يصدر قريبا للكاتب والشاعر صلاح نقاب، المعروف باسم “أمارير” – أحد أبرز الأصوات الأمازيغية المعاصرة التي تتخذ من الكلمة فعلا وجوديا، ومن الإبداع مشروعا للتحرر – عمل روائي جديد بعنوان “ما بعد الهرمجدون”، عن دار سحر الإبداع للنشر والتوزيع.
يمتد مسار أمارير الإبداعي بين الرواية، القصة، الشعر، والموسيقى، حيث ينحت عالما فنيا متعدد الأوجه، يزاوج فيه بين الفلسفة، اللغة، والهوية، مقدما تجربة أدبية نادرة في عمقها وتنوعها.
وعن فكرة الرواية يشير أمارير إلى أنها “بدأت في عام 2005، لكنها عادت إلى الحياة بعد عقدين، وتدور أحداثها في عالم منقسم بين نظام صارم وفوضى عارمة، تتخللها رحلة الشخصية المحورية “ماس” التي تبحث عن إيمان ما وسط أنقاض الإنسانية“.
كما يصدر له أيضا ديوان شعري باللغة الأمازيغية بعنوان “ⴰⴳⴰⵟ – Agat”، ويعني “الوصول”، وهو عمل شعري غنائي ينبض بروح الأرض والذاكرة. كتب هذا الديوان في الغربة، إلا أنه مشبع بروح الوطن، ويضم 25 قصيدة أمازيغية تتجاوز 320 بيتا شعريا، تحتوي على أكثر من 1000 مفردة مختارة بعناية، بعضها من المفردات المنسية التي يعيد الشاعر إحياءها ليغزل بها نسيجا لغويا حداثيا.
بين الحنين والطفولة والمنفى، تخاطب قصائد أمارير الإنسان في كل مكان، مؤكدة أن الأمازيغية ليست لغة محلية معزولة، بل أداة تعبير إنساني عميق قادرة على ملامسة الوجدان العالمي.
وعن إصداراته السابقة، يقول أمارير:
“سبق أن صدر لي كتاب “جمهورية الضباع”، وهو عبارة عن قصص قصيرة، إلى جانب “ما قبل وما بعد تحريك حروف العلة”، وهو كتاب مقالات كتبتها على امتداد سنوات، تمس قضايا الهوية والأمازيغية، وتشكل تأملات فكرية في جوهر اللغة والانتماء“.
كما أصدر مجموعة من الأغاني تجمع بين الكلمة الشعرية المغناة والمقاطع المصورة (فيديوهات) لبعض قصائده الأمازيغية، في محاولة للمزاوجة بين الحرف والنغم، وجعل اللغة الأمازيغية حاضرة في الفن كما في الفكر. ويشمل رصيده أيضا تجربة إعلامية مهمة، حيث شغل منصب رئيس التحرير الأول لمجلة “أرمات”، أول مجلة أمازيغية تصدر في ليبيا، والتي نشر منها عشرة أعداد خلال عامي 2013 و2014، بالتعاون مع الكاتب مادغيس مادي
وعن مدى حضور الأمازيغية ضمن عمله القصصي “العودة إلى كهف أفلاطون” يورد صلاح نقاب، “في هذه القصة تتجلى الأمازيغية بعمق في رمزية الأسماء التي اخترتها لشخصيات العمل، ما يعكس حضورا ثقافيا مقصودا يعزز من طابع الهوية والمعنى الفلسفي للقصة..
-
إيمال: وتعني “الأمل”، وهو اسم الطفل الذي خرج أولًا من الكهف حاملاً رؤية جديدة للعالم. يرمز إلى التجدد والحرية والبحث عن الحقيقة.
-
تيدت: أي “الحقيقة”، الطفلة التي خرجت باكرًا من الكهف وعادت مرتبكة من تعقيد العالم الخارجي. تمثل الحقيقة المراوغة والرحلة الإنسانية نحو الفهم.
-
أدرغال: أي “الأعمى”، رجل فقد بصره لكنه أبصر الحقيقة ببصيرته. يحمل مفارقة فلسفية: أن الرؤية لا تعتمد على الحواس بل على عمق الوعي.
-
فوس: وتعني “اليد”، رغم امتلاكه يدًا واحدة، استطاع أن ينجز ويأمل بقلبه لا بعضلاته. يمثل الإرادة والعمل رغم النقص.
يقول أمارير: “من خلال هذه الأسماء، تنبض القصة بالروح الأمازيغية، ليس فقط في اللغة، بل في الجوهر الفلسفي والهوياتي. فالحقيقة (تيدت) لا تدرك إلا بالأمل (إيمال)، وببصيرة الأعمى (أدرغال)، وبيد الإرادة (فوس)“.
وعن مشروع مجلة “أرمات” الذي توقف عند عدده العاشر، يوضح أمارير:
“في بلد ظلت فيه الأمازيغية مقصاة لعقود، وفي زمن كانت فيه الكتابة بحرف تيفيناغ مغامرة ثقافية محفوفة بالتأويلات السياسية، ولدت مجلة “أرمات” عام 2013، لتكون أول مطبوعة دورية في ليبيا تُكتب بالكامل بالأمازيغية وبحرفها الأصلي“.
لم تكن المجلة مجرد مشروع إعلامي، بل إعلانا رمزيا عن عودة الصوت الأمازيغي إلى الفضاء العام، لا بوصفه صوتا احتجاجيا، بل كخطاب أدبي وفكري وثقافي متكامل.
اسم المجلة، “أرمات”، يعني “الاعتدال الربيعي”، وهو استدعاء رمزي لهوية عميقة حاولت المركزية العروبية طمسها. المجلة لم تنطلق إلى الماضي بل صعدت من الجذور نحو أفق تعددي جديد.
بدعم من الكاتب مادغيس مادي والهيئة العامة للصحافة بطرابلس، شكلت “أرمات” لحظة فارقة في الصحافة الليبية، وكانت أول تجربة رسمية تؤسس لصحافة مكتوبة بالأمازيغية تيفيناغ، لغة ومضمونا، بوصفها كيانا مستقلا يخاطب الناطقين والمهتمين بها.
خلال عام واحد فقط، صدر عن المجلة عشرة أعداد شكلت مختبرا حيا للتجريب اللغوي والمضموني، وتنوعت بين:
- قصائد شعرية بأصوات شابة ومجربة،
- قصص قصيرة تستلهم التراث الشعبي بروح معاصرة،
- أبحاث ودراسات في الأدب والفن والتاريخ والفكر الأمازيغي،
- مقالات نقدية بلغة أمازيغية معيارية حديثة.
ومن أبرز الأعداد، كان هناك عدد مخصص للأطفال، سابقة في ليبيا والعالم الأمازيغي، قدمت فيه تيفيناغ بلغة بصرية محببة ورسومات وألعاب تعليمية، ما أرسي أسسا لتعليم اللغة بطريقة تربوية بعيدة عن التلقين.
وبدءا من العدد السادس، أصبحت المجلة تصدر بأربع لغات:
- الأمازيغية: اللغة الأساسية،
- العربية: لغة وطنية مشتركة،
- الإنجليزية: للانفتاح على العالم،
- التبو (تادوغَا): لإدماج المكون الثقافي التباوي.
لم يكن هذا التعدد ترفا لغويا، بل رؤية تعكس قدرة الأمازيغية على احتواء التعدد الثقافي في ليبيا دون انغلاق أو ذوبان، بل عبر الاعتراف المتبادل.
يضيف أمارير: “مجلة ‘أرمات’ لم تطالب بمكانها، بل فرضته بتحالف المثقفين، وبالحرف الأمازيغي الذي لم يكن مجرد وسيلة تواصل، بل أداة تحرير معرفي“.
ويختم: “اليوم، وبعد أكثر من عقد على ولادتها، لا أراها كمشروع انتهى، بل كبذرة لا تزال تنبض. كانت صوتا، وصارت أفقا. أثبتت أن الأمازيغية لا تموت حين تقصى، بل تبعث حين تكتب. وأن ليبيا، حين تعترف بكل أصواتها، تصبح أكثر قدرة على الشفاء من جراحها“.