مجموعة اهياضن من فرقة محاربين إلى مجموعة فنية راقصة وبهلوانية

محمد بادرة / الدشيرة – الجهادية

الثقافة والفنون هما أشبه بعمارة مؤلفة من أبنية فكرية شعورية ولاشعورية، وأساسها القاعدي بناء تكاملي وظائفي من الثقافة التأملية والثقافة المعاشة. وللثقافة والفنون وسائل وإمكانيات لا حدود لها لإحياء وانتعاش الذات الحضارية للشعوب، ففي رحمها تنمو وتتوالد أنواع وأنماط من الأشكال الثقافية، منها ما هو شعبي كامن في الذاكرة الجماعية الشعبية، ومنها ما هو غير شعبي كامن في الذات الفردية المبدعة، منها ما هو متعالي ومتعالم ومنها ما هو متعايش ولا كتابي كالثقافة الشعبية التي ينظر إليها على أنها صورة عن المجتمعات اللا كتابية تعبر عن نفسها بوسائط تعبيرية فنية وغير فنية وتتجسد عبر عدد لأمتناه من الأشكال الرمزية التي تمثل شاهدا أو مؤشرا زمنيا عن تاريخها الحضاري الطويل.

والثقافة الشعبية الامازيغية كباقي أشكال الثقافات الشعبية للشعوب المماثلة، هي ذات قيمة حضارية وهي أنساق تعبيرية ودلالية تعبر وتحاكي الواقع والطبيعة بوسائل لسنية وغير لسنية مثل الحركات والرقص والرسم والتشكيل والتمثيل والاحتفال … كلها وغيرها تشكل مواضيع للتعبير عن الذات الفردية والجماعية وتشخص الألم والغبطة والحب والخوف والولادة والموت وتشكل بالنسبة للإنسان الأمازيغي حاجات روحية وطبيعية وتعيش في أعماقه الواعية واللاواعية، ويتم المحافظة على هذه الأشكال التعبيرية بشكل عفوي ومنظم لأنها شبه قوانين رمزية وعرفية تساهم في تنظيم الأفراد والجماعات وتسايرهم مسايرة تامة ودائمة. ومن هذه الأشكال التعبيرية يبدو الرقص الجماعي الشكل الفني الاكثر شعبية وهذا راجع لارتباطه والتصاقه بالإنسان وبالأرض، كما أنه تعبير صادق عن الفرحة الجماعية التي ترافق وتطبع دورة الحياة.

الرقص الجماعي هو لغة دقيقة مكونة من خطى وايماءات وحركات يجهد الراقص عبرها في سبر اسرار الوجود مازجا اندفاعات ومطامح النفس بإيقاعاتها الداخلية في محاولة لفهم النظام الكوني والاقتراب من جوهر الوجود، وبذلك يعتبر هذا النوع من الرقص وسيلة مثلى لتحقيق إدراك أرحب للكون بخلوده وأبديته.

وتعمل المؤسسات الثقافية الوطنية والدولية من أجل المحافظة على هذه الأشكال التعبيرية بشكل عفوي ومنظم لأنها شبه قوانين رمزية وعرفية وهي قابلة وقادرة على التكيف مع كل زمان ومكان وتكشف (في كل وقت وفي كل مظهر من مظاهرها عن حصيلة نتائج التطور التاريخي) أيكه هولتكرانس – قاموس مصطلحات الاثنولوجيا والفولكلور.

ولقد ورثتا عددا من الأشكال الرمزية التي ساعدتنا على إثراء معلوماتنا عن العصور الغابرة عبر أشكال من الرقصات الجماعية (رقصة تسكوين – رقصة احيدوس – رقصة العواد – رقصة اجماك – رقصة احواش – رقصة فرقة اهياضن …) هذه الاخيرة هي فرقة فنية راقصة وبهلوانية مشهورة في منطقة بلاد سوس وتعرف تحت اسم (تروا -ن- سيدي حماد اوموسى) وهي نموذج للرقص الجماعي المتكامل الأركان، من ألحان وايقاعات وأشعار وحركات راقصة وأخرى بهلوانية إضافة إلى رموز وإشارات محاكية لتناغم الكواكب والنجوم ودوران الكون وترسم وتحاكي حركات وجلجلة الحروب والمعارك، وكلها حركات وطقوس صقلتها التجربة ورفعها صدق الأداء إلى جمالية فنية لا ينفد إلى فهمها غير العارفين بهذا التراث.

على الرغم من فقدانها لوظيفتها الأصلية (حيث كانت حركات وتمرينات ورقصات حربية أصلا) وتحولت إلى مظهر فني وثقافي – وفولكلوري مع الأسف-  إلا أن احتفاء الناس بهذه الفرقة الفنية هو بحد ذاته وسيلة مهمة من وسائل الحفاظ على هذا المأثور الشعبي.

فمن هي فرقة اهياضن؟:

محاولة للتعريف العام

فرقة اهياض هي فرقة فنية راقصة داع صيتها في بلاد سوس بل وفي كل أرجاء المغرب، اشتهرت برقصاتها وفرقتها البهلوانية مع ايقاعات مستوحاة من فن أحواش وفن الروايس. يتكون افرادها من كل الفئات العمرية من الذكور خصوصا، ولكل فئة دور خاص داخل المجموعة، منهم المتخصص في الضرب على الآلات الوترية والموسيقية، ومنهم المكلف بالتنشيط الفكاهي، لكن أكثرهم يقومون بالحركات الرياضية البهلوانية، وبها تعرف وتشتهر ( رما -ن- سيدي احماد او موسى).

“ءاهياض” كلمة مشتقة من ( ه–ي– ض ) جمعها ( ءيهياضن) وهي لفظة أمازيغية سوسية يقصد بها كل انسلخ من مجاله ومحيطه الاجتماعي الأصلي، ويعنى بها كل شخص غير خاضع للأعراف والقوانين المحلية (ازرفان) – أي كل شخص فوضوي- صعلوك يعيش على غير هدى – وكل شخص متمرد رافض لما هو كائن وقائم ودائم.

ولذا تنتمي هذه اللفظة “ءاهياض” إلى الحقل السوسيو ثقافي لأنها وليدة سلوك ومواقف اجتماعية واخلاقية، ومن لفظ “ءاهياض” اشتقت لفظة “تهيضت” التي تطلق على حالة اللانظام واللااستقرار واللاطاعة.

محاولة للتعريف الخاص:

لفظة “اهياضن” تعرف عند الخاص والعام وعند جمهور الباحثين  ب “تروا –ن- سيدي احماد اوموسى” او “تروا – ن- الشيخ – ن- تزروالت” المنتسبين للولي “احماد اوموسى” صاحب طريقة الرماية التي كانت تستهدف تكوين رماة مهرة قادرين على مواجهة كل المخاطر الداخلية والخارجية، وكذا أطماع الدول الأوربية المتنافسة على المغرب، فأصبحت الزوايا ذات نفوذ سياسي وقوة عسكرية وسلطة روحية يخشى الجميع بأسها. وكان من بين تلامذة الشيخ “احماد اوموسى التزروالتي” في الرماية الشيخ محمد بن ناصر وشقيقه الشيخ علي بن ناصر الذي أسس زوايا كثيرة كونت من أتباعها المئات من الشبان المهرة في الرماية.

“رما” لفظة معدلة من الكلمة العربية الفصحى (الرماة)، ويظهر أن أصل الاحتفالية كان عبارة عن تقديم حصص من الرمي وسط جو احتفالي، إلا أن هذه الاحتفالية تموج داخل فضاء طقوسي مغلف بالرمز الديني بحكم أن هؤلاء الرماة هم فرقة طائفية لها شيخها الذي يحضر حصص الرمي وهو الشيخ علي بن ناصر وفي سوس بدأت احتفالية “رما” تتراجع وتقترب من الاندثار لانتفاء شروط ظهورها وتطورها وانحسار النفود السياسي والاجتماعي والاقتصادي لزاوية “تزروالت” وغيرها من الزوايا لكن مع ذلك تبقى بعض القرى والمراكز في الجنوب تعرف بين الفينة والاخرى احتفالات وطقوس فرجوية خصوصا حين ينظم معروف “ايت رما” في فصل الخريف ويقتصر تنظيم هذه الاحتفال على الرجال البالغين (ءينازومن) لأن (الرامي) نعني به الشخص البالغ – الذكر – القوي.

مجموعة “اهياضن” هي فرقة فنية راقصة متجولة في منطقة سوس وتضم مجموعة من الشباب المعروفين تحت اسم (اولاد سيدي احماد اوموسى) يترأسهم – مقدم – يتولى تنظيم حفلاتهم وعروضهم الفنية والبهلوانية، ولهم دور كبير في نشر الأشعار والالحان والرقصات الأمازيغية بين قبائل سوس ومن آلاتهم المعتمدة (تلونت) – الطارة – (العواد) – الناي.

وهذه المجموعات الفنية الراقصة الموجودة الآن، ماهي إلا مجموعات منحرفة عن النموذج الأصل، لأن من مبادئ وقوانين المدرسة الأصلية في الرماية أو الحركات الحربية هو الغزو والإغارة والمقامة، ومع الأوضاع الجديدة وتغير الظروف احتفظت فرقة “ءيهياضن” بتلك الحركات الرياضية والفنية والبهلوانية كحركات وطقوس فرجوية خاصة بالإحتفال لا بالإغارة والحرب.

فرقة (رما) هي مدرسة “حربية” أنشات لخدمة الزاوية وتقوية نفوذها السياسي وتوسيعه في منطقة تزروالت أو في كل أرجاء سوس، وتقوم المدرسة بتأهيل وتكوين الرماة حتى يكتسبوا الشجاعة ويضمنوا النصر في المعارك، إنها اشبه بجوقة فنية حربية يقوم أفرادها بتقليد حركات المعارك لضمان النصر فيها: أفرادها يتحركون بسرعة، يؤدون بحركات فنية غاية في الدقة والتعقيد، يصيحون ويصرخون ويجذبون ويتصادمون فيما بينهم لتحطيم معنويات الخصم، يتسلقون أكتاف بعضهم البعض ويكونون بأجسادهم صورة هندسية لقلعة عالية يظنها المشاهد لوحة فنية لكنها في الأصل تدريب وخطة وتنظيم حربي يتمرن عليها الرماة صغارا وكبارا قصد اللجوء إليها عندما تدعو الضرورة إلى تسلق جدار حصن أو قلعة من قلاع العدو.

إن كل عنصر من عناصر فرقة “ءيهياضن” يؤدي الدور الموكول إليه بإتقان وحرفية تامين:

  • رئيس الفرقة أو “مقدمها” وعادة ما يكون “شيخ” الفرقة وحكيمها والمتحكم في تسييرها وتدبير مواردها، يكود طاعنا في السن أو أكبرهم سنا، يتكلف بالتوجيه والوعظ والإرشاد والذكر وهذا النفوذ الروحي يستمده من انتمائه للقطب (احمد اوموسى) وفي تنقله مع الفرقة في الأسواق والمواسم والأفراح يعرض المنتوج الفني للفرقة على الأهالي والأعيان مستعرضا شروط العرض ومدته وطقوس انجازه (إقامة الوليمة – المعروف).
  • ارقاص( المبعوث)، ويكون من الأشخاص البارعين في التفاوض مع الأهالي أو مع ممثليهم (انفلاس)، له قدرة بلاغية وتواصلية لإقناع وجهاء القرية أو القبيلة حتى يوفروا كل المستلزمات لإنجاح موسم الاحتفال والترحيب الخاص بحفدة القطب الصوفي وشيخ الزاوية، وعادة ما تحمل هذه الرسالة “لبريح” طلب الهبات لكل الزوار الذين يحجون إلى موسم الاحتفال مع قضاء مآرب شتى، منها التبرك لزيارة الولي المأتور عنه كرامات ذائعة الشهرة، وأن هذه الطقوس غالبا ما تقام حين يرسم “كور” (سيدي علي بن ناصر) وهو مكان يرمز إلى ضريح “الشيخ” أو “الولي” وفي هذا “الكور” يتم ذبح البقرة أو الثور (معروف رما).
  • “اد بورما” مجموعة من العناصر الشابة والفتية ذات موهبة خاصة في الحركات الراقصة وفي الألعاب البهلوانية وحتى في ترويض القردة والكلاب، يرسمون لوحات فنية أمام الجمهور وعلى أرض رملية منبسطة، ينعتون ب “تربوت نايت رما” وفي مصادر أخرى باسم “تروا – ن- سيدي حماد اوموسى” ومن أهم الألعاب البهلوانية التي يقدمونها: تشكيل هيكل هرمي من الراقصين –القفز على الحواجز- الوقوف المتوازن على يد واحدة – وكل حركة من هذه الحركات تكون مصحوبة بنغمات وايقاعات ملائمة للحركة الرياضية.. كما أن الفرقة البهلوانية تقدم للجمهور الحاضر  في “اسايس” عروضا من الرقص المحلي أو من أحواش القبائل المجاورة حتى يشاركهم الجمهور الإحتفال الجماعي لتذوب تلك المسافات الفاصلة بين الجمهور والفن.
  • المجموعة الموسيقية وتتألف من ثلاثة أفراد أو أكثر يجيدون الإخراج الموسيقي لكل العروض الفنية والبهلوانية والتنشيطية التي تعرض أمام الجمهور الحاضر والمتفاعل وهؤلاء غالبا ما يستعملون ألبنا دير والمزامير والناقوس ويقودهم (مقدم) الفرقة.
  • “بقشيش” أو “شموتيت” وهو (المهرج أو الأبله) وهو شخص تعتمد عليه الفرقة لجذب الجمهور وخصوصا الأطفال والنساء، يتقن تقليد الأشخاص العموميين (الشيخ – المقدم – الفقيه – القاضي – القايد …) والخصوصيين (المرأة – العجوز- اليهودي -) كما يتقن تقليد أصوات الحيوانات أو الطبيعة.

فرقة اهياضن لها قدرة على التكيف مع كل الظروف التاريخية، فمن فرقة محاربين إلى مجموعة فنية راقصة وبهلوانية، يعني ذلك قدرة هذا الموروث الثقافي على الإبداع والتجديد والقدرة على مواكبة ظروف الحياة الجديدة، إن الموروث الشعبي لا يموت وإنما يجدد خلاياه لتمده بالحيوية والاستمرار، وما ينقرض منه بفعل عوامل التغير يتحول إلى موروث مدون أو محنط في صالات العروض المتحفية، وما هو قابل للتجديد يبقى معاشا وشائعا بين الناس يعبر عن وظائف اجتماعية مهمة في حياة الناس سواء كانت نفسية أو طقوسية أو تعليمية أو ترفيهية … وهكذا كانت فرقة اهياضن، في الماضي كانت حاجة حربية تم تطورت مع الزمن الجديد فأصبحت حاجة اجتماعية وثقافية.

اقرأ أيضا

أكادير: المنتدى التربوي الجهوي للّغة الأمازيغية يختتم فعالياته بتوصيات هامة وتكريم وجوه تربوية بارزة

احتضنت قاعة الندوات بالمدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بأكادير، اليوم الثلاثاء 21 يناير 2025، فعاليات الدورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *