مباشرة على الإستطيقا الغربيّة، ومنها ما هو وضعيّ نظّمته قوانين واتّفاقات. ولأنّ أرباب الأعمال ومقتفيي أثار المال وصنّاع الساحات يعرفون كيف يحوّلون كل القوى التي تخدم ضدّ مصالحهم إلى قوى تصب في حساباتهم، انحرف فن الشارع عن مجالاته واستُغل ليُباع المنتوج الموجّه أساسا إلى العموم، في المزادات العلنية لخواصّ، فيتحوّل بذلك من فن الشارع الى “الفن الحضري المعاصر” ويوضح الباحث فانسون كوزيلوفيتش : ” انزلق “فن الشارع” نحو المأسسة في تَبَرْجُز واضح، إنّ النظرة الرومنسية لفنّ يعيش خارج لعبة السوق قد شابها اليوم انحراف واضح[3].”
لم نقدم هذه اللّمحة عن نشأة فن الشارع والفُوَيْرقيْن البسيطين اللذين يشوبان اسم التيار الفني إلّا لاعتقادنا الراسخ بأمرين هامين نستقيهما من تعريجنا على هذا التقديم المختزل. فأمّا الأمر الأول، فيتعلق بفكرة أنّ ماضي فن الشارع في العالم الغربي لا يشبه واقعه، إلّا أنّ ذلك لا يمنعنا من والاستئناس بمثل هذه التجارب والاستفادة منها، وهي التي لعبت دورا في تغيير الواقع وزحزحة عدد من الموروثات والبديهيات المهترئة ودمقرطة الفنون وتقريبها أكثر فأكثر من المتلقي، لا سيما وأنّ ظرفية نشأتها تحملنا على التساؤل عن مدى التشابه بينها وبين الغليان المجتمعي والتغيرات التي تعيشها المجتمعات المغاربية وفي إطار التطوّرات الجيوسياسية والسوسيو ثقافية والصراع الثقافي بين الأصيل والمسقط، خاصة إذا طبعه السواد والظلام، في آن؟ أمّا المسألة الثانية التي نروم أن نشير إليها في هذه الدراسة التي لا نقدّم فيها سوى مجرد تفكّرات وتأملات تنفتح على النقاش وتستدعي المتلقي ليساهم في بنائها وتطويرها والإضافة لها وعليها فترتبط بفكرة أنّ فنون الشارع لا تحيلنا بالضرورة إلى الفنون الاحتجاجية والمواقف الصلبة ودليلنا في ذلك ما آل اليه وضع فن الشارع وتحوّله إلى “الفن الحضري المعاصر” كما يسميه الباحث “كوزيلوفيتش” والعكس صحيح.
إنّ الفنون عندما تتخلى عن تلك “الحاجة الداخلية” -والعبارة لكاندانسي- تصبح في اعتقادنا صنعة وصناعة، من أجل ذلك وفي تناولنا لموضوع فن الشارع نودّ بادئ ذي بدئ، أن أشير إلى أنّ ولوج مثل هذه المواضيع يوفّر بالنسبة إلينا فرصة لنسوّق لرأي ذاتي حاولنا أن نبنيه على منطق متماسك وهو بالتالي لا يدعي المعرفة بالحقيقة المطلقة والحلول النهائية أمّا هذه الفكرة التي تسكننا فهي: مسألة بناء “استراتيجية فن الشارع وضرورة تحول ممارسات الفنانين في الشارع الى توجّه ومشروع بديل عن الحلول التقليدية”، وسنفسر هذه الفكرة في عنصرين اثنين يهتم العنصر الأوّل بنجاعة “فن الشارع” مع مجتمعات جلّ الفنون عندها “دنيا”، ويُعنى العنصر الثاني بأهميّة فن الشارع بالنسبة إلى الفنان التونسي المهمّش اجتماعيا والمتمرّد العنيد الرافض للخضوع والوصاية.
