أخبار عاجلة

في ذكرى معركة أنوال

 بقلم: طجيو شيماء

سياق تاريخي مختصر، مختصر جدا:

في عام 1912، تحت حماية القوى الاستعمارية، تم توقيع معاهدة فاس التي قسمت المغرب بين فرنسا وإسبانيا. تولت فرنسا السيطرة على الجزء الأكبر من البلد، بينما حصلت إسبانيا على بعض مناطق النفوذ في الشمال والجنوب. وخصصت مدينة طنجة كمنطقة تحت السيطرة الدولية؛ مما يعني بكل بساطة أنها كانت تحت إدارة متعددة الأطراف دون أن تكون جزءا من النفوذ الفرنسي أو الإسباني.

ربما أقول هذا على نحو لا يليق، لكن ما أعرفه أن الأمر بدا فعلا كأننا أمام كعكة شهية سيتم تقسيمها وتوزيعها بكثير من الجشع للحصول على الحصة/النسبة الأكبر. الذين اندفعوا نحو هذه الكعكة “أولئك” الذين ظنوا أن شكلها المغري، أو ما قيل عن قيمتها الغذائية “ثرواتها” كاف لتبرير النهب والقضم، لم يكن لديهم وقت ليضيعوه في التفكير بما قد يتسلل إلى أحشائهم من سموم طبعا. لم يكن ليعنيهم إن كانت محشوة بكريمة مخفوقة مثلا أو بعض الزجاج المهروس… ثم إنهم غالبا لم يدركوا أن من يضع قدمه فوق هذا التراب لا يخرج منه كما دخل، لن يخرج سليما كما دخله قطعا، ولو بمقدار لا بأس به من الخسائر. وبالرغم من أنني لا أحب التنقيب في عظام الأجداد، ولا أحب فكرة الفخر بالماضي دون النظر إلى الواقع الحاضر ذاته، إلا أن معركة أنوال تفلت دائما من هذا المنع.

بعد إبرام معاهدة فاس، شرعت إسبانيا في تنفيذ مخططها بالتوسع شمالا في الأراضي المغربية، لكن بداية الحرب العالمية الأولى أوقفت هذا الزحف مؤقتا. وبعد انقضاء فترة قصيرة، استأنفت إسبانيا محاولاتها للتمدد، ومجددا، اصطدمت بعقبة أخرى؛ مقاومة مغربية داخلية عنيدة. بالرغم من شجاعة المقاومين في الدفاع عن أرضهم، فإن قلة الإمكانيات وبساطة الوسائل حالت دون صد التقدم الإسباني المدعوم بتفوق عسكري، مما أدى إلى بسط النفوذ الإسباني على مناطق جبالة، بما في ذلك تطوان وشفشاون (مناطق في الشمال) ما عزز لدى الإسبان شعورا بالهيمنة والثقة والتكبر. غير أن وصولهم إلى منطقة الريف، وخاصة معقل أنوال، قلب الأمور كلها، وبدأت إسبانيا تدرك تدريجيا أنها أمام مقاومة مختلفة، وأن الطريق لن يكون ممهدا كما ظنت…اصطدموا بمن لا يحتاج بزة عسكرية ليقول: “ليس في قضية الحرية حل وسط.” -محمد عبد الكريم الخطابي.

كان الإسبان آنذاك يدركون طبيعة العلاقات بين “الريافة”. الوضع الاجتماعي في الريف خلال تلك الفترة كان مشوبا بالاضطرابات والصراعات القبلية، مما أدى إلى زعزعة الاستقرار وخلق أجواء متوترة، حتى أن الكولونيل “ركليم” صرح أمام الكورطيس (البرلمان الإسباني) قائلا: “إن الحرب كانت دائما بينهم (في إشارة إلى القبائل الريفية) ولم تكن أبدا ضدنا…”، كما قال الجنرال “خوردانا”، الذي ترأس القيادة العامة للاحتلال الإسباني في شمال المغرب :”إذ بدلا من الحاجة المسبقة للمقاومة التي يريدون القيام بها ضدنا، فإنهم يتطاحنون ويقضى عليهم من تلقاء أنفسهم، فيما نحن نشق طريقنا في راحة واطمئنان” .ومع كل ذلك، نجح محمد عبد الكريم الخطابي في توحيد صفوف الريفيين وتنظيمهم، رغم اختلاف القبائل وتضارب المصالح والمشاكل التي كانت تنتج عن نزاعات شخصية في الأصل، وهو ما يعكس دهاء وعبقرية قائد المقاومة.

