بقلم سعيد باجي*
“جرت مراسيم الجنازة في تاملاكت بحضور حشد كبير من الزيانيين( الخاضعين وغير الخاضعين) المتصالحين في المصاب المشترك… من القصر الذي كان شاهدا على العديد من الأحداث إلى المقبرة المتواضعة التي تدل عليها شجرة عرعار منكمشة انتشر آلاف الرجال والنساء الحزينين ورؤوسهم مغطاة بقبعات جلاليبهم وثيابهم ملطخة بالطين التقليدي لأيام الأحزان والمصائب..”، بهذه العبارات وصف القبطان سعيد كنون مراسيم تشييع جنازة الزعيم موحا أوحمو الزياني في تقرير استخباراتي والذي ضمته، مع تقارير أخرى، مصلحة الشؤون الأهلية للمغرب ، عن منشورات لجنة أفريقيا الفرنسية باريس عام 1929، في كتاب ” الجبل الأمازيغي، أيت أومالو وبلاد زيان( المجال والإنسان والتاريخ)” والذي أعادته إلى الصدور السنوات الأخيرة منشورات “الزمن” في الصيغة المعربة التي قام بها الباحث في التاريخ محمد بوكبوط.
– موحا أوحمو الزياني.. الزعيم المطارد حتى الموت:
استشهد موحا أوحمو الزياني يوم الجمعة 27 مارس 1921، بعد إصابته برصاصة في صدره، أطلقها عليه قناص من جبل موازي لجبل IGGIG بإغرم تاوجكالت/ تاوجيالت وبالضبط في موقع أطلق عليه بعد ذلك AZLAG N TZEMMURT ، وذلك لتواجد شجرة ” Tazemmurt” بذات المكان، وهو ما يعرف الآن لدى ساكنة المنطقة ب ” Takerkurt Lqayd”، وتم تحديد الموقع بعلامة عبارة عن كوم من حجر لكل من موحا أوحمو الزياني وآخر لصديقه ومستشاره الحربي محمد أقلوج الذي استشهد هو الآخر إلى جانبه، وعلى طول المنعرج بحوالي مائتي متر تم تحديد موقع استشهاد الطفلة فطيمة تيحيحيت، إبنة موحا أوحمو الزياني عن سن يناهز سبعة سنوات، وهو الموقع الذي يطل على مقبرة تاملاكت يتوسطها الضريح الذي دفن به الشهداء الثلاثة، والذي يقام فيه السنوات الأخيرة حفل تخليد ذكرى الوفاة. وتتضارب الآراء حول مكان دفن الزعيم، فإذا كان سعيد كنون، قد وصف مراسيم الدفن، في نفس الموقع الذي يتواجد فيه الضريح الآن، إلا أن أحد حفدة موحا أوحمو، وهو حسن أمحزون إبن مولاي ادريس، في تصريح أدلى به لبرنامج إذاعي بمناسبة ذكرى الوفاة في مارس 2012، “أن بعض أبناء موحا أوحمو، سارعوا إلى المكان الذي أصيب فيه والدهم، والتقطوا جثته، حيث تم إخفاء مكان الدفن دون أن ينزعوا عنه الثياب، وذلك تنفيذا لوصية الأب الشهيد، حتى لا يلتقط الفرنسيون صورة لوجهه، لتبقى صورته مجرد خيال في ذاكرة إروميين”، ولم يتم نقل جثمان الزعيم إلى مقبرة تاملاكت إلا بعد سنوات عن وفاته. وهو في اعتقاد البعض السبب الرئيسي في عدم التقاط الفرنسيين صورة فوتوغرافية للزعيم. وتنسب لموحا أوحمو أزايي قولته المشهورة:” لن أرى وجه أرومي إلا وأصبعي فوق الزناد”، وذلك ردا على وفد يرأسه القائد إدريس أورحو قائد أيت انظير، أرسله إليه الجنيرال هنريس لأجل استمالته.