ولكن، قبل ولوج هذين العنصرين المذكورين، نعود على مسألة الأسماء ومدى دقّتها، ونطرح تساؤلا جوهريا يقوم عليه تصوّرنا: ” هل يمكن الحديث عن “فن الشارع” في بلاد المغرب؟ ” بعبارات أخرى هل أنّ الممارسات المتفرقة والمعزولة قلبا وقالبا، والتي يمارسها بعض الفنانين هنا وهناك ترتقي إلى توجّه عام وتيار فنّي تخوض فيه عديد التجارب التي تراكم نفسها وتطورها وتتواصل بينها وبينها وتجد من يؤسّس وينظر لها، فتتنظّم في مجموعات أو في مشاريع تقنّنها وتساعدها لوجيستيّا لترتقي إلى “التجارب المرجعية” والتي من شأنها أن تستحيل إلى حجرات الأساس لبناء فن تشكيلي تونسي ذي مورفولوجيا وأعلام وفكر ومنهج معلوم؟
لا شيء يجعلنا نعتقد أنّ “فن الشارع” في بلاد المغرب عموما وفي تونس بصفة أشد تخصيصا تيار تخوض فيه تجارب ومسارات فنانين هاجسهم الشارع :أنساقه، نبضه، مشاغله، مكوناته اختلافاته…فحتّى المحاولات ومنها ماهو جدي ومميّز في تصورنا المتواضع (ولا ندعي أنّنا على اطلاع كامل على كل التجارب الفنية التي ولجت مثل هذه الأراضي الوعرة)، بقي معلوما لدى النخبة لا إعلام يسوّق له ولا دراسات كافية تتناوله بالتحليل والنقد، ولا توثيق يمكن الرجوع عليه لاستيعاب انشائيّة إبداعه، ولا حتّى تجارب تراكم عليه. فنحن في البلدان المغاربية لسنا بصدد “فن الشارع” بل إزاء اختراقات للشارع مدفوعة برغبة داخلية للفنان، أو بـ”كوموندا” لتزيين الشارع تقدّمها بعض الجهات المسؤولة فتحدّد المكان والزمان والموضوع وهو أمر معمول به في أرجاء العالم لكن البدعة عندنا هي التدخل في تفاصيل العمل الفني وانشائية إخراجه للنور وأحيانا أخرى يمتد هذا التدخل إلى التوصية بتجميله ببعض الورود حتى يصيرا “مألوفا”. ونعود على العنصرين اللذين ينبني عليهما تصورنا حول “استراتيجية التنظير لـ”فن الشارع” في بلاد المغرب على الرغم من كل هذه العراقيل التي تحول دونه و الفنان المغاربي” .
- نجاعة “فن الشارع” مع مجتمعات جل الفنون عندها “دنيا” :
على الرغم من أنّ البلدان المغاربية معروفة تاريخيّا بعدم فصلها بين الفن والفكر وبين الجمال والحياة وقد كتبت أطروحات في هذا الغرض معتمدة على شهادات كثيرة أكّدت فكرة امتزاج الفنون بالعمل والممارسات اليومية لدى المجتمعات المغاربية إذ يقول اوجين دولاكروا متحدثا عن المغاربيين مثلا:” إنّ الجمال عندهم يتحد مع كل ما يفعلونه.”[4]، فإنّنا نرى أنّ هذه الفكرة ليست دقيقة بالقدر الكافي لنعتمدها كمسلّمةّ، خاصة إذا ما تأملنا تعامل هذه المجتمعات مع الروائع الفنية ولعلّنا هنا نشرّع الأبواب على خروقات لا تحصى ولا تعد ترتقي أحيانا إلى الجرائم في حقّ التّراث العالمي وليس فقط المغاربي. ولن نطيل البحث عن هذه الخروقات وسنكتفي بتعداد بعض التلوّثات البصرية في البلاد تونسية والتي تجول بخاطرنا في وقت كتابتنا لهذه التفكرات والتي يمكن أن نجد لها امتدادات شتّى في بقية البلدان المغاربية: ولعلنا لا نستذكر مشهدا أكثر نشازا من متاخمة المسرح الروماني في مدينة “الجم” (ولاية المهدية) وهو رائعة من روائع القرن الثاني ميلاديا لمنازل ملتصقة به مباشرة وهي لا تمتّ له من حيث السياق المعماري والاستطيقي بشيء، ولو قارنّا تعامل المجتمع التونسي والدولة التونسية بتعامل دول أخرى مع موروثاتها الفنية لتضاعف خجلنا خاصة وأنّنا نمتلك ما يفتقده الأخرون ولكنّنا لا نثمّنه ولا نحسن التسويق له ولا نعرف كيف نعطيه قيمة مضافة. ولو استأنسنا باستراتيجية الدولة الفرنسية في هذا الشأن سنرى كيف أنّها لا تكتفي بالتسويق لمثل هذه الروائع عبر البيوت الفرنسية في كل البلدان بل وكل المدن الكبرى مؤطرة لها ملحقين ثقافيين ملمين إلماما كاملا بتاريخ الفن وبالروائع القديمة والحديثة والمعاصرة وبجديد الساحات الثقافية فلا تكتفي هذه الدولة بمهمّة الترويج لثقافتها، بل تتجاوز ذلك عبر التعمّق في توفير الجوانب اللوجستية فتستحيل هذه الروائع الى “أساطير فنية” نصدّقها وننبهر بها ونقف عندها مذهولين في حين نمرّ على الروائع التي نملِكها ولا نتملَّكها مرور الكرام.