الإسبان كانوا يعرفون تماما أنهم أمام خصم ليس من السهل إغراؤه، لكنهم مع ذلك لجأوا إلى الخديعة، فعرضوا على الخطابي صفقة بأموال طائلة ومعدات حربية حديثة، لمواجهة الاستعمار الفرنسي، في مقابل الاستحواذ على خليج الحسيمة. صفقة رابحة لهم في كل الأحوال، قطعة أكبر من الكعكة، والتخلص من منافس عليها.

رفض الخطابي هذا العرض وهو يدرك أن ما سيأتي سيكون رد فعل على جوابه، وهدد بالتصدي لهم في حال تجاوزوا الحدود، وفعلا، تجاوزوا الحدود. كان سيلفيستري وهو أشهر وجوه هذه المعركة يسخر بطبيعة الحال من تهديد الخطابي، ويقلل من شأنه وشأن رجاله بسبب نقص العتاد. أحيانا أظن أن السخرية كانت أحد أسلحة الإسبان، لكنها أيضا كانت سبب هزيمتهم؛ فالثقة المفرطة تعمي دائما عن حقيقة ما يجري واقعا. ومع ذلك، وبرغم كل هذه الثقة التي أظهرها سيلفيستري، فقد اتخذ احتياطاته كلها، فشرع في بناء الثكنات العسكرية لتأمين التموين وتسريع الإمدادات، فالحرب بالنسبة له كانت أمرا لا بد أن يقع. في الوقت نفسه، كانت المقاومة الريفية تشن هجمات ليلية، مما أدى إلى تكبد الجيش الإسباني خسائر كبيرة.

معركة أنوال:

كان سيلفيستري قد حشد أكثر من 25 ألف جندي لمواجهة المقاومة الريفية بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي، التي لم يتجاوز عدد مقاتليها ثلاثة الاف رجل. ثم بدأت المعركة. اعتمد رجال الخطابي على استراتيجية ذكية؛ استدرجوا الجنود الإسبان إلى المناطق الجبلية الوعرة، مما صعب عليهم القتال وأدى إلى استنزاف طاقتهم. وبسبب طبيعة التضاريس، اضطر الإسبان إلى التخلي عن مدافعهم الثقيلة وآلياتهم المجهزة، لتظهر بذلك كل نقاط ضعفهم. أبدع المقاومون الأمازيغ الريفيون في استخدام تكتيكات حرب العصابات بجلابيبهم التقليدية وعمائمهم المليحة وبأسلحتهم البسيطة التي صنعوها بأيديهم في جبال الريف. عبر أسلوب الكر والفر، كانوا يظهرون فجأة ويختفون، يهاجمون بتنسيق ثم ينسحبون بسرعة، مما جعل من الصعب على الإسبان تنظيم دفاعاتهم أو إيصال الدعم لبعضهم البعض.

حقق المقاومون انتصارا يتجاوز حدود التصور العقلي إن أخذنا بعين الاعتبار الإمكانات التي كانت بحوزتهم طبعا. فخلال وقت قصير، تكبد الإسبان خسارة فادحة تمثلت في مقتل أكثر من 14 ألف جندي، وأسر أكثر من 570 منهم. في هذا الوقت اليسير، تمكن المقاومون من الاستيلاء على ما يفوق 30 ألف بندقية، و129 مدفعا ميدانيا، و392 مدفعا رشاشا، بالإضافة إلى المؤن والعتاد العسكري الكثير، فضلا عن عدة سيارات حربية. علاوة على ذلك، استعادت القوى المقاومة 130 موقعا كانت تحت سيطرة الإسبان، وكان هذا تحولا غير متوقع أبدا في موازين القوى.

بعد كل شيء، هذه الكعكة “المسمومة” لا تقسم، ومن أراد أن يتذوقها وجب عليه أن يتحمل سمها ويتجرع مرارة مقاومتها، فالمرارة إن طغت على أي طعم، طغت حتى محقت.

اقرأ أيضا

قبل جيل Z: ماذا قال تقرير النموذج التنموي عن الأثر المواطن للسياسات العمومية؟

قبل أن يظهر جيل “زد” (Z) بصوته الرقمي ووعيه الفوري بحقوقه وواجباته، كان المغرب يعيش …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *