كتبت السنة الماضية عن شريط أمازيغي عنوانه «مرسول البحر»، وقلت إن فيه احتقارا لذكاء المتفرج الأمازيغي. قلتُ «احتقارا»، عزيزي القارئ، نعم. وسيكون رائعا لو توقفتَ لوهلة عند هذا اللفظ. لست صحفيا أريد الاستدراج والتشويق. لقد كان مطمحي، حينها وما يزال، وأنا أعرض ما يكفي من الحجج، أن يقف المتتبع و«الداعم المؤسسي» عند هذا اللفظ تحديدا، وأن يحمله، ولست أبالغ، على دلالته القاسية التي أقصدها تحديدا.
بالأمس، تابعت شريطا أمازيغيا عنوانه «المانضة» (إخراج حكيم قبابي، 2020)، يزكي ويكرس هذا الاحتقار، ويزيد إليه مشاعر أخرى، يحتاج وصفها مقالا آخر. لكن قبل ذلك، لا بد أن أشير أني سأكتفي، في حدود هذه القراءة الموجزة في الشريط، بالمستوى الفيلمي الداخلي، بحصر المعنى، وذلك وفق تحليل عابر. وهو في حقيقة الأمر أقصى ما يمكن أن يتناوله أي قارئ أو ناقد، لأن الشريط المذكور فارغ تماما من أي محتوى تيماتي مفترض يمكن أن يرمي إليه. إذ لا خلفية توجهه ولا رؤية فنية أو فكرية تقف خلفه، بما في ذلك تلك الخلفية الأخلاقية البسيطة التي قد تدفع متلقيا من الجمهور الواسع إلى استخلاص عبرة ما، خاصة وأن شخصيات الشريط تأتي تصرفات منبوذة مجتمعيا (السرقة، وإدمان القمار والخمر..).
هي قراءة «مدرسية» غاية في البساطة من منظور الأدبيات النقدية، لكنها تكشف الدرجة السفلى من المعنى، التي يمكن أن يُدفع إليها النقد، بسبب ضعف المنتوج. هذا، وينبغي أن أؤكد أني لا أنتظر من هذه المتابعة النقدية أي رجع صدى، فقد كتبت في الموسم الماضي مقالات مواكبة، اتضح لي أنها كانت مجرد صيحة في واد. لكن ذلك لن يحبط رغبتي في مواصلة المتابعة النقدية للإنتاج الدرامي الأمازيغي، وفي متابعة التعبير عن تقديري لمستويات الإبداع الأمازيغي وأعطابه. كما أن إصراري على إحاطة هذا الشريط بهذه المتابعة، رغم هزاله الفني، مدفوع برغبتي في التفاعل العملي مع أصدقاء ومتتبعين لا يتوانون في الدعوة إلى تكريس تقليد المتابعة «النقدية الهادفة» في ساحة الإبداع الدرامي الأمازيغي. أرجو، إذا، أن توضع هذه المحاولة في خانة هذه المتابعات المأمولة.
- لماذا “عرس بوقيـوع”؟
يجب أن أشرح لغير الريفيين دلالة التعبير، أولا. إنه تعبير مثلي (Locution proverbiale) أفضت إليه واقعة ملخصها أن مغفلا يدعى بوقيوع، لا أهل له ولا أصحاب. قرر الزواج. فركن المسكين يوم عرسه في البيت ينتظر أن يؤتى إليه بالعروس، تاركا المدعوين وغير المدعوين يفعلون من يشاؤون، حيث يتولى كل واحد أمر البحث عما يأكله، وخدمة نفسه بنفسه، قبل أن يشرع كل واحد من هؤلاء في الرقص منتشيا، وبمفرده، على نغم غير موجود إلا في خياله.
شريط «المانضة» محاكاة لهذا العرس. وإذا شئتم، محاكاة مزدوجة لهذا العرس. فهو من جهة أولى، عمل فاقد لأي تصميم أو مخطط قبلي، إلى درجة أن المتفرج قد يشعر أحيانا أن الممثلين قد تُركوا لشأنهم، يفعلون ما يريدون، وأن تتابع الأحداث مفتوح على أي حدث ممكن أو متخيل. وهو من جهة ثانية «عمل إنتاجي» عبثي، يعطي الانطباع كما لو أن حال الإنتاج الدرامي الأمازيغي المدعوم أشبه بحال «عرس بوقيوع»، حيث لا حسيب ولا رقيب.
- خطايا المعمار الفيلمي:
يصعب حصر الخطايا ومواطن الاختلال في بناء أحداث هذا الشريط، فهي كثيرة يحتاج التأشير عليها، حسب تقديري، وقتا وجهدا يمكن توفيره لانشغالات أخرى، لا سيما وأن الشواهد التي سآتي على ذكرها تكفي لتلمس الدعوى التي أعرضها في هذه القراءة. دونكم، إذا، بعض الملاحظات السريعة:
- نحن إزاء قصة مهلهلة لا يتعلق فيها سابق بلاحق إلا بكثير من التعسف وتغييب المنطق: واقعيا كان أو عجائبيا؛
- يتضمن الشريط مشاهد كثيرة ممطّطة بدون غاية: – يتوقف السي محمد بدراجته في مشهد مستقل (دقيقة)، ويتصل بالهاتف للسؤال عن حبيبته (عبلة). لا تجيب. يتابع طريقه. ماهي وظيفة هذا الاتصال وسط بناء السيناريو؟ المخرج فقط وحده يعلم.- تفشل المتبارية (لبنى) في مسابقة اختيار البطلة الرياضية، فيحتج حبيبها (حكيم) ويصعد إلى الخشبة، حيث يشرع بدوره في الغناء!! (ألم أقل إنه عرس بوقيوع؟)- مشهد إبراهيم وابنه بعد فشلهما في استرداد الساعة من علال (أربع دقائق)- مشهد حفل الخطوبة في ختام الشريط. يظهر من تمطيط المشاهد وجود اعتلال غريب في مسألة القدرة على تمييز الإيقاع الخاص بالفيلم عن ذاك الخاص بالمسلسل (ثنائية المونتاج والزمن- أسرع/ أبطأ)…؛
- الفيلم عبارة عن سلسلة من المصادفات العرضية (تقبل، في العادة، مصادفة واحدة على الأكثر في الفيلم): -ظهور السي محمد بالدراجة لحظة إقدام أخيه على سرقة. -خروج حكيم لبيع الهاتف المسروق وسعيه إلى بيعه لأحدهم، قبل أن يكتشف أن هذا الأخير هو أخ صاحبة الهاتف…؛
- اللجوء إلى الحلول السهلة (Deus ex machina) (أو نزول الآلهة إلى الخشبة بالتعبير اليوناني): -ثقة زبون المحاسب في كفاءة السي محمد وتكليفه بإنجاز مهمة مقابل مبلغ مالي محترم، رغم أن اللقاء حصل مصادفة في مكتب المحاسب- صعود حكيم (بصوته الأجش) على الخشبة رغم أنه غير مستدعى للمسابقة، ومشاركته فيها، بل وفوزه بها: هذا الأخير «موتيف» عتيق مأخوذ بطريقة ممسوخة من بعض الأفلام الهندية التي أنتجت خلال سبعينيات القرن الماضي.
- مجزرة المعقولية:
تتوالى أحداث الشريط التي تفتقر إلى أدنى شروط المعقولية والإمكان، في حدودهما الدنيا، من قبيل:
- يقضي إبراهيم (مدمن القمار والخمر) بعض وقته مجالسا رفاقه في منزل محروس من قبل عناصر خاصة، حيث يلعبون «الورق»، ويحتسون كؤوس الشاي! (من السهل جدا خلق مشهد بديل يظهر أن الرجل يشرب الخمر، مع احترام سقف «الذوق الثقافي» الذي تفرضه عمومية البث بالقناة)؛
- قيام الأبناء اللصوص بإخفاء مسروقاتهم بأماكن يسهل الوصول إليها (خرق القاعدة الأولى في منطق اللصوصية، وعبث بأول دروس الدراما البوليسية التي تقول إن عرض أي مبحوث عنه بشكل ظاهر، يخفي فخا وراءه)؛
- يقوم السي محمد بإعادة المسروق إلى صاحبته، وعوض أن تفرح المرأة بذلك، وتبادر إلى مكافأته كما يقضي بذلك الذكاء المشترك، فإنها تصرخ وتحاول إلقاء القبض عليه؛
- يربح إبراهيم ساعة ثمينة (كيف؟)، قبل أن تسرق منه من قبل علال (كيف؟). يلاحظ أن هذا الحدث قد تم زرعه بشكل افتعالي (Factice) مفاجئ لتعويض مال الأجرة الذي صرفه إبراهيم في القمار؛
- نحن أمام بائع دجاج لص! وبدون أي تفاصيل أخرى، سابقة أو لاحقة، تدفع لاستيعاب الأمر وفهمه؛
- يطلب من ربيع أن يسرق من علال الساعة التي سرقها بدوره من إبراهيم، ورغم أن علال لص أيضا، وقد هدد قبلا إبراهيم وابنه بالسكاكين، وأن الساعة كان يضعها في معصمه، فقد استطاع الفتى (الخارق) أن ينتشلها منه (لا يشاهد المتفرج إلا نتيجة العملية، أما كيف، فإن ذكريات «بوليود» بالأسود والأبيض تشرح ذلك!)؛
- خطأ في موقعة المكان الذي يحتضن أحداث الفيلم:
يتم إظهار مسجد الحسن الثاني، كما يأتي في حوار إحدى الشخصيات (ربيع) حديثه عن الترامواي، بينما نسمع من الشرطي (حسن) حديثه عن وقوع المنزل بحي لعري ن الشيخ (الناظور).
- مزج الكوميدي بالتراجيدي بطريقة مشوهة:
تعاني إحدى بطلات الشريط (لبنى) من السمنة المفرطة، وتحرص على المشاركة في إحدى مسابقات الاستعراض الرياضي، بعد أن تجري تمارين مكثفة (في غضون أيام!). واضح أن الغاية التي وجهت السيناريست أو المخرج هي خلق تركيب يجمع بين السخري والتراجيدي. وقد كان ممكنا استيعاب ذلك والاستمتاع به لو تم إبقاء وهم «امتلاك الرشاقة في غضون أسبوع» في ذهن الفتاة فقط، أما أن يجاريها حبيبها، وأن يتولى عن طريق السرقة توفير المال الكافي لمساعدتها على تحقيق ذلك (حافز يحرك أحداثا متلاحقة)، وأن يقبل المدرب بمهمة تخسيسها وإكسابها الرشاقة، وأن يرافقها حبيبها للمشاركة في المسابقة، معتقدا أن المدرب قد نجح في مهمته، وأن يطمع في فوزها؛ هذه السلسلة التي تكسر كل منطق واقعي أو «فانتازي»، تضعنا إزاء تصور «ما قبل طفولي» لآلية الخرق واللامعقول.
- أعطاب الحوار:
نحن بعيدون، هنا، عن استدعاء شرط البوليفونية (تعدد الأصوات بالتعبير الباختيني) الذي يفترض أن يتحقق في كل عمل فيلمي أو سردي؛ لأن ذلك من قبيل الترف في حالة هذا الشريط وكثير غيره من الأشرطة الأمازيغية والمغربية. نحن نبحث في هذا الشريط، بالكاد، عن حوار يخرج مفهوما من ألسن الممثلين، منسجما مع تقاسيم الوجه وحركات الجسد. وأقصد هنا، تحديدا، اعتماد ترجمة وظيفية لحوارات السيناريو المكتوبة بالدارجة في الأصل، وكذا إقدام فريق الفيلم بالزج بممثلين غير ناطقين بأمازيغية الريف بالفطرة (Locuteur non–natif) (إحدى جارات الأم عائشة)، أو غير ناطقين بالأمازيغية بتاتا (علال بائع الدجاج، الذي يلجأ لتحريك رأسه للدلالة على الرفض، عوض التعبير بإشارة لفظية)؛ كل ذلك مدفوع، طبعا، باعتبارات إنتاجية تقتيرية صرفة.
- جوانب فنية أخرى:
لا يعكس الشريط أي اجتهاد على مستوى التصوير، إذ يعمل بمبدإ «الجهد الأدنى» في أرقى تجلياته، سواء على مستوى التأطير وتوالي اللقطات، أم على مستوى الإحجام عن توظيف تقنيات التصوير الحديثة (أجهزة وتأثيرات). والشيء نفسه ينطبق على الموسيقى التصويرية، التي لم يتم اللجوء إليها إلا مرة أو مرتين على طول ساعة ونصف. وهو ما زاد من إفقار الشريط على مستوى إمكانية إحداث تأثير انفعالي، وقد كان ممكنا تعويض قدر معين من البرود الإنساني- الانفعالي الفظيع، الناشئ عن الاختلالات الفنية المذكورة، بتوظيف إبداعي لموسيقى تصويرية أصيلة.
- نقطة ضوء في نفق مظلم:
يجب أن أقف على نقطة إيجابية في هذا الشريط، كنت قد أثرتها سابقا، بخصوص أداء كثير من الممثلين الريفيين. لا بد من القول إن كمال مخلوفي (بوزيان) قد نجح في تقمص دوره بكثير من الصدق والإتقان، إذ نجح في تكسير الصورة النمطية التي رسمها لنفسه، مبينا علو كعبه في مضمار الدراما كما في الكوميديا. فاروق أزنابط استطاع، بدوره، أن يبصم على أداء جيد، مستفيدا من خبرته الطويلة في الميدان. الشيء نفسه ينطبق على مريم السالمي، وعبد الله أناس وياسين بوقراب، وإن كان ممكنا تحسين أداء الثلاثي الأخير لو تم «تملّكهم وإعادة تركيبهم» حسب تعبير غودار، وفق إدارة ممثل نشيطة أو تصور مسبق قائم في ذهن المخرج.
على سبيل الختم؛
يضعنا الهزال الفني الذي يعكسه الشريط أمام الملابسات العامة التي تحكم نسق الإنتاج المدعوم في مضمار الإعلام العمومي. وهو نسق قلما يولي بالا لجودة المنتوج، فبالأحرى أن يراهن على تجويد الذوق الفني للمشاهدين. عشرات الإشارات الفنية والإنتاجية تعطي الانطباع بأن التعامل مع الإنتاج الأمازيغي لا يتم وفق شرط الجدية ووفق قاعدة احترام المتلقي الأمازيغي. عشرات الإشارات، أيضا، تكشف عن «تقتير إنتاجي» متطرف، يحرص أصحابه على ادخار أقصى المبالغ من ميزانيات الدعم المرصودة. هذا وذاك هو ما قصدته بلفظ الاحتقار. «راه غير بالشلحة، وصافي»، هذا هو لسان حال القيّمين على هذا الضعف الذي يميز كثيرا من الأعمال الدرامية الأمازيغية. أما لسان حالي ومنتهى غايتي، فليس إفساد العرس، بل محاولة إيقاظ «بوقيوع» من غفلته.
جمال أبرنوص
أستاذ باحث- كلية الآداب، وجدة