لماذا أدافع عن الأمازيغية والدارجة في التعليم الأولي والابتدائي؟

رشيد الراخا*

لقد تتبعنا جميعا النقاش الكبير الذي أثاره إدراج كلمات من الدارجة المغربية في المقرر الدراسي، وكيف تم الترويج لخطورة الدارجة المغربية على اللغة العربية، اللغة الرسمية للدولة.

ورأينا كيف أن رئيس الحكومة المغربية، سعد الدين العثماني، خرج أخيرا عن صمته، وقال أن هذه الخطوة المتمثلة في إدراج بضع كلمات من الدارجة المغربية في المقرر الدراسي، تحتاج إلى تفكير كبير واستدعاء خبراء في هذا المجال.

ووسط هذا النقاش، يتواصل الصمت عن تدريس اللغة الأمازيغية، ويتواصل تهميشها، وعرف مسار تدريسها الذي بدأ سنة 2003، تراجعات كبيرة، لتتضاعف بعدما أصبحت هذه اللغة رسمية في دستور 2011، بسبب تجاهل حكومتي العدالة والتنمية لتفعيل هذا الترسيم.

ولت حكومة عبد الإله بنكيران، دون أن تقدم شيئا للأمازيغية، بل سجلت خلال ولايتها تراجعات كبيرة، ليتم بعدها تعيين سعد الدين الثماني، الذي طالما عبر عن مساندته للقضة الأمازيغي، رئيسا للحكومة، إلا أن هذا الأخير أيضا وبعد مرور سنة ونصف على تنصيب حكومته، لم يفلح بعد في إخراج القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، ولا المجلس الوطني للغات والثقافة، الذي ستكون له صلاحية الحسم في هذا النقاش حول الدارجة المغربية.

إن سياسة التعريب هذه، التي بدأت منذ الاستقلال، وتستمر حكومة العدالة والتنمية في نهجها، لا تأدي إلى الضرب في مكتسبات اللغة الأمازيغية فحسب، بل تضرب منظومة التعليم بكاملها، وما ينبني عليها من قطاعات أخرى، فحسب آخر الإحصائيات التي أوردها العدد الأخير من جريدة “ليكونوميست”، فإن أكثر من 450 ألف تلميذ غادروا مقاعد الدراسة خلال موسم 2017/2018، وكذلك تصريحات الوزير السابق بلمختار، الذي أكد أن 78 في المائة من خريجي التعليم الابتدائي لا يعرفون القراءة والكتابة، كل هذه المؤشرات وغيرها كثير، تدل على فشل المدرسة العمومية.

إن هذا الفشل الذي أبانت عنه المدرسة المغربية بالرغم من كل المخططات التي نهجتها وزارة التربية الوطنية، وباعتراف من رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين، الذي أكد بأن المدرسة المغربية وسيلة لإعادة إنتاج الفقر والتفاوت الاجتماعي، كل ذلك يستدعي إعادة طرح السؤال، لماذا هذا الفشل المتواصل في المدرسة المغربية؟ أين يكمن الخلل؟

الخلل يكمن في المفارقة الكبيرة بين المدرسة ومحيطها، إذ كما تأكد على ذلك منظمة اليونسكو، لابد من تدريس اللغات الأم والتدريس بها، خاصة في السنوات الأولى من التعليم، فالتلميذ المغربي عندما يلج المدرسة لأول مرة يصطدم بلغة فرنسية أو عربية فصيحة غريبة عن محيطه، ما يولد لديه نوعا من النفور.

ولذلك كان لابد من إعادة النظر في لغة المدرسة المغربية، والسعي لتكريس تعليم حداثي تعددي ومنفتح، أساسه التدريس باللغة الأم، سواء داخل المغرب، أو حتى الدروس المقدمة لأبناء الجالية المغربية بأوروبا، وهنا أستحضر تجربة منظمة دافيد هارت للدراسات الأمازيغية، التي عملت على إخراج كتب مدرسية باللغة الأمازيغي، موجهة لأبناء المهاجرين في أوروبا، وكذلك بعض التجارب المتعلقة بالدارجة المغربية، والتي لو شجعتها الدولة المغربية، لقطعت الطريق عن دعاة الفكر المتطرف الذين يجرون أبناء المهاجرين إلى مستنقعات الإرهاب.

إن الأسباب الحقيقية وراء ضعف الاندماج الذي يعانيه أبناء المهاجرين، ليست مرتبطة في الحقيقة بالدين، وإنما أساسا بمسألة “أزمة الهوية”، فقد أثبتت دراسة ألمانية أنجزها فريق من المتخصصين في التربية خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، أن غالبية الشباب المنحدر من أوساط الهجرة يقعون في أتون الانحراف، لأن “المدرسة الألمانية” ببلد الاستقبال لم تنجح في إدماجهم الدراسي،وكان من نتائج هذه الدراسة تطوير وتطبيق برنامج تعليمي يرتكز على تعليم اللغات والثقافات الأصلية.

وهو ما دفع وزارة التعليم الألمانية آنذاك، إلى عقد اتفاقيات مع الدول المصدرة للهجرة لأجل تعليم تكميلي للغات الاسبانية والبرتغالية والإيطالية والبولونية والتركية والعربية… وكانت النتائج مذهلة: فقد استطاع التلاميذ من أصول إسبانية وبرتغالية وإيطالية… بما في ذلك المسلمين من أصل تركي، من تحسين أدائهم، وتقلصت نسبة الفشل الدراسي بشكل كبير، واستطاعوا بالتالي النجاح في الاندماج الاجتماعي والسوسيومهني، إلا أن ذلك لم يكن هو حال التلاميذ من أصول مغربية، حيث أضحت النتائج أسوأ من ذي قبل.

والجواب يكمن بكل بساطة في حقيقة كون هؤلاء الأطفال من أصل مغربي ليسوا “عربا”، ولم تكن ثقافتهم عربية ولا لغتهم عربية. ولم يكن هؤلاء الأطفال يفهمون ما يلقنه لهم المعلمون المغاربة لأن جلهم أمازيغ من أصول ريفية (شمال المغرب).

إذا كان التلاميذ الأتراك يفهمون جيدا معلميهم الذين بعثتهم حكومة انقرة، فإن التلاميذ من أصول مغربية لم يكونوا يفهمون بتاتا ما يلقنه لهم المعلمون العربفونيون. وقد ساهم هؤلاء المعلمون في تعميق الأزمة الهوياتية للأطفال من أصول مغربية، وتحقيرهم والتقليل من قيمتهم والحكم عليهم بالعيش على هامش المجتمع لتوسيع جيوب الانحراف ومضاعفة شبكات الاتجار في المخدرات، لينتهي الأمر ببعضهم في أحضان الإرهاب ليتحولوا إلى قنابل بشرية.

ولأجل ذلك، وتحقيقا للمصلحة العامة، ومن أجل دمج ناجع للأطفال الضائعين والمقتلعين من جذورهم، كان لزاما توفير معلمين لتعليم اللغة الأمازيغية والتدريس بها.

وتأكيدا على أهمية تدريس اللغة الأمازيغية بحرفها الأصلي تفيناغ، لابد من استحضار تجربة لأستاذ بإحدى المدارس بمدينة مليلية، في ثمانينات القرن الماضي، وبعد شهور من معاناته مع تدريس الحرف اللاتيني للأطفال في سنتهم الأولى، وفي محاولة منه لتدريس الحرف الأمازيغي، اكتشف أن الأطفال يتعلمون هذا الحرفة بسرعة، وكذلك الشأن بالنسبة لتجربة مدرسة.كوم، التابعة لمؤسسة BMCE، التي تدرس الأمازيغية بجدية لتلاميذها، والتي سجلت نجاحا كبيرا في تعليم الأمازيغية حتى في المناطق غير الناطقة بالأمازيغية.

وبحسب دراسة بيداغوجية أجريت على مدرستين بمنطقة الأطلس، إحداهما في منطقة أمازيغية، وأخرة في منطقة مدرجة، وأبانت النتائج على أن معدل الفشل الدراسي خلال السنوات الأولى يكون أكبر في المنطقة الأمازيغوفونية، لكن بعد ذلك يبدأ بالتراجع، بخلاف المنطقة المدرجة التي يستمر فيها الفشل الدراسي حتى بعد السنوات الأولى.

وهذا يدل على أن اللغة الأمازيغية من شأنها أن تستوعب كل العلوم، ومن شأن تدريسها أن يحقق النجاح في اكتساب اللغات الأخرى وكذلك الأفكار التي تحملها، كما هو الشأن في ذلك للعديد من العلماء الأمازيغ، كأجروم الذي ألف في قواعد اللغة العربية، وابن خلدون وبن فرناس، والقديس أغوسطين وغيرهم.

وخلاصة القول أن للتدريس باللغة الأمازيغية والدارجة المغربية أهمية كبيرة من أجل إعادة بناء المدرسة المغربية وتحقيق تعليم جيد، من شأنه تحسين وضعية المغاربة، وبناء دولة حديثة ووطن يسع للجميع.

* رئيس مؤسسة دافيد مونتغومري هارت للدراسات الأمازيغية

شاهد أيضاً

ندوة دولية بأكادير حول أهمية التربة في التنمية المستدامة

افتتحت يوم الاثنين فاتح يوليوز بأكادير ندوة دولية حول موضوع “متجذرة في القدرة على الصمود: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *