قيّامة آزَوَاد.. أو: الوجود كمؤامرة (1)

إبراهيم الكوني
بقلم: إبراهيم الكوني

«رسالة الحكماء: توقُّع حلول البلاء.
رسالة الشجعان: مبارزة البلاء، عند حلول البلاء»
(بيتّاكوس)
(عضو محفل الحكماء السبعة. القرن السادس قبل الميلاد)

من اصطفته الأقدار ليكون شاهد عيان على فصول مهزلتنا البشرية، وحده سوف يكتشف كمّ هو هذا العالم أكذوبة غادرة، وجودنا فيه مؤامرة سافرة، يكفي أننا، في دوّامة باطل أباطيلها مجرّد فِدْية، والدليل يفضحه موقفنا من درسٍ لقّنته لنا الطبيعة في حرف القيّامة، فلم نكد نستيقظ من هَول الزلزلة، التي تنزّلت في واقع أهلنا في المغرب الأقصى، حتّى عصفت بنا قيّامة أقوى مفعولاً، في ديار أهلنا في درنة، فلا نفجع فقط في حجم المصاب، ولكننا لم نشأ أن نعترف لأنفسنا حتّى اليوم، بأن هذه التحفة المعمارية ليست مدينةً منكوبةً وحسب، ولكنها جنّة مفقودة، مثلها مثل «أطلانطيدا» الأسطوريّة، أو «تيرا» الإغريقية، أو «بومباي» الرومانية، أو «واو» الصحراويّة؛ فلا تملك الأقدار إلّا أن تتدخّل، كي تهوّن علينا وزر النّكبة، بمفعول نكبة أخرى، ما لبثت أن استوت في قيّامة أخرى مترجمةً في حرف نزيف غزّة. فهل ارتوى هوسنا بالبلايا، فيكفّ عن امتحاننا عند هذا الحدّ؟

كلّا بالطبع؛ فمادام ناموس القدر هو الذي قضى بأن تتحالف البلايا، فلا تُقبل علينا إلّا بأن تتنزّل أرتالاً، فليس لنا أن نستنكر أن تداهمنا قيامة أخرى، في ركنٍ آخر من واقعنا الفسيح، هو محنة أمّة اللثام، التي فُجعت في آخر معقلٍ لها، وهو «آزواد»، الذي تكأكأت عليه قوى الشرّ، في هذا العالم الجائر، فتتظافر كلّها لكتم أنفاس هذا الجنين الوليد، أجناد دولة مالي، في ركبهم، مجرّد حجّة لتمويه حقيقة المكيدة الدولية، أمّا الفحوى فمتمثّلة في روسيا: «مرتزقة فاغنر»، وتركيا الجبانة، في تزويد دمية النظام المالي بالطائرات بدون طيّار، بإسنادٍ من كل دول الجوار، الإفريقي منها والعربي، وبدعمٍ فعليّ ومعنوي من بهلوانين آخرين، هما أوروبا وأمريكا، بمباركة ذوي القربى في اقتراف أبشع المذابح في حقّ شعبٍ أعزل، بريء، كأنّ محو هذا الركن الآمن، المسالم، الضائع في أعظم صحاري العالم، من خريطة الكوكب، هو الرهان، الذي سيحقق الخلاص، لأشباحٍ، هيهات أن تطمع، في وجودها، بخلاصٍ، تنفيذاً لنيّة مبيّتة، لتصفية آخر معقل للبطولة، في هذا العالم المؤدلج، الذي يأبى إلّا أن يعتنق احتكار الحقيقة ديناً، فلا يتردّد في أن يضحّي بآخر بندٍ، في منظومة القيم الأخلاقية، عندما يتنازل عن المعبود، لحساب ميفستوفليس، غير آسفٍ، إذا فقَدَ، في الصفقة، روحه؛ ليبرهن على صواب حُجّة الحكيم «ثورو»، في الوصيّة القائلة: «المكان الوحيد المناسب، للإنسان النزيه، في عالمنا، هو السجن!»، ليضيف بإلهامٍ من جنيّة إسمها الحداثة: «.. بل هو حبل المشنقة!» يحدث هذا استجابةً لنداء البرنامج القاضي بوجوب وضع اللمسات الأخيرة في فصول المخطط الآثم، الذي أشرفت فرنسا على تنفيذه في حقّ أكثر بقاع الأرض تسليماً، وهي الصحراء الكبرى، لتضمن إحكام هيمنتها على كنوز هذه القارّة الطبيعية، من نفطٍ وغاز، وذهب، ويورانيوم، وفوسفات، وحديد، وحتّى رملها النفيس، الملفّق من طينة مسقط رأس التكوين، وإلّا لما استوى في صنع أجود أجناس الكريستال في العالم، فكيف لا تُقدِم فرنسا على تسميم أهلها بتفجيراتها النووية، لتوطيد قبضتها على هذه الغنيمة المجّانية؟ فلا تكتفي بهذا التجديف، ولكنها تأبَى إلّا أن تصادر الصحراء الكبرى من هويّتها، كوطنٍ تاريخيٍّ لأمّة اللثام، فتمزّق أشلائها حصصاً، كأنها ملكيّة خاصّة، لتقوم بتوزيعها على قبائل همجيّة، لم تنتمِ إلى طينة الصحراء يوماً، بلا مسوغات تؤهّلها لتُكَوّن دُوَلاً، لا ثقافياً، ولا دينيّاً، ولا تاريخيّاً، ولا حضارياً، كما الحال مع مالي، أو تشاد، أو النيجر، أو بوركينا فاسو، لتقدّمها هديّةً لفئة كانت لها بالأمس خدماً، فقررت أن تكافئ هذه الملل على هذا الصنيع، ضماناً لمواصلة ولائهم لها، بعد خروجها من واقعهم كمستعمِرة، ظنّاً من هؤلاء البلهاء جميعاً أن الطوارق إذا خسروا «كيدال»، فإنهم خسروا «أزواد»، وإذا خسروا «أزواد»، فقد خسروا الدولة، وإذا خسروا الدولة، فقد خسروا الصحراء، وإذا خسروا الصحراء فإنهم خسروا الوطن.