ولا يلقى معلم “يونقا” في صفاقس حظّا أوفر، فهو مغمور متروك إلّا من شويهات تسرح فيه ورعاة يلقون الحجارة التي تساقطت عن البنيان بعيدا حتى لا تعيق حركة الشويهات .ولعل الحال عينها بالنسبة إلى عديد المعالم الفنية المعمارية، بل ينسحب ذلك على الفنون الأخرى والمعاصرة ويكفي أن نتذكر ما كان يمكن أن يؤول اليه أحد الأعمال الجداريّة للفنان زبير التركي لولا تحرّك المجتمع المدني(انظر الصورة[5])، ويكفي أن نتصفح بعض الصحف التونسية حتى نقرأ عن منع الفنانين من ممارسة الفنون في الشارع بحجة أنهم لم يحصلوا على رخصة ويمكن أن نستحضر حادثة لم يمر عليها الكثير من الوقت، إذ تعرّضت الفنانة العازفة التونسية ياسمين عزيّز إلى المنع من العزف في ساحة القصبة وهي تحاول تقريب ثقافة البارفورمونس وفنون الشارع إلى عامة الناس. وعن هذا المنع قالت عازفة الكمان العالمية ياسمين عزيز في تصريح لأحد المجلات الالكترونية:” إنّ هدفها من خلال قيامها بتقديم عروض عزف في الشارع لفائدة المواطنين هو إبراز أهمية فنّ الشارع وترسيخ هذه الثقافة في بلادنا على غرار الدول المتقدّمة التي يتجمع الفنيان في ساحاتها الكبرى لتقديم عروض. وبيّنت ياسمين عزيز أنها تعرضت مؤخرا للمنع من العزف في ساحة القصبة من قبل أعوان الأمن.”[6] أمّا بعض الفنانين الآخرين فقد كان حظهم أسوأ فقد واجهوا ويواجهون السجن أو/و التعنيف…
ليست هذه الأمثلة إلا غيضا تونسي من فيض مغاربي يعيشه الفنان المغاربي بدرجات متفاوتة ، تُذكر ولا تُحصر لتزيدنا اعتقادا أنّ كل الفنون دونية في مجتمعاتنا المغاربية إلّا أنّ فنّ الشارع هو الأدنى منزلة، ربما يرجع ذلك إلى أنّ هذا النوع من الفنون ولد منذ الأساس دونيّا في العالم الغربي إذ يقول الفنّان الأمريكي المقيم في فرنسا عن بداياته في الولايات المتحدة : “في ثمانينات القرن الماضي كان تصويري بمثابة عمل تخريبي وكفن منحط. وكان ينظر إلى جيلنا كالمتسكعين المرافقين لكلابهم. ولقد كان فنّنا مهمّشا[7]”
وأمام هذا التهميش لـ”فنون الشارع” بصفة عامة وغياب “فن الشارع” باعتباره تيارا فنيّا في الساحة الثقافية المغاربية، بصفة خاصة، تبدو هذه الممارسات الفنية أكثر الفنون نجاعة في مناخ متفجر كالذي تعيشه تونس وبصدده جل البلدان المغاربية بل وحتى الدول العربية والغربية أيضا، وفي ظلّ أوضاع جيوسياسية تحمل ما تحمل من التهديدات الخطيرة والمرشّحة إلى التحوّل إلى واقع بالفعل، في غياب ما يسدّ ثغرات التصحّر الثقافي والفكري الذي كرسته السياسات القديمة وغذّته فترة انحطاط سبقت فترة الاستعمار وتدعّمت به ولم يبرحها المجتمعات المغاربية نهائيا في ظل الأنظمة الديكتاتورية. وتحيلنا هذه الفكرة على السبب الثاني الذي يدعم فكرة “استراتيجية” التعويل على فنون الشارع للانفتاح على المتلقي المغاربي أوّلا ولكن حتّى الزوار القادمون من خارج الثقافة المغاربية، وأمّا هذا السبب فيتعلّق بعزوف المجتمعات المغاربية عموما، ومنها المجتمع التونسي، عن زيارة صالات العرض ومتابعة مستجدات الفنون التشكيلية، رغم أنّ تاريخ الفنون التشكيلية في تونس مثلا يعود إلى عقود كثيرة أي منذ الاستعمار الفرنسي، إلّا أن علاقة المغاربيين بالفنون التشكيلية مثلا لم تتوطد بالكيفية المأمولة. أما الحجة الثالثة التي تجعلنا نعتقد أنّ فنّ الشارع بديل استراتيجي للممارسات الفنية الأخرى هو معطى مُرّ ولا يمكن التغاضي عنه، وهو قلة صالات العرض في بعض المدن وانعدامها في معظم القرى والأرياف.
- أهمية فن الشارع بالنسبة إلى لفنان المغاربي المهمش اجتماعيا والمتمرّد العنيد الرافض للخضوع والوصاية:
رغم كل مزاعم الحكومات التي تدور حول فكرة دعم الفنان وتبجيله وتشجيعه فإنّ واقع الفنّان التشكيلي على وجه التخصيص يشكو هنات كثيرة نكتفي بالتركيز على ما يتعلق منها بالجوانب اللوجستية فنشير إلى أنّ الفنانين التشكيليين لا يعاملون كمفكّرين بل كصناع صور(Faiseurs D’images) لا يُعترف بهم ولا يستدعون إلّا إذا راقوا لصنّاع القرار وخضعوا إلى رغبات السياسيين حكاما أو معارضة، زد على ذلك أنّهم مطالبون بتقديم آيات الولاء للوبيات الثقافة، وهو ما يجعل مصداقيتهم وحريتهم على المحك، وفي غياب المساعدات اللوجستية يجد الفنّان المغاربي نفسه غائبا إعلاميّا ومهمّشا اجتماعيّا في حين تجدُ الرداءة في كثير من الأحيان مرتعا لها في وسائل الاعلام العموميّة والخاصّة على حدّ السواء هذا بالإضافة إلى قصور الفنان التشكيلي المغاربي ماديّا عن تغطية مصاريف بحوثه الفنية المكْلفة بطبعها فما بالك بتغطية نفقات كراء صالة يعرض فيها تجاربه التي لا ترتادها إلّا النخبة، ناهيك عن أنّها غير متوفّرة في حالات وفيرة. من هنا، يكون “فن الشارع” مهرب الفنان من مأزق الوساطة المكلفة والتبعيّة والتقزيم واختزال دوره إلى ماهو ممارساتيّ تؤثّث به أجندات سياسية أو ثقافية هي حكر على من هم صناع القرار…
وفي ختام مقالنا نقول: إنّ “واقع” فنّ الشارع في بلاد المغرب بصفة عامّة ليس إلا ترجمة لاختراقات منفردة للشارع من قبل فنانين أرادوا نسج مشاريع علاقات وتقاطعات بين الفن والجمهور والشارع، فأنتجت هذه المحاولات اتّصالاتٍ وانفصالاتٍ، هي مخرجات علاقة شارع بــــــــــفن، أي علاقة كيانين مازالا لم ينصهرا في كيان واحد، أمّا الآفاق فهي منفتحة على الاحتمالات جميعها فإمّا على “فن الشارع” بالفعل أو على “الفن الحضري المعاصر” أو على عقيدة جديدة هي عقيدة ثقافة المقاومة ومطاوعة نسق التغيّرات حدّ الاستيعاب ومن ثمة تطويع الشارع لما هو أكثر وعيا وأشد تماسكا.
*أستاذة مساعدة للتعليم العالي بصفاقس في الرسم ونظريات الفنون
[1] La morale est mise en doute lorsque des œuvres de Banksy et Invader sont retirées de l’espace public pour réapparaitre dans des catalogues de vente aux enchères
[3] le Street-art glisse vers une institutionnalisation tout en s’embourgeoisant; la vision romantique d’un art évoluant hors des champs spéculatifs du marché s’est pervertie.
[4] « La beauté s’unit à tout ce qu’ils font », Delacroix (E.) « Les plus belles pages », Ed, Mercure de France, Paris, 1963, p.96.
[5] صورة للعمل الجدري للفنان زبير التركي قبل ان تتم ازاله
[6] http://ar.tunivisions.net/172573/article/aao-n-lamn-ymnaaon-aa-zf-lkm-n-laa-lmy-y-smyn-aazyz-mn-laazf-fy-s-h-lksb-athn-tkdymh-laard-llmo-tnyn-fy-t-r-fn-lsh-raa.tnv
[7] « Dans les années 1980, ma peinture était considérée comme du vandalisme, de l’art dégénéré. Notre génération était vue comme ces punks à chiens que l’on croise aujourd’hui devant le Franprix. Notre art était marginalisé ». John Andrew Perello, extrait d’une interview intitulée JonOne: “Pourquoi le street art devrait-il rester dans la rue et les ghettos?”, L’express, Propos recueillis par Julien Bordier, publié le 12/06/2016,
رائع يا زنات واصلي تألقك انا واثق من امكانيّاتك ومن مقدرتك باتوفيق
un texte profond bravo pour l’auteure et pour la revue.