اصطدم موحا أوحمو بالفرنسيين منذ وقت مبكر حينما أرسل بعض قواته لمؤازرة قبائل الشاوية ومديونة منذ سنة 1908، لكنه سرعان ما رجع إلى بلاده ومن الشاوية إلى سهول سايس، وخاض معارك طاحنة بزمور وزعير، منها معركة تافودايت (أبريل 1912) ببلاد زمور، ومعركة أكوراي ببلاد إكروان (ماي 1912)، ومعركة الزحيلكة بتراب زعير، ومعركة إيفران بسيدي عبد السلام بتراب أيت انظير(يونيو 1912)، ومعركة وارغوس (1913) في ناحية وادي زم. كما ساهمت قواته في الدفاع عن القصيبة سنة 1913، بعدما تحالف مع قائدها موحى أوسعيد. لكن انبساط السهول في منطقة تادلا وتفوق فرنسا عسكريا ونقص الذخيرة عند المقاومين الأمازيغ سهل على الفرنسيين الدخول إليها في أبريل 1913. بعد معارك ضارية في منطقة تادلا إلى جانب رفيقه في المقاومة موحا أو سعيد، تراجع أوحمو الزياني إلى مدينة خنيفرة التي كان قائدا لها، فجمع الزيانيين ووحد القبائل الأمازيغية بالأطلس المتوسط وتحالف مع القبائل الأطلسية المجاورة، فكون جيشا قويا مدربا على الرغم من نقص العتاد والأسلحة والمؤن، إلا أنه سيرغم على مغادرتها في صيف 1914، لأن المدينة عبارة عن “حفرة” لن تصلح إلا لمقبرة الجيوش الفرنسية التي حاصرها المقاومون من الجبال الأربعة المحيطة بها، حتى أصبحت فيالق العقيد لافيردور بين خيار خلق مسلك لتأمين التموينات أو الموت جوعا، وتكبدت ذات الجيوش خلال شهري يونيو ويوليوز مئات القتلى والجرحى، وأضحت المدينة تحت رحمة المخبرين. موحا أوحمو الزياني الواثق من ضعف الجيوش الفرنسية، اضطرته قسوة الطبيعة وبرودة الثلوج على قمم جبل أقلال إلى الإستقرار في مخيم بمنطقة لهري، ما جعل العقيد لافيردور يقدم على مباغثة المخيم للقبض على الزعيم وإنهاء الحصار المفروض على معسكره بخنيفرة، إلا أن الأمر سينقلب ضده بنجاة موحا بنفسه وتصدي أبنائه لقوات العدو، إلى حين توافد القبائل الزيانية والقبائل المجاورة لسحق قوات لافيردور عن آخرها في معركة لهري في 13 نونبر 1914 وأودت بحياة قائد العمليات العقيد لافيردور هو الآخر. تلك المعركة التي جعلت فرنسا تراجع سياستها الإستعمارية، باللجوء إلى أساليب التهدئة واستمالة القبائل الرافضة للتواجد الفرنسي بالمغرب.
– موحا أوحمو الزياني… ما بعد معركة لهري:
عاد سعيد كنون وهو قبايلي-جزائري، في إطار اشتغاله كضابط استعلامات، ليعلق على حدث استشهاد زعيم قبائل إزايان، في المؤلف السالف الذكر :” لم يكن رجل مثل موحا أوحمو غلب تلك القبائل ليموت… توفي برصاص أنصارنا بقيادة أبنائه في 27 مارس 1921( معركة أزلاك ن تزمورت قرب تاوجيالت)، حين جاء للمشاركة ببسالة ورباطة جأش في القتال رغم ثقل السنين”، ويقصد الضابط سعيد كنون في تقريره هذا، كل من أبنائه، حسن وأمهروق وبوعزا وباعدي… الذين أصبحوا بعد معركة لهري( 13 نونبر 1914) موالين لفرنسا.
فقد غادر موحا أوحمو قصوره بخنيفرة في 12 يونيو 1914، بعدما اقتحمتها ثلاثة فيالق وأصبحت معسكرا ل 15 ألف مجند فرنسي واستقر بجبل أقلال المطل على المدينة، ومنذ فجر13 نونبر 1914، إلتجأ إلى جبال تاملاكت- تاوجكالت عبر مزكوشن، حيث نجا بنفسه من هجمة مباغثة على مخيمه بلهري، في محاولة للقبض على الزعيم الكبير الثائر، قبل أن تنقض قبائل إزايان والقبائل المجاورة، أتت حتى من ملوية، على الجيوش الفرنسية باندفاع هائج، وتكبدها خسائر فادحة في رمشة عين، أودت بحياة قائد العملية المباغثة العقيد لافيردور وأكثر من 30 ضابطا ومئات الجنود…وهو ما بات يعرف بمعركة لهري. ” لم ينج موحا أوحمو بنفسه إلا بفضل وفاء ولديه بوعزا وباعدي اللذين وضعاه بسرعة على فرس وأبعداه على عجل في اتجاه مزكوشن” ، على حد تعبير القبطان سعيد كنون. وهما الإبنان وباقي الأشقاء، باستثناء ميعمي ن تفاسيت، الذين انضموا إلى الصفوف الفرنسية وسيتواجهون مع أنصار والدهما في معارك عديدة، انتهت إحداها بمقتله في 27 مارس 1921..
أسر الفرنسيون بعض من نساء وحريم موحا أوحمو، ولم يفرج عنهن إلا في إطار تبادل الأسرى بجثث جنودهم الذين قضوا في معركة لهري، ولم ينج منها إلا القلة القليلة. فبعدما ظهر الشرخ الكبير بين الزيانيين وأبناءه، أصبح موحا أوحمو الزياني محط انتقاد الكثير منهم، فقال أحد الشعراء موجها كلامه إلى الزعيم: Nella s isan inew nfukka-k i lehri g tmara/ Uma tedda ult 3ttâ att ismxazza kninir.
وذلك في إشارة إلى زوجته المنحدرة من أيت عطا التي نجت بأعجوبة من رصاص الفرنسيين، واستطاعت أن تقدم الدعم للمقاومين وبخاصة لأبناء موحا أوحمو وهم يواجهون رصاص لافيردور في الساعات الأولى من صبيحة 14 نونبر 1914.
بيد أن موحا أوحمو الزياني قاتل إلى جانب الزيانيين الذين لم يلقوا السلاح، و قاد آخر معركة إلى جانبهم وفضل الموت مرة واحدة من الموت البطئ تحت نير الأرومي/الفرنسي، وبرهن مرارا وهو محتم بمعقله المنيع بتاملاكت، أنه مستعد لكل شيئ حفاظا على حريته. لقد كان القائد موحا أوحمو، رغم كبر سنه (قدرت بعض الوثائق سنه إلى حين استشهاده بسبعين سنة)، ورغم الإنتقام الوحشي للمحتل من قبائل إزايان غير الخاضعين، يقود المقاومة إلى أن استشهد والسلاح في يده في كمين نصب له . ” لكن ظلت مواقفه عنوانا للشهامة والإباء، والشجاعة والإيثار، في سجل التاريخ الذي لاينسى، وفي الذاكرة الشعبية التي ظلت تتناقل بطولات هذا الرجل الفذ وتضحياته، واستعصائه على المساومة جيلا عبر جيل إلى يوم الناس هذا”، يشير أستاذ التاريخ محمد أمحزون وهو بالمناسبة حفيد القائد، في مؤلفه ” سيرة القائد المجاهد أمحزون محمد أوحمو الزياني”.
موحا أوحمو الزياني… هل مات فعلا برصاص أبنائه؟
ورغم هذا الوصف التراجيدي سواء ل “الخروج الطائش للعقيد لافيردور لمحاولة القبض على الزعيم، متجاوزا بذلك “الآراء الحكيمة لضابطي الإستعلامات القبطانين راك برانكازRact- Brancaz ومارو Marrot، أو لحدث مقتله على يد أقربائه…”، حسب سعيد كنون، فإن موحا أوحمو ظل وفق تقارير كبار القادة الفرنسيين أمثال Guy Martinet :” رجل حرب، وفارس مرعب ومخيف، اشتهر بالدفاع عن الأطلس المتوسط… وهذا المقاوم صعب الترويض والتطبيع، كبد فرنسا أكبر كارثة في تاريخ ملحمتها الكولونيالية”. أما المقيم العام الماريشال ليوطي، فقد اعترف بقوة القبائل الزيانية بقوله :” لايمكن إطلاق عملية عسكرية صغيرة، ونحن نعلم أننا نواجه قبائل محاربة من الطراز الأول في بلد صعب الإختراق من حيث الطبيعة”. إذاك بعد معركة لهري، توجه المقيم العام ليوطي صحبة الجنيرال هنريس، لإرساء سياسة الإغراء وتوسيع شبكة التجسس عن طريق المخبرين، وقد أفلحت هذه السياسة في خلق نوع من الهدنة، خصوصا بعد الهزائم الفرنسية في الحرب العالمية الأولى، ما فسح المجال للتواصل اليومي بين الفرنسيين وأعيان قبائل إزايان وعلى رأسهم أبناء موحا أوحمو الزياني، إذ إلى حدود 20 دجنبر 1919، انضم آخر نجل للزعيم إلى الصفوف الفرنسية( باستثناء معمي ن تفاسيت لقتله للقبطان طايلاد بعد إيهامه بأنه جاء ليتفاوض حول شروط استسلامه، فحكم عليه غيابيا بالإعدام من طرف العدالة العسكرية الفرنسية)، وعين الخاضعون قيادا وبشوات على مختلف المناطق الواقعة في التراب الزياني، كما عين البعض منهم قادة للعمليات العسكرية الفرنسية .
فمعظم أبناء موحا أوحمو، أصبحوا على رأس رتل فريدنبرغ (Friedenberg) الزاحف على مزكوشن، حيث تم خلق مركز لتغطية بلاد إزايان وقاعدة للعمليات المستقبلية بالمناطق الواقعة تحت تراب إشقيرن… وهو المركز الذي حاصرت فيالقه ذات صباح( 27 مارس 1921) بلدة تاوجيالت ونصب كمين، على الجبل الفاصل بين تاوجيالت وتاملاكت( جبل إيكيك)، للزعيم موحا أوحمو، لقد كانت الخطة شبيهة بالتي استهدفته فجر 13 نونبر 1914، لكن هذه المرة سيكون مصيره الموت وليس القبض عليه، حينها كان القايد يحاول النجاة بنفسه مصحوبا بصديقه محمد أقلوج، وبعد أن وضع طفلته فطيمة تيحيحيت أمامه وهو على فرس، كان قناص يترصده من أعلى جبل يطل على إكيك، حيث استدرج، إلا أن الرصاصة الأولى التي صوبت وجهة صدره، أردت الطفلة قتيلة، حينها عرف موحا أوحمو أن مصيره هو نفس مصير إبنته التي قتلتها “رصاصة أشقائها”. وحسب الرواية الشفوية، فقد خاطب موحا فطيما تيحيحت وهي تصارع الموت Ddu A ylli al/ar neddu ffir-am” (إرحلي ياطفلتي إلى حين رحيلنا بعدك)، دقائق بعد هذا الحدث، وبعد أن واصل مسيره أمتار قليلة، متحديا طلقات الرصاص الذي كان يمطر عليه من كل صوب، أصابته إحداها على مستوى الصدر، وأردته قتيلا، قبل أن يسقط محمد أقلوج هو الآخر ميتا. بهذا الموقف الشجاع ودع الزعيم رفاقه وسلم الروح . في الوقت الذي اشتد فيه الصراع بين أبناء وأبناء عم الشهيد حول التقرب من القوى الإستعمارية، فبلغت رسائل دعايتهم الموالية لفرنسا الأكثر بعدا… كما يجوب فرسانهم البلاد بحثا عن عدو الفرنسيين، وخاضوا بنجاح كثيرا من المعارك وأخضعوا العديد من الأسر والمداشير. ” لكن للأسف وخلال اشتباكهم في معركة بتاوجيالت في 27 مارس تألموا من رؤية أبيهم يسقط برصاص أنصارهم…”، يقول العقيد سعيد كنون. استأنف حسن وأمهروق وبوعزا مهمتهم لصالح فرنسا، دون أن يكترثوا لمقتل والدهم، بعد أن قدم الماريشال ليوطي شخصيا لمواساتهم، وحمل لهم مكافأة ولائهم بتسليم ظهير باشا إزايان لحسن وظهير خليفة لأمهروق ووسام فارس لجوقة الشرف لبوعزا .
لكن لايجب أن ننساق وراء كلام سعيد كنون، باعتباره أحد رجالات المباحث الفرنسية، سيما وأننا نعرف أن أبناء موحا أوحمو سارعوا إلى المكان الذي شهد وفاة الزعيم والتقطوا جثته ودفنوها في مكان مجهول، وذلك تنفيذا لوصية الأب، ما يعني أن قصة مقتله على يد أبنائه تفتقد إلى المصداقية، وأن انضمام الأبناء لم يكن عن سواد عيون الفرنسيين، بل جاء نتيجة مفاوضات الند للند، كما تصور ذلك جريدة لافيكارو الصادرة أيام عن مقتل موحا أوحموا لزياني.
وعن انضمام أبناء موحا أوحمو الزياني إلى فرنسا، تتضارب الآراء، حول ما إذا كان الأمر بالإتفاق مع الأب أم أن الإنضمام تم ضدا على موقفه، لكن ترجح بعض المصادر، كون النهب الذي تعرض له مخيم موحا وعار أسر زوجتيه على يد زيانيين مثله انتقلوا إلى خدمة فرنسا، أثر على موقف الزعيم وأبنائه وتم اختيار الموقف الأفضل لصون النفس واختيار ما يحفظ مستقبل العائلة. أما عن استشهاده فيضيف تقرير سعيد كنون :” بكى الناس في كل العشائر وأخمدت النيران في جميع الخيام وهدمت علامة على الحداد العميق…”.