ظل القرن العشرين منسياً رغم أنه وُصم بإراقة دماء الكثيرين. فما عرف باسم “كارثة أنوال”، المعركة التي دارت رحاها قبل مائة عام من هذا الصيف (21 يوليوز 2020)، كان لها الوقع الكبير على القرن المُرَوِّع الذي شهدته إسبانيا.
كان ملك إسبانيا ألفونسو الثالث عشر لغزًا محيرا. فقد جسد سلوك الطبقة الأرستقراطية الذي عُرف به ملوك أوروبا من ناحية، مما أدى إلى اندلاع الثورة في جميع أنحاء القارة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ومن ناحية أخرى، كان مؤيدًا، على الأقل بالأقوال، للنظام الملكي الدستوري والديمقراطية الليبرالية المحدودة؛ وقد رُشح لجائزة نوبل للسلام في عام 1917 باعتباره شخصية إنسانية، وذلك على خلفية أعماله الخيرية خلال الحرب العالمية الأولى.
ومن المفارقات العجيبة هنا أن التاريخ باستطاعته رسم خط مباشر منذ عهد ألفونسو حتى اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية في عام 1936، أي خمس سنوات من مغادرته البلاد، الحرب التي ما تزال تؤثر على إسبانيا وتجرح وجهها السياسي حتى يومنا هذا.
ويعزى صعود التوجه الجمهوري الإسباني والمعارضة اليمينية المتطرفة وديكتاتورية الجنرال فرانسيسكو فرانكو إلى سياسة الملك ألفونسو. وذلك لاتسامه بصفة أخرى شائعة بين الملكيات الوراثية وهي العُنْجُهِيَّةُ، مما أدى إلى أفول نجمه قبل مائة عام من هذا الصيف ( صيف 2021).
ومع بداية العشرينات ” 1920م”، بدأت تتشكل ملامح انهيار مشروع الاستعمار الأوروبي في إفريقيا، بحيث لم تعد الشعوب المستعمرة تستسيغ، وإن كانوا قد رغبوا في ذلك من ذي قبل، فكرة أن يكونوا تحت حكم ملوك أو دكتاتوريين أو وزراء من العواصم الأوروبية لم يلتقوا بهم أبدًا ويجهلون كل شيء عن أرضهم وثقافتهم.
وكان شمال إفريقيا، على وجه الخصوص، يشهد حالة من التقلبات بفعل الكوارث الناجمة عن الحرب العالمية الأولى. وتبعا لهذه التقلبات، كان الحكم الاستعماري على وشك أن يصل إلى خاتمته المؤلمة. لقد احتلت إسبانيا وفرنسا أراضي مغربية لمدة طويلة، لكن شعوبها المتنوعة كانت تقاوم دون هوادة.
وفي عام 1921، اندلعت الحرب بين الإسبان والقبائل الأمازيغية في جبال الريف. وشكلت هذه الفترة بالنسبة للإسبان نقطة تحول ليس فقط في طموحاتهم الاستعمارية بل أيضًا في مستقبل بلادهم بأكملها.
إن الهزيمة القاسية التي منيت بها إسبانيا خلال الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898، أدت إلى نهاية الحكم الإسباني في الأمريكتين وفقدانها للأراضي؛ خاصة في الفلبين بالمحيط الهادئ الغربي. في المقابل، كان ألفونسو يائسا من حفظ ماء وجهه، خاصة أنه كان في وضعيةٍ مُذلةٍ بعد تلقيه الدعم العسكري الفرنسي في المغرب. أما فيما يخص الأوضاع الداخلية للبلاد، والتي كانت تعيش على وقع صعود الجمهوريين وسقوط حر للاقتصاد واحتجاجات مشتعلة بسبب الفقر والبطالة، شهد ألفونسو تعاقب حكومات مختلفة بلغ عددها 33 حكومة في الفترة الممتدة بين 1902 و 1923. ومع ذلك، لم يقم بأي إجراءات تُذكر لمواجهة هذه الأوضاع سوى تعميق تدهور سمعته المتهاوية بسبب تدخله المستمر في شؤون البرلمان.
واِرْتَأَى الملك أن نجاحًا عسكريًا متميزًا من شأنه أن يُحول انتباه الناس عن المشاكل المحلية والإحراجات الدولية. ولتحقيق هدفه، كان مستعدًا للقيام بذلك رغم أنف الكورتيس (البرلمان الإسباني).
بعد اندلاع حرب الريف، قام الملك ألفونسو بإرسال “تلغراف” إلى الجنرال مانويل فيرنانديز سيلفستري، الذي كان على رأس فيلق عسكري بالقرب من أنوال في وادي قبيلة “ايث وليشك” بشمال شرق المغرب. وجاء السطر الأول من التلغراف على الشكل التالي: “يحيا الرجال العظماء”. وأمر الملك الجنرال سيلفستري بشن هجوم ضد معاقل مقاومي حرب العصابات الأمازيغ في جبال الريف. وكان من المفترض أن يتم الإعلان عن الانتصار في هذه الحرب يوم الاحتفال بعيد القديس جيمس (المعروف بيعقوب الكبير)، القديس الحامي لإسبانيا، الذي يصادف 25 يوليوز من تلك السنة.
كان هذا القرار خطأ كارثيا، حيث أنه وبِغض النظر عن النقاش الحاد حول الآراء المؤيدة والمعارضة لهذه المعركة التي لم يسمع عنها إلا قليلون خارج إسبانيا أو في المغرب. وفي خضم التقلبات التي عرفها المصير السياسي بإسبانيا، فإن الأحداث التي جرت في صيف عام 1921 أدت بشكل مباشر إلى اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية وقيام النظام الشمولي لفرانكو بعد 15 عامًا من معركة أنوال.
إن معركة أنوال، التي اندلعت شرارتها في 21 يوليوز 1921، كانت كارثة بكل المقاييس، بل كانت مزيجا من العجز والصَّلَفُ. وفي هذا الصدد، وصف المؤرخ أنتوني بيفور هذه المعركة بأنها “مثال كلاسيكي على الفشل العسكري”.
وقام الريفيون بطرد الغزاة، إذ قاوموا تحت قيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، المعروف بشكل أكثر باسم عبد الكريم، والذي شغل سابقًا منصبا حكوميًا في النظام الاستعماري بمليلية.
ولما كان الجيش الإسباني محاصرا على بعد أكثر من 100 كيلومتر من القاعدة العسكرية في ساحل مليلية بدون خطوط إمداد أو وسائل اتصالات، كان الجنرال سيلفستري متحمسًا ومصرًا على إرضاء الملك.
بل أكثر من ذلك، فقد عصى الجنرال سيلفستري أوامر القائد العسكري وغضّ الطّرْف عن تحذيرات عبد الكريم من الانتقام. وبلغة الأرقام، فقدت إسبانيا ما مجموعه 22,000 جندي في أنوال وفي المعارك التي تلتها أثناء انسحابهم إلى مليلية. وتشكلت حصيلة معظم الضحايا من أشخاص شبه أميين وجنود مستجدين يفقرون للجاهزية والعتاد. أغلبهم كانوا يعانون من حمى التيفوس (الحمى النمشية) أو الملاريا، حيث خارت قواهم الجسدية وتحطمت معنوياتهم وبذلك تحول انسحابهم من أنوال إلى فوضى عارمة.
وعلى سبيل المقارنة، أُبلغ عن مقتل حوالي 800 مقاوم ريفي. وبسبب الفضيحة التي لحقت سيلفستري على خلفية الهزيمة الساحقة في أنوال، من المرجح أنه قد انتحر، على الرغم من عدم العثور على جثته.
وفي مقابل الغلو في التبجيل الذاتي الذي ساد في إسبانيا، إلا أن معركة أنوال تعد حدثا لا مثيل له على مر التاريخ. إذ صرح إنداليسيو، الاشتراكي البارز، أمام مجلس النواب ما مضمونه: “إن الحملة [العسكرية] في إفريقيا تعد، وبدون مبالغة، فشلاً ذريعاً للجيش الإسباني.”
وعليه بات الملك ألفونسو يُلقب بـ “الأبله الإفريقي” من قبل النقاد، بعدما أثار الغضب بتصريحاته إبان معركة أنوال بأن “لحم الدجاج رخيص”. وعندما كان يقضي عطلته في فرنسا، لم يكلف نفسه عناء العودة لمقابلة عائلات الجنود الذين لقوا حتفهم في الحرب، كما أنه لم يقدم أية عروض من أجل دفع فدية الأسرى.
بالإضافة إلى ذلك، عم غضب عارم أرجاء إسبانيا تجاه الملك ألفونسو والجنرالات الغارقين في متاهات الكسل، الذين ينعمون برغد أنماط الحياة الاستعمارية، ويتعاطفون من بعيد مع المجندين الذين يتكبدون تبعات سوء التغذية وتسلط القمل.
إن استمرار حرب الريف وارتفاع خسائر إسبانيا، أدى إلى ظهور تباينات في وجهات نظر الرأي العام الإسباني. وفي العام الموالي، شرع الكورتيس (البرلمان الإسباني وقتئذ) في فتح تحقيق حول ما أطلق عليه الإسبان اسم “كارثة أنوال” (Desastre de Annual).
لقد تورط ألفونسو في الأمر، ولكن قبل نشر التقرير في عام 1923، تمرد الجنود الذين كانوا متجهين نحو المغرب، في حين رفع المحتجون أعلامًا ريفية وكاتالونية في برشلونة وغيرها من الأماكن، وأقدموا على إحراق الأعلام الإسبانية في نفس الوقت.
وفي 13 سبتمبر من نفس السنة، استولى الجنرال العام ميغيل بريمو دي ريفيرا، جنرال ألفونسو في كاتالونيا، على السلطة، مما أدى إلى حدوث تحول في صفوف الجيش. وحوصر الملك ألفونسو وقدم دعمه للانقلاب عَلَى مَضَضٍ، معتقدًا أن هذا الانقلاب سيحول انتباه العامة عن التقرير القاسي الذي أدانه.
وهكذا تمكن الملك من الحفاظ على منصبه رئيسا للدولة بينما أصبح دي ريفيرا دكتاتورا يحكم فعليًا، حيث أقدم على تجميد الدستور وفرض الحكم العسكري.
من ناحية، كان دي ريفيرا محظوظًا، إذ أثبتت الملكية والإدارات السابقة عجزها، وأدى ذلك إلى قبول توليه السلطة بشكل عام من قبل الطبقة الوسطى الليبرالية التي شعرت بأنه لا يمكن أن يكون هناك شيء أسوأ من الفوضى التي شهدتها إسبانيا في السنوات الأخيرة، فضلا عن الترحيب بإصلاحات دي ريفيرا في الجيش التي كانت تهدف إلى تحقيق الانتصار في الحرب بالمغرب وترسيخ مكانة الجيش في المجتمع الإسباني.
وكان فرانسيسكو فرانكو، ضابط شاب من منطقة جليقية (Galicia)، أحد المستفيدين من هذه الإصلاحات بشكل آني، وشغل منصب المساعد الثاني للفيلق الأجنبي الإسباني وكان مسؤولًا عن تخفيف الحصار عن مليلية في الساحل الشمالي الإفريقي، التي كانت تحت وقع الحصار من جانب القوات الريفية بعد هزيمة أنوال.
وصف سيرجيو باروا مليلية، جندي في صفوف قوات فرانسيسكو فرانكو، قائلاً: “ذكرياتي (في مليلية) هي الرائحة والجثث، وبين كل خطوة جثة هامدة، وفي كل خطوة مزيدا من الرعب.” لكن رغم ذلك، أخفق عبد الكريم في استغلال هذا الوضع للتقدم نحو مليلية، مدركًا أن في مليلية مواطنون من مختلف الدول.
إن تردد عبد الكريم في الهجوم على مليلية أتاح لفرانكو فرصة إنقاذ الآلاف من المدنيين المرعوبين والجائعين و 1800 جندي عصفت بهم الأمراض. وتبعا لذلك، رُقيّ فرانكو لقيادة الفيلق الأجنبي الإسباني، ثم تحصل على رتبة جنرال، ليغدو أصغر جنرال في إسبانيا، وازدادت شعبية فرانكو وتعالى صيت الفيلق الأجنبي الإسباني المعروف بوحشيته.
وأُطلق على جنود الفيلق الأجنبي الإسباني لقب “عرسان الموت”، واعتبروا أنفسهم مخلصي إسبانيا الحقيقيين، وانتشر هذا الاعتقاد خاصة عند ذوي النزعة الاستعمارية والفوضويين. وعلى النقيض من ذلك، كان التقدميون في إسبانيا ينظرون إليهم على أنهم رمزٌ لقومية مقيتة لا تستساغ.
وتعثر نظام دي ريفيرا، الذي كان ناجحا في البداية، بالموازاة مع استمرار الرأي العام في رفض حملات ما وراء البحار. وبناءً على ذلك، تسببت هذه الآراء في تذبذب دعم الحكومة للجيش الإسباني في المغرب، خاصة الفيلق الأجنبي الإسباني.
إن دور فرانكو البارز في الانتصار الأكبر على الريفيين ساهم في بروز شهرته على نطاق واسع. وقد تحقق هذا الانتصار عن طريق حشد ما يقارب 43,000 جندي إسباني إلى جانب نظرائهم الفرنسيين، فضلا عن اعتماد ممارسات حربية لا أخلاقية، التي تمظهرت في اللجوء إلى العتاد الألماني في قصف القرى الريفية باستخدام الغازات.
أما في إسبانيا، وفي ظل استفحال البطالة وانتشار احتجاجات نقابة القطاع الزراعي والتجاري وشيوع اتهامات الفساد وصعود اليسار الجمهوري والقومية الباسكية والكتالونية، انهارت حكومة دي ريفيرا في يناير 1930، والذي توفي بعد شهرين من ذلك.
وفي العام الموالي، شهدت الانتخابات الديمقراطية انتصار الاشتراكيين والجمهوريين، وأعلن عن قيام الجمهورية الإسبانية الثانية، وتراجع الجيش الوطني عن دعمه للملكية، مما أدى إلى نشوب صراع مباشر مع نظرائها الاستعماريين في إفريقيا، وهروب الملك ألفونسو إلى إيطاليا.
وهكذا أصبحت إسبانيا مقسمة إلى فريقين متناقضين. من جانب، كان هناك الفوضويون والفاشيون، والأفريكانيستاس، وملاك الأراضي، والمناطق الريفية في الشمال والشمال الغربي لإسبانيا (بما في ذلك منطقة خليقية “Galicia”، موطن فرانكو)، الذين يتبنون القيم التقليدية للكنيسة الكاثوليكية من ناحية، ويستمدون شرعيتهم من الجذور العميقة للحنين إلى فترة حروب الاسترداد (المعروفة أيضا في المصادر الإسلامية بسقوط الأندلس) علة تحرير إسبانيا من الاحتلال الإسلامي الشمال أفريقي من ناحية أخرى. وفي الجانب الآخر، كان هناك الاشتراكيون والشيوعيون والفوضويون والديمقراطيون والعُدماء والنقابات العمالية، الذين دافعوا عن شرعية الجمهورية الإسبانية الثانية.
وفي ظل كل هذه الظروف، عدة أمور كانت على وشك الحدوث. بالفعل، حيث بعد خمس سنوات من رحيل ألفونسو، وصعود الفاشية في أماكن أخرى من أوروبا، وتصاعد القلق من تشكيل ائتلاف الجبهة الشعبية اليسارية في الكورتيس الذي، وبرئاسة رئيس الوزراء مانويل أزانيا، كبح تأثير القوات المسلحة. بالإضافة إلى محاولة الجيش الإسباني في المغرب تغيير نتائج الانتخابات الديمقراطية لعام 1931.
وتمرد الأفريكانيستاس بعدما تيقنوا لُزوماً من أن انقلاباً شيوعيًا كان وشيكًا.
في البداية، لم يكن فرانكو متأكدا من ما سيقدم على فعله ولكنه اغتنم أول فرصة حظي بها، إذ أعلن التمرد من جزر الكناري، المكان الذي احتضنه بعدما قامت الحكومة بنفيه أملا في تقييد نفوذه. ولما أعلن عن التمرد، عَبَر القادة العسكريون من المغرب إلى الأراضي الإسبانية.
وغدت إسبانيا ساحة معركة للأيديولوجيات المتنافسة خلال السنوات الثلاث التالية، واستمرت الحرب الأهلية حتى عام 1939، ومُورست فيها حرب بالوكالة بين زعيم ألمانيا أدولف هتلر الذي دعم فرانكو، وقائد الاتحاد السوفيتي جوزيف ستالين الذي دعم الجمهورية. وعلى إثره كتب المؤرخ آدم هوشيلد “كانت أول معركة [الحرب الأهلية] في الحرب العالمية الثانية”، بحيث شملت تأثيراتها حياة كل إسباني، بل كانت سببا في مقتل نصف مليون وجرح و نفي أعداد غفيرة من الإسبان. وفي النهاية خرج منها فرانكو منتصرا وحكم إسبانيا حتى وفاته في عام 1975، أي 54 عامًا بعد معركة أنوال.
إن الخيط الرابط بين كارثة أنوال والحرب الأهلية الإسبانية مفتوح على مجال واسع من التقديرات والاحتمالات. ولما كان من الوارد أن يأخذ التاريخ مسارا مختلفًا خلال السنوات الفاصلة، كان فرانكو ممثلا بالصدفة يتخبط خبط عشواء، إلا أنه كان مخرجًا ماهرًا.
وفي الختام، لكل حرب أسباب ونتائج، وساهمت العديد من الأسباب في اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية. ومع ذلك، لم يكن لفرانسيسكو فرانكو أن يذكره التاريخ، ولظل أبد الدهر على هامش تاريخ الجيش الإسباني، لو لم يكن الملك ألفونسو الثالث منغمسا في التباهي أمام رعاياه والذي قاد إلى فشله بشكل لا يصدق.
مصدر النص الأصلي: كتب هذا المقال الصحفي والمدقق اللغوي ميشيل أوهير ” Mick O’Hare” المتخصص في تاريخ رحلات الفضاء وتاريخ الحرب الباردة وسياسات أوروبا الشرقية. ونُشر المقال الأصلي باللغة الإنجليزية على موقع الصحيفة البريطانية “ذا نيو يوروبين” “The New European” بتاريخ 26 غشت 2021″.
ترجمة: سليمان العبدلاوي
رابط المقال الأصلي:
https://l1nq.com/pBTUh