ماهي قيمة الثقة عند المغاربة؟ وما هو دور الذاكرة في صون ورعاية هذه القيمة الإنسانية النبيلة؟ وما هي أصولها وامتداداتها؟ وكيف تحولت من فضاء قرى جبال الاطلس الى المدن المغربية؟ انها اذن حفريات فكرية في تيمة أعظم تيمة إنسانية على وجه الاطلاق…
قيمة الثقة عن المغاربة من خلال ذاكرة الحاج الحسين أمزيل هو الإصدار الجديد للكاتب الامازيغي المغربي عمر أمارير وهو الإصدار رقم 10 لهذا الحفار المتقدم والذي لا يكل ولا يمل في حفر ثقب صغير في جدار الصمت الذي يلف موضوعات تشكل اليوم دفائن ونفائس غالية في عالم اليوم، عالم هيمنة الافتراضي وسيطرته على كل مناحي الحياة العامة، عالم العولمة الكاسحة، عالم يسحق فيه القوي الضعيف بدون شفقة ولا رحمة، عالم غيبت فيه منظومات القيم الإنسانية النبيلة… عالم اصبح فيه البحث عن الفضيلة اشبه بمحاولة ادخال العالم في تقب ابرة، وضحى فيه من يتشبث بالمرجعية الاصلية ذات العمق الجماعي أشبه بمحاولة ادخال الابرة في تقب العالم…. الذي لا يتق الا في سلطان العلم والتكنولوجيا الجديدة الجبارة فهل مازال للثقة وجود الثقة؟؟ وهل عالم اليوم مازال في حاجة الى الثقة؟؟
1. الانطلاقة…
من سوس، الى مدن الشمال والوسط، انطلق معظم تجار سوس سيرا على الاقدام في بداية القرن الماضي بحثا عن أفاق أخرى، أفاق أحسن من قرى سفوح الاطلس الصغير والكبير، الذي عرف تغييرات كبيرة واهتز كيانه الداخلي وبنيته اهتزازا كبيرا بفضل شروط القرن، قرن الحركات الاستعمارية الكاسحة والتي غيرت قواعد اللعبة الاقتصادية والتجارية. ولكن كيف كانت الانطلاقة؟ اجمالا كانت من الصفر وعلى الشكل التالي:
- الانطلاقة من الصفر: الرصيد اللغوي لغالبية المنتقلين أحادي ويقتصر على إتقان اللغة الامو وما تيسر من كلمات عربية فصحى مصدرها القران وبعض الأحاديث النبوية
- الانطلاقة من الصفر: من حيث الرأسمال، وكانت البداية بممارسة مهنة تجارة التقسيط كمتدرب، يليه استقلال بوحدة لممارسة نفس التجارة.
- الانطلاقة من الصفر: لبلوغ اعلى درجات الغنى المالي العليا والنجاح الشخصي الباهر.
فما هو سر هذا النجاح العبقري الذي انطلق من الصفر؟ وما هو سر هذا النبوغ الاستثنائي؟
2. عسر البداية…
يجيب المؤلف على لسان التاجر السوسي انها “الثقة”… الثقة هي سر نجاحنا نحن أهل سوس في عوالم التجارة والصناعة والخدمات…
لتبدأ الأسئلة في الاشتغال في ذهن المؤلف… كيف يمكن لشيء غير موجود حاليا في اللغة الامازيغية المتداولة ان يكون وراء هذا النجاح العظيم، أسئلة حاول المؤلف ان يجد لها إجابات شافية، لذلك توجها رأسا الى مكتبته الشخصية والمكتبات العمومية ليستزيد منها ما يعينه على تفكيك شفيرة هذه القيمة الإنسانية العجيبة التي صنعت أعظم نجاح مغربي خالص في مجال المال والاعمال.
هل سيفيدني “فرنسيس فوكوياما” في فهم دور الثقة في تحقيق النجاح؟ وهل ستفيدني كذلك توجيهات ونظريات “سيفن كوفي” في فهم الموضوع؟ وماذا عن الاعمال الروائية المغربية، وكيف تعاملت مع البنية العميقة للشخصية المغربية وما هي حصيلتها في موضوع الثقة؟
لم يحصل الكاتب على ما كان يطمح اليه في مطالعة كل العناوين التي جمعها في المكتبات الشخصية والعمومية. فما هو الحل؟
ظن كاتبنا ان الموضوع في المتناول، وهي القناعة التي ترسخت لديه أثناء بداية اشتغال، ولكن رياح الموضوع ستقدف به في اتجاه كورنيش مدينة الدار البيضاء مشوش الذهن مرفوع التركيز…ومعكر الصفو الذي زاد من حدته افراط الرواة المغاربة من تأتيت احداث أعمالهم الروائية بسلبيات الغش والغدر والخداع، والسرقة، وحثى التخلف، الى الحد الذي يخيل للقارئ انها ممارسات مغربية صرفة وليست من المشترك بين شعوب العالم. فأين هي سجايا المجتمع المغربي؟ اين هي الثقة التي تحدث عنها تجار سوس؟ وأطلقوا عليها المعقول، والنية، وأغراس أغراس، الصفا، الصدق وغيرها… وأين اختفت السجايا المغربية النبيلة والاصيلة؟ مثل التضامن، والانصاف، والمحبة، والوفاء، والاثرة، والاريحية والضيافة، والكرم والكرامة، والثقة؟
البحث عن هذه السجايا جعل الكاتب يتصفد عرقا ويلمح من وراء غلالة الضباب طيف القارتين الامريكيتين، وعلى رأسهما دولة كندا في الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي، من هنا كانت الانطلاقة الفاصلة بين عالمين واحد افتراضي لا محدود وآخر واقعي محدود مكبل بالكثير من القيم الرفيعة والنبيلة أحيانا وأخرى تشكل نقيضها المباشر…
في أمريكا تمكن الكاتب من الاطلاع على اعمال المؤلفين السابق الإشارة اليهما، وهي اعمال رائدة، كما سيمكنه ابحاره في عوالم النت الافتراضية من التعرف على اعمال أخرى لا تقل قيمة من سابقتها حول أهمية الثقة والتحفيز على التمسك بفضائلها الاجتماعية، كتب وكتاب أصلوا لأهمية الثقة في خلق الرخاء الاقتصادي، وتعزيز ديموقراطية الحكومات، وصيانة حقوق الافراد والجماعات، وتحقيق التعاون المثمر بين الشركات العالمية العملاقة. لان الثقة بكل بساطة هي ذلك الشيء الوحيد الذي يمكنه ان يغير كل شيء بسرعة فائقة وبتكلفة أقل.
بعد نهاية هذه المغامرة الافتراضية في دول أمريكا الشمالية اقفل الكاتب في اتجاه القارة العجوز، وكانت وجهته دول أقصى شمال القارة، والسبب في ذلك واضح ومعلوم لان الكاتب ألف زيارة تلك الدول في إطار المشاركة في اعمال سابقة… اكتشف ان الدول الإسكندنافية والتي تتسيد مستويات مؤشرات سعادة شعوب العالم، راجع الى قيمة الثقة، فمن خلال النصوص التي اطلع عليها توصل الى حرص الإسكندنافي على الحفاظ على قيمة الثقة، فيما بينهم وبطرق رائعة، كما انهم يتقون في ادارتهم وحكومتهم ثقة عالية.
اعيت المقارنة كاتبنا، بل كادت ان تعصف بفكرة مشروعه عندما تعرف على أهمية الثقة عند شعوب شمال القارة الأمريكية والاوربية ومقارنته مع ما هو مكتوب وموجود في بلده الأصلي المغرب، والذي يتميز بالشح والندرة في كل المجالات، الكتابة والتطبيق الاجتماعي. هذا الشح المصدري المكتوب، سيتجاوز الكاتب فجأة عندما اهتدى الى بلسم المصادر الشفوية التي ألف العثور فيها على ذخائر نفيسة وثمينة حول قيمة الثقة عند تجار سوس…الذين حاورهم اثناء كتابة عن السلسلة الذهبية من عصاميي سوس… قيمة اخترقت كل فئاتهم من تجار الجملة الى تجار نصف الجملة والتقسيط، حينها سيقتنع الكاتب ان ما يوجد بين ايديه من المصادر الشفاهية سابق في وجوده عن المصادر الامريكية والكندية المكتوبة حول قيمة الثقة في مجالات المال والاعمال… ويتفوق كثيرا عن تأصيلات الإسكندنافي. هنا بدأ شراع البحث يغير تموضعه في اتجاه صخور “الكَرانيت” المصفوفة على سفوح جبال الاطلس الصغير قصد مواصلة المغامرة…
(يتبع)
اللهم ارحمه رحمة واسعة واغفر له واجعل قبره روضه من رياض الجنه