ولا يدرون أن الدولة هو ما لم يكن حلم الطوارق عبر ألوف الأعوام، بل منذ التكوين، الذي، كانوا له في التاريخ هم، لا سواهم، حُجّةً، كما سنُبيّن بالبرهان، في نصّ البيان الذي سيلي؛ لأنهم هم مَن كان له الفضل في تأسيس أقدم الدول، لأنهم كانوا الإمام في ملحمة تأسيس أُسّ الحضارة في تاريخ الجنس البشري، يكفي أن نحتكم إلى شهادة عرّاب تاريخ ما قبل التاريخ «هيرودوت»، الذي اعترف لأسلافهم بقصب السبق في هذا الحقل العصيّ، ليفيض جُودوهم بالحكمة على حضارة الإغريق، التي يتغنّى بها العالم، كرائدة في ارتياد سلّم التنوير، الذي وضع حجر الأساس للمنزلة التي حققتها البشرية، لتكون اليونان، تلميذة ليبيا، النموذج المرجعي في العقلية السائدة إلى اليوم. ولأنهم رُسُل السبق في فهم حقيقة بعبع كالدولة، فهم أوّل من آثر أن يحيا مطارداً سراب الآفاق في صحرائه العظمى، على أن يُفني وجوده كله صاغراً، ليتسوّل مرضاة هذا الجلّاد، الذي لا يرتضي ولا يعترف ولا يقبل في مملكته إلّا مَن ارتضى أن يتنازل عن الحرية طوعاً، ليبدّد العمر عبداً، سيّما بعد أن اكتشفوا أن السعادة ليست في تلقّي هبة آثمة، كالثراء، من كفٍّ ملوثّة بالدماء كالدولة، ولكن السعادة صنيع حرية. فأمّة أهل اللثام، المعجونة من طينة الزُّهد، أكثر الأنام إيماناً بحقيقة الوجود، كفاكهة إثم، ومن الطبيعي، لهذا السبب، أن يكون القصاص هو المكافأة المناسبة الوحيدة لتسديد فاتورة المكوس، المخوّلة لشراء هذا الإثم، والسيّد «كاف»، في أمثولة كافكا، «المحاكمة» أقوى البراهين على صواب ماهيّتنا كقربان، كفِدْيَة، تسعى في الأرض، منتظرةً قيام قيّامة، يقوم فيها الجلّاد بجرّ النصل على النحر، لنهتف، تماماً كما هتف نموذج كافكا، السيّد «كاف» عند ذبحه: «هكذا؟ كالكلب؟!».

شاهد أيضاً

«مهند القاطع» عروبة الأمازيغ / الكُرد… قدر أم خيار ؟!

يتسائل مهند القاطع، ثم يجيب على نفسه في مكان أخر ( الهوية لأي شعب ليست …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *