يختلف الكتاب حول الغاية من كتابة السيرة الذاتية. منهم من يعتبر كتابتها ضرورية، لأنه من خلالها يمكن أن يعرف القارئ مصادر الكاتب الفكرية، وكذلك تأثيراته في كتاباته، ومساره في الحياة والإبداع. أما الآخرون فيرونها ليست مهمة. لأن ذات الكاتب وتجاربه يوزعها في نصوصه الإبداعية، حيث النصوص الإبداعية هي تجارب للكاتب عاشها، وبعد ذلك يحولها إلى نصوص بالإضافة إلى الخيال وما إليه.
بداية قبل أن أبدأ في قراءة “وعشتها مرتين ..” للكاتب والشاعر الأمازيغي عبد الله المنشوري. كنت أجد تناقصا في كتابة هذا هذا الجنس الذي يسمى (سيرة ذاتية). في القرن الماضي كان جل الكتاب حينما يصلون لعمر معين، أو حينما يشعرون أنهم حققوا كل شيء، وبدأوا يشعرون أن نهاية مسارهم في الكتابة بدأ يقترب يكتبون عن حياتهم وتجاربهم؛ من الطفولة مرورا بالشباب والشيخوخة. بعد ذلك، وفي القرن الحديث حدثت تغييرات كثيرة في الأجناس الأدبية، ومس جنس السيرة الذاتية. صار البعض يكتب السيرة الفكرية، ثم السيرة الإبداعية أيضا. مهمة السيرة الذاتية متعددة. لكن ربما أبرز شيء يقدمه هذا الجنس الأدبي هو أنه لا يؤرخ لحياة الفرد وحده ومساره في الحياة، وإنما أيضا يؤرخ للمكان كيف كان، ويؤرخ أيضا للحياة الإجتماعية لتلك المنطقة التي عاش فيها الكاتب.
حينما نقرأ ما كتبه المنشوري في سيرته، فنحن لا نقرأ حياته فحسب، وإنما حياة الناس الآخرين الذين عاشوا معه، وعاش معهم. وبالتالي نجد أنفسنا في هذا النص أمام سير كثيرة، سيرة المكان، وسيرة الناس أيضا، وليست سيرة الكاتب وحده، رغم أنه ركز على مساره أكثر في جل الفصول. تبدأ الحياة في تماسينت للكاتب حيث خرج للوجود في مدشر من مداشر هذه البلدة. بعد ذلك ينتقل لمكان آخر للدراسة وهي مدينة إمزورن، ثم بعد ذلك الطرد من السنة الأخيرة من الثانوية، وحينذاك يتم الإنتقال إلى طنجة للبحث عن معنى الحياة.
ما تتميز به هذه السيرة الفريدة هي أن الكاتب مزج فيها ما بين الواقعي، وكذلك التخييلي المستساغ الذي يشبه الواقع أحيانا، ويتجاوزه أحيانا. بالإضافة إلى ذلك كتبت بلغة غير صعبة، وبمفردات يمكن أن يفهمها القارئ البسيط.
كل كتاب لا يمكن أن يكون متكاملا. النقائص من أركان العمل الفني مهما كان، لأن صانع الفن بدوره كائن ناقص، وبالتالي من النادر إيجاد عمل إبداعي لا نقصان فيه. وفي هذه السيرة تحتوي أيضا على بعض منها. منها الأخطاء الإملائية. وذلك لم يحدث بسبب تقاعس الكاتب، وعدم تدقيقه أو مراجعته لما كتبه. وإنما ذلك يجعلنا ندخل في واقع آخر، واقع المثقفين العصاميين الذين لا يجدون سندا لإخراج نصوصهم في أفضل حلة. من خلال مجالستي للكاتب، قال لي بالحرف:
- الكتاب كتبته وحدي، ولم يصححه أي أحد.
التدقيق والتحرير يحتاجان لمختص آخر. الكاتب لا يمكن أن يقوم بكل الأدوار. مهمته هي أن يخلق المعنى بالكمات، وأن يبدع باللغة. لكن الظروف تجعله يتقمص أدوارا ليست له، وهو ليس مؤهلا لها أيضا. لذلك تخرج بعض النصوص غير مكتملة. ويضطر الكاتب للتوزيع، وللنشر على نفقته..
في الأخير يمكن أن أقول “وعشتها مرتين..” للشاعر عبد الله المنشوري. هي إضافة حقيقية من نوع خاص في جنس السرد. هي سيرة لكل إنسان عاش في القرن الماضي، سواء كان ريفيا، أمازيغيا، أو عربيا، أو ذو هوية أخرى. وهي سيرة أيضا يمكن أن يجد فيها أي شخص ذاته، وبها يمكن أن يفهم ذلك الماضي المثقل الذي يلفه الكثير من الغموض.